من يتابع ما يحدث منذ فترة لبعض رجالات ونساء عالم الفكر والفن والثقافة والصحافة في الوطن العربي، وخصوصا في بلدان ما يوصف بالربيع العربي، من تضييق ومن رفع دعاوى ودعوات لدى المحاكم ومن تهديد بالسجن حتى قبل إصدار الأحكام من طرف القضاء ضد هذا الفنان أو تلك الفنانة، ومن تهجم على هذا الكاتب أو الصحفي أو الروائي ووصفه بالتكفير والزندقة، يحس دون شك أن العرب يعودون بسرعة فائقة إلى الوراء بحيث أنهم صاروا للأسف لا يعرفون إلا الركض السريع إلى الخلف مغمضي العيون بعد أن افتقدوا البوصلة التي تقودهم نحو الأمام، ذلك أن الرؤية لديهم قد تحوّلت إلى حالة ضبابية مستديمة. فأية ردة هذه التي أصابت بعض بلدان الربيع العربي خصوصا، وقد بات أهل الفن والفكر والثقافة عموما يتعرضون لإرهاب فكري مقيت ومدانين من طرف بعض من يوصفون بالسلفيين الذين خرجوا من جحورهم بعد أن ظلوا في القبو سنوات، مثل أهل الكهف تماما مع الفارق الزمي والإيماني والعددي بينهم وبين من كان ستة وسابعهم كلبهم الذين لا يعلم عدد السنين التي قضوها في الكهف إلا الله. لقد ظننتُ حتى ولو كان موقفي سلبيا من بعض ثورات الربيع العربي أن هذه الثورات ستحمل لنا مع ذلك رياحا جديدة للتغيير الجميل بعد أن أنهت من قاموسنا العربي ما عرف بحكم الجُملكيات، وكان ظني مع الكثير من المتفائلين بالتغيير، أن ما حدث من تغيير قسري عن طريق الجماهير في طبيعة وشكل بعض الأنظمة سيكون من العناصر المشجعة لحرية التعبير ولإثراء الفكر الذي تحجر لسنوات، وأن كل ذلك سيعمل على دفع الثقافة ورجالاتها ونسائها ليكونوا في مراكز سلطة القرار بعد التهميش الذي طالهم، وأن هذا يكون عنصر تشجيع للإبداع والفن، بل وأن هذا التغيير لن يعيدنا إلى زمن الردة الفكرية والثقافية وتكريس منطق الرجالات المحيطين بأصحاب تلك الجملكيات المورثة من طرف بعض الرؤساء والقادة العرب للأبناء والإخوة والمشجعة على فساد النظام خصوصا من قبل الأهل والأقارب، كما رأينا في الحالتين التونسية والمصرية، حيث كان أقارب الرئيسين السابقين بن علي ومبارك وأقارب زوجتيهما قد استحوذوا على مختلف المؤسسات والمعاملات والنشاطات التجارية، وشكلوا لوبيات للفساد المالي والرشوة وشراء الذمم، بل وراحوا يتنافسون بينهم من يكسب أكثر ومن يحيط نفسه بلوبيات أقوى وأكثر نفوذا في مختلف دواليب السلطة، وقد كانت هذه المظاهر تتمدد كالسرطان في العديد من الأنظمة الجملكية العربية التي كانت بدورها آخذة في التوسع والانتشار والتشكل للتأسيس شبه المقنن بل المدستر لتلك الجملكيات. بل إن تلك المظاهر قد أرجعتنا إلى عصور الجهل والظلام التي عاشتها أوروبا، حيث كانت الكنيسة تتحكم بشكل مطلق في مختلف دواليب الدولة ويتحكم قساوستها وكهنتها في كل صغيرة وكبيرة من منظومة الحكم، حيث كان العلماء مغيبون، فالعالم إن جاهر بمعارضة الكنيسة تلصق به جميع التهم التي قد تعرضه للمقصلة، بل إن العالم يُقتل أو تُسحل عيونه لمجرد أنه قال إن الشمس تدور حول الأرض أو أنه جاهر برأي علمي اعتبره بعض رجالات الدين والكنيسة هرطقة وكفرا دينيا، بينما كان علماء العرب خاصة المعتزلة منهم وخصوصا أمثال الخليفة المأمون والجاحظ وابن الراوندي ونجم الدين الرازي يجابهون كل الأفكار المتحجرة والمتخلفة التي كانت ترميهم بالزندقة والإلحاد، وهذا بالدعوة إلى تحرير العقل وإشاعة العدل الاجتماعي بين الناس جميعا. ولكن كم خاب ظني في بعض من حركت فيهم هذه الثورات أملا نرجو ألا يكون وهميا مثله مثل السراب الذي يغري العطشان بشربه إذ يحسبه ماء وما هو بماء. بدأت الحملة منذ فترة ولكنها ازدادت قوة وشراسة منذ انتخاب الرئيس المصري محمد مرسي، وكان من بين من طالتهم الفنان الكبير عادل إمام، حيث رُفعت ضده دعوى لدى محكمة الجنح المصرية بسبب ازدراء الأديان، كما زُعم من قبل الذين حركوا مثل تلك الدعاوى، ولو تمت الإدانة لقضى عادل إمام في السجن ثلاثة أشهر على الأقل بسبب تلك التهمة الكبيرة. لكن محامي الممثل قالوا من بين ما قالوا لكي يفلت إمام من العقاب، إنه ليس لا صاحب النص ولا مخرج ذلك النص، والأكثر من هذا أن النص كانت لجنة الرقابة، وهي لجنة تضم في معظمها أناسا معينين من مؤسسات الدولة، قد قبلته قبل ذلك، فقد كان الأجدر أن تصدر المحكمة أحكامها على هذا الجيش العرمرم وتقتل بذلك كل مبادرة إبداعية في المستقبل تحت أية طائلة كانت من طرف أصحاب هذه الفتاوى. وطالت هذه الحملة حتى الفنانة القديرة الحاجة يسرا في شرفها بالادعاء أنها ضاجعت الفنان عادل إمام، وكأن من اتهمها بذلك كان “الشاهد اللي شاف حاجة"، وأنه كان يحمل لهما الشموع في ليلة مظلمة، كما نقول في الجزائر بشأن كل من يرمي البعض بمثل هذه التهم الكبيرة. ربما يقول لي أحدهم وما دخلك أنت والقضية مصرية مصرية تماما كما قالها الزعيم السوفيتي الراحل خروتشوف في ستينيات القرن الماضي عندما كان على رأس الإتحاد السوفيتي للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، إذ حسب رواية الصحفي المصري الكبير هيكل، فأثناء لقاء بين وفد كان يترأسه بموسكو خروتشوف وبين وفد مصري برئاسة الزعيم الراحل عبد الناصر راح هذا الأخير في فترة عُرفت بنقد سوفيتي لاذع لحكم ستالين ولفترته يوجه انتقادا لاذعا للفترة الستالينية ويصفها بأقذع الأوصاف والنعوت جريا على النقد الموجه وقتها لستالين. ويبدو أن عبد الناصر كان ينتظر أن يثني عليه صديقه خروتشوف وهو ينتقد ستالين وحكمه، لكن خروتشوف راح يقول لعبد الناصر إنه ليس من حق أي أجنبي ولو كان صديقا لنا أن ينتقد ستالين لأنه في النهاية زعيم سوفيتي!!. ثم توقف قليلا وراح يخاطب عبد الناصر في عتاب قوي ربما يكون جزء منه للاستهلاك المحلي: سيدي الرئيس نحن أحق من غيرنا بنقد ستالين دون تدخل من الآخرين حتى لو كانوا أصدقاءنا. وعندها سكت عبد الناصر ولم يضف شيئا. ومع ذلك فإنني وأنا المهوس بانتمائي للعالم العربي الذي يكاد البعض يقتل فينا روح الانتماء إليه أجدني أقول إنه، إضافة إلى غيرتي على مصر مثل غيرتي الكبيرة على بلدي الجزائر، فإنني أعتبر أن الوطن العربي هو امتداد لبعضه البعض وأن ما يصيب مصر من محن يصيب باقي الوطن العربي مشرقا ومغربا على السواء. لقد سبق لنا نحن في الجزائر بالذات أن عانينا وحدنا في تسعينيات القرن الماضي على الأخص مرارة مثل هذه الحالات التكفيرية لأهل الفكر والفن قبل أن تشرع آلة الإرهاب في تصفيات جسدية رهيبة لصفوة من رجالات العلم والفكر والفن والثقافة من أبناء وبنات الجزائر عموما في وقت كان فيه بعض إخواننا العرب يتفرجون علينا، وكان البعض الآخر يقول فلنجرب حكم هؤلاء الإسلاميين بالجزائر حتى نرى النتيجة، وكانت النتيجة أن النار إذا اشتعلت في ركن من البيت فإنها ستعم البيت كله. وأكاد أستحي اليوم إن قلت إن بعض إخواننا العرب، سامحهم الله، كانوا يتشفون فينا ودماء أشقائهم الجزائريين تسيل نتيجة فتاوى مغلوطة وظالمة أكثرها كان مُصدرا إلى البلد من خارج الحدود، ولا أريد أن أمسّ الجرح من جديد وقد تعافت الجزائر، والحمد لله، بفضل الوئام، ثم المصالحة التي كانت في بدايتها تعتبر كذلك عملا مستحيلا من طرف بعض الأجنحة بما فيها أجنحة كانت نافذة داخل النظام وكانت ترى أن حل المأساة الوطنية لا يكمن إلا في الجانب الأمني منه، وفق ما كان يوصف ب “نظرية الكل أمني". لم تقتصر هذه الظاهرة المرعبة في بلدي على تكفير المثقف والفنان ورميه بالزندقة وبكل أشكال التكفير فقط، بل إنها تعدت ذلك إلى الاغتيالات الشنيعة التي طالت العديد من الأسماء الكبيرة في عالم الفكر والفن والثقافة والصحافة، كما امتدت إلى أئمة أجلاء اغتيلوا بكل جبن وغدر خلال التسعينيات وهم فوق منابرهم يؤمّون المؤمنين والناس راكعون ساجدون في المساجد. ففي ظل الأزمة التي عاشتها الجزائر تم اغتيال مثقفين كبار من أمثال الدكتور الجيلالي اليابس عالم الاجتماع الكبير الذي كان يشغل في تلك الفترة منصب مدير معهد الدراسات العليا والاستراتيجيات، وكان قبلها وزيرا للتعليم العالي والبحث العلمي، كما جرى اغتيال عدد من الفنانين الكبار من أمثال المسرحي الكبير عبد القادر علولة والممثل الإذاعي والمسرحي عز الدين مجوبي وأسماء كبيرة أخرى من بينها عدد من الصحفيين الكبار والمسؤولين في قطاع الإعلام والاتصال من بينهم مصطفى عبادة المدير العام الأسبق للتلفزيون، ومحمد عبد الرحماني المدير الأسبق لجريدة المجاهد اليومي، والكاتب الطاهر جعوط وعمر أورتيلان رئيس تحرير صحيفة الخبر... وغيرهم. واللافت للنظر أن تلك الاغتيالات مست الجميع دون استثناء سواء من كان يساريا أو كان مؤمنا ومتدينا، فقد كان الاغتيال يطال كل من كان يقف في الاتجاه المعاكس لاتجاه تلك الجماعات الضالة المضللة التي لم تكن تعرف من وسيلة إلا اغتيال كل من يخالفها الرأي أو يعمل في أي جهاز من أجهزة الدولة حتى لو كان عامل تنظيف في إحدى مؤسسات الدولة. ويبدو لي أن هذه الردة الجديدة التي يواجها أهل الفكر والفن والثقافة عموما باتت واحدة من العناصر الباعثة على ضرورة تضامن الرجالات والنساء الذين يصنعون الأفكار الجميلة ويبدعون في شتى المجالات حتى لا يعود مجتمعنا العربي إلى الوراء، وحتى لا يهيمن أصحاب الردة الجديدة على الحياة ويصنعون لأطفالنا وللأجيال الحالية واللاحقة عالما لا يرونه إلا من خلال منظورهم الضيق للفكر وللحياة عموما، إذ تغدو المرأة عندهم مجرد عورة، والفن والجمال والإبداع فسوق وبدع وضلالة، والاختلاف مع الآخر كفر وزندقة وإلحاد وخروج عن الشرع والإجماع، وكأن أفكار هؤلاء باتت تشكل إجماعا من الأمة وأن أفكار الآخرين حتى لو كانت أفكارا معتدلة تستند للعقل وللمسائل العلمية والفقهية هي خروج من الملة. وكأني بشاعر المهجر إيليا أبو ماضي يحذر من فكر هؤلاء الذين يكادون يسوّدون لنا الحياة وينفرون الناس من الفن والجمال بقوله: والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئا جميلا.. ليس أشقى ممن يرى العيش مرا ويظن اللذات فيها فضولا فتمتع بالصبح ما دمت فيه لا تخف أن يزول.. حتى تزولا.. بقي أن أقول لهؤلاء: يا دعاة الردة الثقافية في مصر وفي غير مصر توقفوا ولا تقتلوا الفن والثقافة بعد أن قُتل الكثير من أهلها هنا وهناك، ولا تسيئوا للإسلام الذي كان وسيبقى دين علم وعقل وجمال وإيمان. فيكفي أوطاننا ما عانى فيها المثقفون من قتل وتضييق، ويكفي شعوب بلدان هذا الربيع العربي البراق، وخصوصا مصر العزيزة على قلوبنا، إزاء ما هي فيه الآن من مليونيات مساندة ومليونيات مضادة تاه فيها المواطن البسيط عبر الشعارات التي لم تعد تعطيه الخبز المفقود وضيعته في زمن هذه الفوضى السياسية البائسة التي تفننوا في وصفها ظلما بالفوضى الخلاقة!!