عبد العالي رزاقي كان شعار المجاهدين وأنشودتهم المفضلة حين حرب التحرير "احنا ثوار يا فرنسا ما ناش فلاڤة"، ردا على وصفهم ب"الإرهابيين". وبالرغم من أن تعبير الإرهاب من المفردات الدينية الإسلامية التي تعني التخويف، فإن الأدبيات السياسية بعد الحرب العالمية الثانية كانت تروج لثقافة الغالب، وتطلق صفة الإرهابي على من يقاوم أو يعارض ذلك. وحملت كلمة "الإرهاب" مضمونين متناقضين يعبر أحدهما عن المناهض للتوجه الاشتراكي والآخر للمعارض للتوجه الليبرالي، ويبقى ما يجمع مضموني المصطلح هو "الجريمة المنظمة". ومع ذلك يبقى سؤال يحيّرني وهو: هل هناك إرهاب "مفترى عليه" بعد الثلاثاء 11 سبتمبر 2001؟. إرهاب شيوعي وآخر إسلامي الاعتقاد السائد عندي هو أن التسويق للإرهاب يحمل الكثير من سمات الدول العظمى، باعتبار أن هناك إرهابين مختلفين أحدهما يستهدف الفكر والثاني يستهدف الجسد. وكلاهما إنتاج: أمريكي - غربي وسوفياتي. كان السيناتور الأمريكي جوزيف مكارثي من الداعمين لمحاربة الفكر في الثقافة والفن الأمريكيين، فقد أنشأ لجنة تحقيق مع كبار الكتاب والمبدعين الأمريكيين بتهمة أنهم يروجون ل»الشيوعية« داخل هوليوود، وذلك خلال صيف 1953، وهو يذكرنا بمحاكم التفتيش المسيحية الكنسية التي ظهرت في إسبانيا، وخاصة في الأندلس، بعد سقوطها مباشرة. هذا الحلم المكارثي تحقق بعد 33 سنة، حيث أنشأ الرئيس رونالد ريغان "مركزا لمكافحة الإرهاب" تابعا ل"سي، أي، إيه" ولم يكن مصطلح الإرهاب يتجاوز "الجريمة المنظمة" في الحرب الباردة بين الدولتين العظميين. وبمجرد وقوع شرخ في "جدار برلين" تعب الدب السوفياتي من مطاردة "العم سام". ووجدت أمريكا في ظمإ الشباب المسلم إلى قيام الدولة الإسلامية ما تنشده لتفكيك الاتحاد السوفياتي، وإعادته إلى "حجمه الروسي القديم". وصاحب هذه الفترة موجة من الأبحاث والدراسات والآراء حول خطر الإسلام، فرأى فيه نيكسون ما يهدد أمن العالم الحر، ورأى فيه آخرون بذور صحوة محتملة قد تطيح بالأخلاق المسيحية. كانت فكرة الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر "الآخر هو جهنم" هي مهر الصراع بين الشرق والغرب، وكان محور الصراع هو الدين، ولأن الدين في الفكر الماكسي هو "أفيون الشعوب"، كما قال ماركس ليس لينين فقد وظف الغرب الكنيسة والمسجد ضد النظام السياسي الذي كان يساند حركات التحرر في العالم وهو الاتحاد السوفياتي، بغض النظر عن الهدف من ذلك. صارت منابر المساجد في دول الخليج وخاصة السعودية تغذي الطرف بمحاربة الشيوعية والفكر الإلحادي. كان الإرهاب من المصطلحات الأكثر تداولا في الصحافة الدولية بمضمونه الحقيقي وهو "الجريمة المنظمة"، لكن الدول المحتلة كانت توظفه لإضفاء شرعية على وجودها، فكانت فرنسا تسمي المجاهدين ب"الإرهابيين". وكانت إسرائيل وأمريكا تطلقان على الفصائل الفلسطينية صفة الإرهاب، بل إن أمريكا فتحت قوائم وخانات لتصنيف المنظمات وحركات التحرر ورموز الثورات أو الكتاب ورجال السياسة ممن لا تستطيع الوصول إليهم بدءاً من الرئيس فيدال كاسترو إلى معمر القذافى. وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي وهيمنة أمريكا على مصير العالم، تحولت دلالة المصطلح إلى "الوطن العربي الإسلامي" وبمجرد ما وقعت أحداث الثلاثاء 11 سبتمبر 2001 ، صار لفظ الإرهاب مقترنا ب"الإسلام"، بالرغم من أن ما جرى في الجزائر خلال (92 - 1999) كان إبادة، ومع ذلك تحفّظت أمريكا وألمانيا اللتان لم تصب جاليتهما في الجزائر بأذى، إزاء إطلاق كلمة إرهاب على مرتكبيها. لكنها فيما بعد صارت تدعو إلى محاربة "الإرهاب الإسلامي"، وكأن للإرهاب دينا أو جنسية، وتجنب وصفه ب"الجريمة أو الإبادة" أو تحديد مفهومه حتى يتم التفريق بينه وبين المقاومة وحركات التحرير. صار الشيشانيون إرهابيين في نظر الأمريكيين والروس، وصارت المقاومة الأفغانية والعراقية والصومالية مجرد أعمال إرهابية. صحيح أن أمريكا كانت تنسب الإرهاب خلال الحرب الباردة إلى الشيوعيين، والاتحاد السوفياتي كان ينسبه إلى أمريكا، ولكن اليوم يتفق الجميع على أنه "إرهاب إسلامي"، فهل يحق لنا أن نسكت إزاء ذلك. أوَليس هذا افتراء على الإسلام والمسلمين؟. حين تصير الفتوى "تجارة وسمسرة" استغلت أمريكا المسجد لإصدار الفتاوى في تجنيد الشباب لمحاربة الشيوعية، مثلما استغلت فرنسا بعض الزوايا في دعم وجودها في الجزائر، فقامت بإعفاء شيوخ زوايا من دفع الضرائب مثل شيخ تماسين رئيس الطريقة التيجانية الذي قال عنه "شانزي" أمام المجلس الأعلى الفرنسي عام 1871 إن "نفوذه مفيد جدا لقضيتنا". وهذا لا يعني أن الزوايا كانت تؤيد الاحتلال، والدليل أن الزاوية السنوسية وقفت إلى جانب ثورة بوعمامة، ولكن فرنسا وظفت "الفتاوى" لصالحها. ولأنه لا توجد مرجعية واحدة للفتوى في الأقطار العربية والإسلامية، فقد صارت "الفتوة تجارة وسمسرة". ولعل الكثير من أعمال العنف مرجعها إلى غياب" المرجعية الدينية" للفتاوى. وتحضرني قصة الشاب الأزهري علي عبده إسماعيل الذي قاد جماعة تكفيريه وحين أقنعه المرشد العام للإخوان المسلمين حسن الهضيبي عام 1969، اجتمع بمريديه وقال: "إننى أخلع فكرة التكفير كما أخلع جلبابي". واعتقد أن انتشار فكرة "التكفير" في الأقطار العربية والإسلامية يؤكد فشل المؤسسات الدينية في نشر الوعي الديني الصحيح. فالقرآن الكريم الذي حرم قتل النفس بصريح العبارة تجاوزته الفتاوى، وهو ما يعني أن التجارة بالفتاوى شوهت "الإسلام والمسلمين"، فالذي ينتحر على أمل الدخول إلى الجنة يستند في انتحاره إلى فتاوى "شبانية" يعتقد أنها تستند إلى كتب ومراجع لرموز "التطرف الديني" أكثر مما تستند إلى القرآن الكريم والسنة. ومن يقرأ الصحف أو يستمع إلى الاذاعات أو يشاهد التلفزيون لا يستطيع أن يفرق بين الفتوح والوعظ الديني والإرشاد والتوجيه. ومن يتوقف عند القضايا ذات البعد الديني، في مصر بالذات، يتساءل: من المسؤول عن "الإسلام" هل طلبته في الأزهر أم مؤسساته الدينية؟ فتوى لكل جزائري ومن المفارقات العجيبة، أن انتشار الفتوى خلال الأعمال الإجرامية (92 - 1999) كان مصدره بعض الشخصيات الإسلامية في أقطار عربية وأوربية، وأن ناقلي الفتاوى في الجبال لم يكونوا من خريجي المعاهد الدينية، بل كانوا شبانا من الطبقة الوسطى مثل الشاب الشريف قواسمي الذي أنشأ الجماعة الإسلامية المسلحة، أو الشاب الذي أنشأ "الجبهة الإسلامية للجهاد المسلح "عام 1993 بهدف اغتيال المثقفين. ومن غرائب الصدف أن تلتقي جماعة "سيد قطب" مع التكفيريين في الجزائر، إلى جانب جماعات أخرى ب(قرآن أفغاني) الذي اطلعت على إحدى نسخة المطبوعة في باكستان، وتقود حربا ضد المسلمين الأبرياء. ولاحظنا كيف تحول القتل والجرم إلى صناعة ب(فتوى دينية) حتى صار كل من يفكر بصوت مرتفع "كافرا" أو "طاغوتا". والسؤال الذي كنت أطرحه ومازالت: لماذا لم تفكر سلطة أحمد بن بلة، وهواري بومدين والشاذلي بن جديد، ومن جاء بعدهم من السلطات في إنشاء منصب المفتي العام أو مفتي الجمهورية. ولماذا يتقاسم الفتوى الموظفون التابعون لوزارة الشؤون والخارجون عن وصايتها؟ وبالرغم من أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة قال في خطاب له بتاريخ 29 ماي 1999 مايلي: »أتوجه رسميا إلى أولئك الذين عادوا إلى الله وإلى الأمة وأقول جازما، إنني على استعداد لاتخاذ جميع التدابير والإجراءات الضرورية لتمكينهم من العودة إلى حظيرة الوطن"، إلا أنه لم يبادر إلى وضع حد لانتشار الفتوى ما بين وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية، وما بين المجلس الإسلامي الأعلى ووزارة الشؤون الدينية. إن تعدد مصادر الفتوى إلى ب(الجاهل) إلى الاستناد في فهمه لبعض الظواهر، إلى أشباه رجال الدين حتى صار من يبيعك "عسلا" مفتيا، ومن يبيعك خروفا مفتيا، وحتى من يتاجر بالحرام يمنعك من شرائه خلال أوقات الصلاة بفتوى. ويخيل لي أن سبب استمرار العمل الإجرامي في الجزائر أحد عوامله غياب المصدر الرسمي للفتوى في الجزائر. ما الذي يمنع الرئيس بوتفليقة من تعيين الشيخ القرضاوي مفتيا عاما للجمهورية الجزائرية أوليس شخصية إجماع لعلماء المسلمين، وما الذي يمنع الدول العربية من اختيار أمثاله ليكونوا لنا قدوة، وللأجيال الصاعدة منارة. ما يؤسف له أن "غياب الفتوى الرسمية" في الجزائر وزع دم الجزائريين على مجرمين يتاجرون بالفتوى أو سماسرة لها. لو كان للجزائر مفتي عام لقامت وزارة الشؤون الدينية بوظائفها التنفيذية لمراقبة الكنائس والمقابر المسيحية واليهودية بحكم أنها ملحقة بها، لا أن نتحول إلى "إدانة التبشير" و"التخويف منه" وهي التي تشرف على مؤسساته رسميا. لو كان للجمهورية مفتي لما لجأ المواطنون ب"مشاكلهم" إلى المجلس الإسلامي الأعلى أو إلى موظفي وزارة الشؤون الدينية أو شيوخ الدين في الصحافة الوطنية أو جمعية العلماء المسلمين. لكن مادام الكل مستفيدا من تعدد مصادر الفتوى ومن عدم تحمل المسؤولية، فمن الطبيعي أن تنتشر التجارة بالفتوى حتى في أوساط "الترابندو"، والمحلات التجارية... فمتى تدرك السلطات الجزائرية أن تعيين مفتي للجمهورية هو خطوة نحو تحجيم أصحاب الفتاوى وتوحيد الجزائريين، ووضع حد ل"الشعوذة" باسم الدين.