في آخر أيام حياته القصيرة، والقصيرة جدا، والتي لم تتجاوز الخامسة وعشرين سنة، لكنها كانت مفعمة بدلالات الإبداع وعمق رؤيته للوجود وأسئلته الحارقة، كنت قد كتبت مقاربة نقدية عن قصيدة للشاعر الراحل كريم حوماري، كان قد نشرها - أي القصيدة موضوع المقاربة - في جريدة العلم، قبل رحيله بأيام معدودة جدا، حملت عنوان “يحفر الليل قبري وينام". أعجبتني القصيدة كثيرا واعتبرتها نقلة نوعية في مساره الإبداعي، لهذا الاعتبار بالتحديد كتبت عنها ما كتبت، ولأنه كان ملازما لي، يسكن في بيتي ويظل بالأيام نتقسم الخبز والقهوة والجرائد والكتب والدخان... لن أقول كظلي لكنه كان إلى حد كبير توأمي لا يفارقني إلا لماما، طلبت منه أن يحضر صورة شخصية له لأنشرها مرفقة مع نص المادة، ذهب مسرعا إلى منزله وأحضر الصورة، طلب مني أن يقرأ ما كتبته عنه، وكانت عادتي أن أطلعه على نصوصي قبل نشرها وهو ما كان يفعله هو الآخر عندما يتعلق الأمر بنصوصه المعدة للنشر، لكني امتنعت عن أن أطلعه عما كتبته عنه وأخبرته أن نترك الأمر للمفاجأة، أي أن يقرأ المادة بعد النشر. وقبل أن تجد تلك المادة النقدية طريقها إلى النشر كان الشاعر كريم حوماري قد خلق المفاجأة الكبرى، وغادر الوجود وانصرف عن أمور الدنيا وأفق القصيدة. بعدها حزنت لأني لم أتركه يقرأ ما كتبته عنه. أذكر أنه كان معنا في منتصف ظهيرة ذاك اليوم - الثلاثاء 4 مارس 1997 - في مقهى الميناء، كنت أنا ويحيى بن الوليد وبعض الأصدقاء نتحدث معه، ونمازحه كما هي عادتنا، لا زلت أذكر هذا اليوم، ساعات قليلة قبل أن يضع حدا لحياته منتحرا مشنوقا بحبل فوق عامود من الحديد على رأس “المون" قريبا من فوهة باب الموت بميناء أصيلة، الذي أسر لنا فيه كريم أنه إما أن يكون شاعرا كبيرا أو أنه سيغادر الوجود، قلت له ساعتها أنت فعلا شاعر كبير يا كريم، أطلق ضحكة كبيرة وواسعة، ومضى نحو مصيره المباغت وكأنه ينشد كما كتب في إحدى قصائده المعنونة ب “نبوءة": ما أنا إلا ورقة خريف بين خيط الريح أو نبي آخر ساعة تحت شمس باردة في بحر معشوشب أستريح صحبة باقي الأنبياء.. كلما فكرت في الشاعر الراحل كريم حوماري، ويحدث لي هذا مرات، ولمرات وجدت شبها له أمام أعيني يطوف في سبل الحياة، يزيد حزني وأناجي روحي بهذه العبارة الراسخة: “لو ظل كريم حيا لكان له فعلا شأنا خاصا في أفق شرفات القصيدة المغربية الحديثة" . «تقاسيم على آلة الجنون" ديوانه الشعري المتميز، والذي شكلنا خلية، بعد رحيله، من الفعاليات الثقافية من مدينة أصيلة أغلبها من أعضاء جمعية قدماء تلاميذ ثانوية الإمام الأصيلي التي كان ينتمي إليها الشاعر الراحل كريم حوماري سيظل شاهدا على منجزه الشعري الكبير، والذي يعد بحق إضافة نوعية لمسار قصيدة النثر في المغرب. وعن سر غيابه كتبت يوما هذه القصيدة: دَاليةُ الذُّهُولِ ..! إلى الشاعر كريم حوماري «الإنسان أعظم من قدره..." عبد اللطيف اللعبي (1) في الرَّابع مِن مارس يُسْفِر الغُروبُ عن وَحْي سُدُولِه ليَحْمِلَ الشَّاعرُ أحرفَ البَهَاءِ وَيَلْقِي بِتَعب العُمْر إلى هَوْدَجِ البَحْر موقِنًا أَنَّ شَغَبَ القَصِيدَة أبْقَى منْ قُفْر الحَيَاة وأَخَلَدَ من تَكهُّناتِ الغَيْب..! مُنْشَرِحًا في رشح الجَسَد كنت تهيم في الأمكنة فراشة تحوم في مدار الشمس أو هزيع اللَّيل ما الفرقْ..؟ وبياضُ الفُصول يَشْتَهِي فيكَ فَيْئَ ما تبقَّى من أَحْلامِ الرَّماد ورَعْشَةِ التَّفاصِيل... مُنْزَوِيًا في المَكَان كَعَنْدَلِيب المَسَاءات تَشْدُو قصيدةَ الغِيَاب بمُفْرَدِكَ فاكهةَ الموتْ على مَرْأَى من نَوارس الضِّفَاف وتَضْرِبُ مَوْعدا للرَّحيل المُبكِّر المبكر (2) «يَحْفر اللَّيل قَبْري وينام" كان البَوْحُ بهو كلمات تسع فوانيسُ الرَّذاذ وداليةَ الذُّهول ظلَّت مُعلَّقة في منار المِيناء تُفْصِحُ عن سرّ خَبايا كتاب “السُّقوط وبلاغةُ الصَّمت حطّتْ على الجدار تَسْتَفْسرُ رُوح القُداس عَنْ حتفٍ مُشْتَهى سَاوَرَ الشَّاعِرُ لِلَحْظَةٍ لِيَسْتَلْهِمَ مِنْ فَيْضِ الوُجُودِ أَبَجدية النصّ الأَخِير الأخير.. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته