الكثير من القصور والسرايا احترقت في سنة 1863، وقد رحلت بقاياها مع إنشاء خطوط السكة الحديد (الترامواي اليوم)، ولا شيء يثبت وجودها سوى المخططات والرسوم القديمة المحفوظة إلى الآن... الذهاب إلى “توب كابي" لا يستغرق وقتا طويلا. لا يستدعي ركوب الحافلة أو المترو الذي يتخلل شوارع مدينة إسطنبول وأحيائها الفاتنة بمحلاتها وواجهاتها ومتاحفها ومساجدها البهية التي ترافقك بحنوّ كبير حيث يمّمت. ثمّة دائما وأبدا ما يمكن اكتشافه في الطريق إلى قصر الحريم، حيث عاش السلاطين العثمانيون وجواريهم وخدمهم تلك الحياة التي ظلت موضوع جدال، وحيث الأسرار التي يتعذّر معرفتها دون قراءات متفاوتة ودون تأويلات متباينة بالنظر إلى المسكوت عنه في تاريخ السلاطين، ومنهم السلطان سليمان القانوني الذي اختلفت الآراء حول شخصيته وممارساته، وحول فهمه للدين الإسلامي. قبل الوصول إلى القصر العظيم، إنطلاقا من شارع لاليلي الفاخر الذي يتوسط المدينة، يمكن مشاهدة جامع بايازيت يسارا، ثم العمود المطوّق الذي نسجت حوله أساطير غريبة ومدهشة، فجامع نور عثمانية، ثمّ مقبرة السلطان محمود الثاني، وجامع فيروز آغا يمينا، فالجامع الأزرق أماما، وهو تحفة معمارية استثنائية، وتقابله آياصوفيا الشهيرة على بعد مئتي متر تقريبا. ومباشرة بعد آياصوفيا، على الجهة اليمنى، وفي طريق ضيّق ينحدر صوب السوق المصرية، يقع قصر توب كابي، أحد الانجازات الأسطورية التي شهدها الفنّ المعماري قبل مئات السنين. ولصق المدخل يقع متحف الآثار على مساحة معتبرة. ويجب عدم الخلط بين حارة توب كابي التي تقع بعد حارة أقصراي، وقصر توب كابي الموجود في الجهة المعاكسة. لقد تساءلت مرارا أثناء زياراتي المتكررة إلى تركيا عن سبب وجود ضريح السلطان سليمان القانوني في جهة أخرى بعيدة عن القصر نوعا ما، وكيف لم يدفن ناحية جامع السلطان أحمد، القريب نسبيا من إقامته؟ ثم اتضح لي لاحقا أنّ قصر الحريم الحالي كان أوسع مساحة، إذ كان يمتدّ إلى غاية الجامعة، أمّا جامع السليمانية فيوجد من الجهة الأخرى التي كانت محاطة بأسوار لا تزال شاهدة. ومعنى ذلك أنّ القصر كان مدينة داخل مدينة. ولهذا لا نستغرب وجود ضريحه هناك. سميّ القصر كذلك نسبة إلى أحد أبوابه: باب المدافع. وقد قام بإنشائه السلطان محمد الفاتح ما بين مضيق البوسفور وبحر مرمرة، قريبا من أمينونو حيث الجامع الجديد وبداية الخروج من القارة الأوربية وولوج قارة آسيا. وهناك قبالة المدخل الرئيسي، المحاذي لحديقة التسلية، يمكن مشاهدة جامع السلطانة زينب كفاتحة أولى. أحيط القصر بسور طوله 1400م، وتمّت تقويته بالسور السلطاني الذي يرتبط بأسوار العهد البيزنطي، قبل أن يدعّم بمجموعة من الأبراج بلغت 28 برجا. أمّا المدخل الأساسي فقد سميّ الباب العالي. شرع في تشييد المباني ما بين 1472 و1478م، وتمّ توسيعها مع الوقت إلى غاية القرن التاسع عشر، أمّا القصر العملاق فقد بني على أرض مساحتها 700.000 م2، قبل تقليصه لاحقا. هناك في القصر مجموعة من المنشآت كدوائر الدولة والقاعات والغرف المخصصة للخدم والمسجد والمكتبة والمطبخ الكبير وصالة الترحيب والإسطبل والخزينة وغرفة الطهارة وبرج رئيس الأطباء وبرج العدالة، إضافة إلى دوائر أخرى تهتمّ بشأن السلطان وقضايا الرعية. أصبح القصر متحفا في 1924م بعد ترميمات متعاقبة، وفي أوقات مختلفة، وهي لا تزال جارية إلى اليوم بسبب قدم بعض المباني وهشاشتها. يتمّ الدخول إلى الحرم من جهة القبة العالية. يسمى الفناء الأول ميدان الفوج، وعلى يمينه المحاسبة المالية، وفي شماله الذخيرة الداخلية وبينهما طريق إلى برج الباب الأوسط: باب السلام. وقد وضع أساس بنائه في عهد السلطان فاتح، بيد أنه تم تغيير الأبراج في عهد القانوني. في عهد مصطفى الثالث، بنيّ رواق بالإفريز في الطرف الداخلي، ويتم الدخول إلى الفناء الثاني بالعبور من هذا الباب أين تبدأ حدود السراي الجديد، وهناك في الطرف الأيمن لهذا الفناء غرفة الدولاب والمطبخ الذي صمّمه المعماري سنان، ثم قاعة للطهاة وحمام ومسجد وغرفة الصلصال ومخزن الدهن. أمّا الطريق الموجود في شمال الفناء فيؤدي إلى الإسطبل الخاص والجامع الذي بناه بشير آغا، وفي نهاية الرواق توجد قاعة بقبتين مخصصة لاجتماع الوزراء تحت رعاية السلطان الذي غالبا ما كان يتستر خلف برج عال لمراقبة المجلس، كما سنقرأ في التحقيق الموسّع الذي سينشر، لاحقا، في يومية “الجزائر نيوز". يتم الدخول إلى الحرم من باب محاذ للقبة العالية، أمّا في الجانب الأيمن فتوجد دائرة المحاسبة المالية، في نهاية الفناء الثاني المؤدي إلى الفناء الثالث. أنشىء هذا الباب في عهد سليم الثالث، وبه طنف معتبر كانت تقام فيه مراسيم العيد والاحتفالات، وفي طرفيه دار آغا وقاعة أك أغالار. وفي الفناء الثالث تقع قاعة العروض التي بناها السلطان فاتح بجدران مكسوة بالخزف الصيني، وهي مخصصة لاستضافة السفراء والوزراء، ووراءها دار الكتب التي شيّدها السلطان أحمد الثالث، وهي أكبر وأجمل دار للكتب في القصر. أمّا في الطرف الأيمن فتوجد سلسلة من المباني، مثل دار التعليم (مدرسة)، قاعة للمسافرين، إضافة إلى الخزينة. وقد شيّدت في عهد السلطان محمد الفاتح، وتعود بقايا الحمام إلى عهد سليم الثاني. أما في الجهة اليسرى فتوجد خزينة الأسلحة ودار حفظ الأمانات المقدسة (سيف الرسول عليه الصلاة والسلام وأغراض أخرى)، ودار مهيأة لفترة السعادة، وفي الفناء الأيسر يقع مسجد أك أغالار الذي رمّم ليصبح فيما بعد مكتبة مركزية. في حين أنّ المبنى الصغير المدمج مع قاعة أك أغالار (خلف المسجد) فهو عبارة عن مطبخ خاص بطعام السلطان. يتمّ النزول من الفناء الثالث إلى غاية الرابع عبر منحدرين يضمان مديرية المتحف والمبنى الاداري، حاليا، وقاعة الخزينة ودار خزينة الأمانة. أما الفناء الرابع فهو حديقة شاسعة تسمى حديقة الخزامى، وهي مخصصة لمدير الحكماء من أجل تزويد القصر بالمستحضرات الطبية. وقريبا منها يوجد سراي مصطفى باشا: صوفيا. وقد تم تشييده في مطلع القرن الثامن عشر، ويجمع ما بين فن العمارة التركية القديمة والعمارة الأوربية. وهناك على مرتفع يوجد حوض مبني بالحجر. وبجانب الأدراج ثمة دارة تسمّى غرفة الارسال، وقد شيدها السلطان مراد الرابع في عام 1635، وتمّ تزيينها بمهارة، وبها خزائن تحتوي على مخطوطات يدوية تعود إلى القرن الثامن عشر، ويوجد سراي بغداد المطل على مضيق البوسفور وخليج القرن الذهبي. وكان قد بنيّ بعد فتح بغداد للمرة الثانية من قبل مراد الرابع عام 1639. وهو مصمّم بشكل مطابق تماما للفن العمراني العثماني القديم الذي كان مهيمنا لقرون. زيّن سراي بغداد بالخزف الصيني وزيّنت أبوابه باللؤلؤ، وبه قمرية من البرونز المطلي بالذهب في الجهة المطلة على المدينة والخليج، ويتشكل هذا الأثر من أربعة أعمدة معدنية ترتكز عليها قبة صغيرة وطنف في أطرافها علقت عليه قصيدة طويلة تشير إلى أن هذا المكان شيّد ليكون مكانا للإفطار في عهد السلطان إبراهيم، وفي أسفل القمرية تقع حديقة القصر المسماة بستان التين. مع الإشارة إلى أنّ في حدائق القصر أشجارا من السّرو والتنوب وقليلا من أشجار الزيتون. في الطرف المطلّ على بحر مرمرة، من جهة الفناء الرابع، أنشئ قصر مجيدية الذي ينسب إلى السلطان عبد المجيد، وهو آخر مبنى في القصر، اتخذ الطراز الأوربي شكلا له بعد احتكاك النموذج العثماني بفنون أخرى، وسيظهر ذلك حتّى في شكل اللباس. كما أنشئ مبنى صغير سميّ غرفة الثياب، إضافة إلى جامع صغير بمنارة واحدة سميّ جامع صوفا. للعلم فإن الكثير من القصور والسرايا احترقت في سنة 1863، وقد رحلت بقاياها مع إنشاء خطوط السكة الحديد (الترامواي اليوم)، ولا شيء يثبت وجودها سوى المخططات والرسوم القديمة المحفوظة إلى الآن. حرم القصر: يتألف الحرم السحري الكبير من مجموعة منشآت مستقلة داخل القصر، له باب باسم “باب العربة" بالفناء الثاني، ويعود تاريخه إلى سنة 1558، و«باب شال" بالفناء الثالث، وهناك قاعة “زولوفلو أغالار" لخدمة السلطان قرب باب العربة، وقد خضع الحرم لعدة تعديلات وترميمات طيلة أربعة قرون. وهو مؤلف من 250 غرفة وحمامات وفناء داخلي ودار السعادة ودار الجواري والمشفى ودار وليّ العهد ووالدة السلطان ودار شيخ زادهل ودار جوزديلر، كما توجد دارالسلطان، وهي مجمّع في حد ذاتها بالنظر إلى طبيعتها وامتداداتها. وهناك عاش السلطان سليمان القانوني، ومن هناك كانت الفتوحات والمعاهدات والتواطؤات. كان قدر جزء من العالم في هذا المكان. ومع أنّ الحرم ترك لأزيد من مئة سنة، إلا أنّ بعض الخدم ظلوا مقيمين به إلى غاية سنة 1908. الحرم إياه زاخر بالخزف الصيني (كأغلب المباني العثمانية القديمة) الشاهد على مختلف العهود الماضية. كما توجد به أروقة كثيرة خاصة بالأسلحة والثياب والعربات والمجوهرات ذات الأحجار الكريمة التي تزيّن الحلي والأوسمة والميداليات وأشياء أخرى مصنوعة من المعادن النفيسة مثل الذهب والفضة، إضافة إلى لوحات قيّمة عند ولوج القصر من جهة الباب العالي. الدخول إلى توب كابي من بابين كبيرين، الأوّل من جهة آيا صوفيا والثاني من جهة متحف علم الآثار، وعلى السائح أن يدفع ما قيمته 55 ليرة تركية لزيارة القصر كلّه، أي حوالي 4000 د. ج، باستثناء الجهات المغلقة التي لا يسمح بزيارتها. كما يمكن الاستعانة بالدليل أو المرشد السمعي. أما التصوير فيقتصر على أماكن دون أخرى لأسباب تتعلق بأمن القصر وأسراره. وقد تستغرق مدّة الزيارة عدّة ساعات لمعرفة ما يزخر به القصر من تحف وعلامات تاريخية مثيرة سنعود إليها ببعض التفصيل لأنّها هامة وغريبة في أجزاء منها، وفيها ما يستدعي التأمل والمساءلة التي لا تنتهي. ثمّة في القصر عجائب تتعلق بالآثار والمباني والمقتنيات والعادات، وهناك أسئلة لها علاقة بحياة السلاطين والأموال والجواري والفتوحات والذرية والحاشية والرعية، إضافة إلى مسلسل حريم السلطان وعلاقته بالحقائق التاريخية، ثمّ موقف الرأي العام من الأحداث والصوّر الواردة في العمل الفنّي. ملاحظة: أخذت بعض المعلومات من دليل مدينة إسطنبول الذي ألّفه يوجل أكات وترجمه مراد يعقوب أوغل، طبعة 2012، وهو الكتاب نفسه الذي أفادنا في مقال: المساجد: معالم الإسلام في تركيا.