تزاوج مثالي هو ذاك الذي يطبع العاصمة التركية اسطنبول في شهر رمضان، فبين التقاليد والعادات المتجذرة في المجتمع التركي وأسس النموذج العلماني في تسيير الدولة، يبقى الزائر لهاته المدينة خلال الشهر الفضيل مشدودا لمدى تعلق الأتراك بدينهم وتحويل مدينتهم إلى ملتقى للحضارات والثقافات من جميع أنحاء العالم، وكأنها تريد أن تقول أن مجد الدولة العثمانية مازال قائما، وأن نجم القسطنطينية لم يفل. قد يبدو أمرا صعبا بالنسبة للبعض حول اختيار الوجهة السياحية لقضاء عطلة نهاية السنة، خاصة في هذه السنوات التي تتزامن فيها شهور العطلة الصيفية وحلول شهر رمضان المبارك. إن الكثيرين يجدون صعوبة في اختيار الدولة التي لا تبعد في تقاليدها وعاداتها عن تقاليدنا في الشهر الفضيل، لكن الأكيد أن الدولة التركية، ركزت جهودها المتعلقة بجلب السياح نحو استغلال فرصة حلول الشهر الكريم مع عطلة الصيف، مما جعل الآلاف من السياح المسلمين وغير المسلمين يتدفقون على عاصمة الباب العالي، بالنظر إلى الأجواء الاحتفالية والدينية التي تطبع المدينة خلال شهر رمضان، ومظاهر التسامح والتعايش التي تميزها، فالزائر يجد راحته ويستطيع التأقلم مع الأجواء هناك مباشرة بعد أن تطأ قدماه أرض تركيا. إفطار في الهواء الطلق لعل أبرز ما يميز أجواء رمضان في العاصمة التركية، هو إصرار العائلات التركية على الإفطار في الهواء الطلق فبمجرد حلول الساعة السادسة مساء، وقبيل ساعتين من الإفطار، تبدأ مختلف المساحات الخضراء في الامتلاء عن آخرها بالعائلات التركية، فالجميع يحرص على هاته العادة، حاملين معهم وجبة الإفطار وأباريق الشاي والقهوة، أما عن اختيار المكان فالأمر ليس صعبا طالما وجد رب العائلة مكان لركن سيارته، سواء على الكورنيش المطل على مضيق البوسفور أم بوسط المدينة، خاصة في الأحياء السياحية المعروفة كبلدية السلطان أيوب، أو السلطان أحمد الذي توجد به أهم المعالم الأثرية كقصر السلاطين أو الباب العالي، أو المسجد الأزرق أو كنيسة أيا صوفيا. "التوب كابي" أو الباب العالي...25 سلطانا مروا من هنا يطل هذا القصر العظيم على بحر مرمرة ومضيق اسطنبول وقد عاش فيه سلاطين الدولة العثمانية أكثر من 300 عام بداية من القرن الخامس عشر،وتبلغ مساحته 699 ألف متر مربع تضم القصور والمكاتب والمساجد والمكتبة والمتاحف والمطابخ، وأستمر بناء القصر عشرة أعوام امتدت إلى عام 1478م.. وللقصر سبعة أبواب ومن أهم الأماكن داخل الأسوار نجد مبنى مجلس الوكلاء، دار النزهة، دار الكتب، كشك قارا مصطفى باشا، ،دار الحريم، وكذلك دائرة الأمانات الإسلامية المقدسة التي أنشأها السلطان محمد الفاتح، حيث كان يقوم بإدارة شؤون البلاد من هذه الدائرة ومن أهم مقتنيات هذا القصر البردة النبوية.. فقد أمر السلطان أحمد الأول بوضع بردة النبي صلى الله عليه وسلم فوق كرسي الحكم تيمناً وتبركاً وغادر السلطان محمود الثاني(1808 1839م) الغرفة الخاصة نهائياً وبقيت لحفظ الأمانات المقدسة. ومن أهم ما يوجد بهذه الغرفة نجد موطئ قدم النبي محمد صلى الله عليه وسلم الأيمن على حجر مرمر ملون، وقد جلب من طرابلس وقدم هدية للسلطان عبد الحميد سنة 1847م. وكذلك محفظة الحجر الأسود وهي الإطار الخارجي للحجر الأسود من الذهب الخالص، بالإضافة إلى جزء من باب الكعبة القديم جلب بعد تبديله بالباب الجديد سنة 1592م. كما تحوي الغرفة مفاتيح الكعبة المشرفة وقطعاً من سترة الكعبة الشريفة ويوجد أيضا محفظة ذهبية مرصعة بالأحجار الكريمة تضم شعرة من لحية النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ،وتضم الغرفة سيوف الخلفاء الراشدين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعاً، وتوجد بها كذلك رسالة النبي صلى الله عليه وسلم للمقوقس ملك الأقباط. كنيسة أيا صوفيا...مسلمون ومسيحيون صلوا هنا من أبرز معالم مدينة اسطنبول، وأحد الآثار العظيمة التي كانت أثر من آثار البيزنطيين لآلاف السنين،ولكنه أصبح فيما بعد جامعاً واستمر كذلك لمئات السنين، ولكن أتاتورك حوّله إلى متحف مع مطلع القرن العشرين. كان مبنى (آيا صوفيا) وتعنى (الحكمة المقدسة) قبل الفتح الإسلامي لاسطنبول كنيسة نصرانية، بناها الإمبراطور الروماني جوستينان سنة 326م، وبعد فتح الأتراك العثمانيين لمدينة اسطنبول أمر السلطان محمَّد الفاتح بتحويلها إلى جامع، وصلّى فيه أول صلاة جمعة بعد الفتح، وذلك سنة 875ه/1453م، وبنى للمسجد منارة خشبية مع محراب وأطلق عليه اسم آيا صوفيا. كما أن هناك حكايات أسطورية تحكي سبب بناء هذا الأثر، منها أنَّ الإمبراطور جوستينان حلم ذات ليلة، فرأى في الحلم أنَّ رجلاً عجوزاً وقف في موضع المسجد الحالي، وحمل بيديه صينية عليها خريطة البناء، وأمره بتشييد كنيسة حسب مواصفات الخريطة، وعندما أفاق الإمبراطور من نومه استدعى مهندسه المعماري الذي وجده قد رأى نفس وقائع الحلم وبنى هذه الكنيسة. احترقت هذه الكنيسة عدّة مرات وأعيد بناؤها، كما دمّرت عندما دخل الصليبيون اسطنبول وأحرقوا ونهبوا محتوياتها. الجامع الأزرق..أعجوبة الدنيا الثامنة جامع السلطان أحمد أو الجامع الأزرق يقع في قلب مدينة اسطنبول، وبالضبط في ميدان السلطان أحمد ويمكن الوصول إليه عن طريق المترو. وهو جامع مذهل في عمارته وأنواره بالليل ويقع مقابل لمتحف آيا صوفيا. سمي بالجامع الأزرق نسبة إلى البلاط الأزرق الذي يزين جدرانه الداخلية. مسجد السلطان أحمد هو المسجد الوحيد في تركيا له ستة مآذن، وعندما كشف السلطان أحمد عن عدد المآذن تعرض للنقد إذ لا يجوز أن يكون أكثر من مسجد بستة مآذن وذلك بسبب بناء مسجد الكعبة في مكةالمكرمة بستة مآذن ولكن السلطان أحمد تغلب على هذه المشكلة بواسطة تمويل بناء المأذنة السابعة في الكعبة. وبني هذا المسجد من عدة مستويات، أما داخل المسجد فانه مبني على 20.000 عامود من السيراميك صنعت باليد، أما الطبقة العليا فإنها مرسومة بأكثر من 200 لون ، والزجاج صمم بشكل يضفي ضوء طبيعي على المسجد. يتم الاستعانة اليوم بالشمعدنات، وفوق هذه الشمعدنات وضع بيض النعام خصيصا لمنع تكون بين العنكبوت داخل المسجد، بمجرد دخولك إلى المسجد ترى أن التصميم الداخلي يتضمن آيات من القرآن الكريم. العنصر الأكثر أهمية في المسجد هو المحراب المصنوع من الرخام المنحوت بشكل مميز، الجدران المتاخمة للمحراب مغلفة بالسيراميك، إلى يمين المحراب هناك المنبر حيث يقف الإمام وبخطب خطبة الجمعة أو خطبة صلاة العيد .. يوميا وعند غروب الشمس يجتمع حشد كبير من الأتراك والسياح في الحديقة المقابلة للمسجد لسماع صوت الأذان مساءا وللتمتع بمنظر غروب الشمس، كما أن أهم ما يميز المسجد، يكمن في إمكانية دخول السياح سواء كانوا مسلمين أو غير ذلك، حتى في وقت الصلاة عدا صلاة الجمعة. كتب على المسجد خلال شهر رمضان عبارة "ما تزرعه اليوم هنا، تجده غدا في السماء"، وهي عبارة لها معاني كثيرة في الإسلام، تدل على مدى ارتباط الأتراك بدنياهم والعمل فيها من أجل آخرتهم. مسجد أبي أيوب الأنصاري..شفاء للعليل يوجد هذا المسجد على ساحل خليج القرن الذهبي المتفرع عن مضيق البوسفور، يعرف في تركيا باسم "أيوب سلطان".. إنه مسجد أبي أيوب الأنصاري، ذلك الصحابي الجليل الذي شهد بدرا واستضاف الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة عندما جاءها مهاجرا من مكة. مسجد أبي أيوب الأنصاري يعود إلى حقبة فتح مدينة إسطنبول. إنه مسجد في غاية الأهمية، قد لا يكون الأكبر هنا في إسطنبول ولكنه يستقطب الملايين من الزوار كل عام، والسبب أن بجانبه ضريح أبي أيوب الأنصاري أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبو أيوب جاهد في صفوف جيش المسلمين في القرن السابع للميلاد، وقبل أن يتوفى أوصى بأن يدفن داخل مدينة إسطنبول، وبالفعل فقد غسل في هذا المكان ودفن فيه كما أن مرقده وجد تقديرا كبيرا لدى البيزنطيين ولدى ملوكهم.. وكان العثور على قبر أبي أيوب الأنصاري من أول رموز فتح اسطنبول من طرف السلطان محمد الفاتح، الذي طلب على الفور أن يتم بناء المسجد وأن تلحق به أقسام عدة كانت تلك الأقسام في زمنها مجمعا دينيا وتعليميا واجتماعيا كبيرا، كما ضم المسجد مطعما للفقراء وحماما تركيا، وازدهر من حوله المعمار ونشطت التجارة. لدى الأتراك، يأتي في مقامه بعد مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة والقدس الشريف ورغم أن إسطنبول هي عاصمة المساجد بلا منازع، فإن عددا كبيرا من المصلين يتدافعون إلى مسجد أبي أيوب الأنصاري، خصوصا أيام الجمعة لأداء الصلاة وصلاة التراويح في رمضان. خزانات المياه .. تصميم يعكس عظمة الدولة العثمانية إن من أهم المعالم الأثرية للعاصمة التركية اسطنبول هو خزانات المياه التي بينت في قلب اسطنبول غير بعيد عن المسجد الأزرق، حيث أن الزائر إليها يكتشف أنها بنيت على 365 عمودا لحماية المدينة من الجفاف ، حيث أن امتلاء الخزان يكفي إمدادا المدينة بالماء لسنة كاملة. هذا التصميم الذي ابتدعه العثمانيون يشير غلى مدى بعيد مدى التطور العلمي والفكري الذي تميز بع العصر الذهبي للإمبراطورية التي وصلت من المحيط إلى الخليج. جولة على البوسفور...أوربا وآسيا تلتقيان هنا أما فيما يخص الجولات السياحية التي يمكن القيام بها، فتتمثل في جولة على القوارب التي يعج بها مضيق البوسفور، حيث يتمكن الزائر ممن رؤية الجانبين الأوربي والأسيوي لمدينة اسطنبول ومختلف القصور والفنادق الفخمة والمنازل الخاصة المطلة على مضيق البوسفور. كقصر الدولما بهجة، أو فندق الفور سيزان وهو أغلى فندق في العالم، وحتى فيلا بطل المسلسل التركي مهند ونور التي تحولت غلى قبلة لزوار خاصة العرب منهم الذين تابعوا تفاصيل الدراما التركية. مطبخ تركي غني في رمضان وطيلة السنة لا يمكن أن تزور تركيا دون أن يرسخ في ذهنك جمال المطبخ التركي، فهو مشابه لدرجة كبيرة للمطبخ العربي و لكن ما يميزه هو بأنه صورة شاملة للمطبخ الإسلامي الشامل علاوةً على غناه بأطباق أوروبية و أسيوية و يعود هذا التنوع إلى الثقافة العثمانية الإسلامية التي حكمت المسلمين و بعضاً من الأوروبيين. فتجد أطباق الدولما المعرفة لدينا وهي تعني "المحشي"، بالإضافة إلى البوراك وشوربة العدس المطلوبة كثيرا في رمضان، ناهيك عن الكباب والمشويات، والشورما الشهيرة، التي تجدها في المحلات بأشعار زهيدة وتلقى إقبالا كبيرا. ولعل أهم ما يميز تركيا أيضا هي فتح مطاعن عابر السبيل في كل مكان بالمدينة طيلة الشهر الفضيل، حيث تم هاته السنة مثلا فتح مطاعم كثيرة تكفلت بإطعام الآلاف من السوريين الذين فروا من جحيم الأحداث في بلدهم وعملت بلدية اسطنبول على التكفل بإطعامهم في صورة تضامنية رائعة مثلما يوصينا به ديننا الحنيف. أنوار اسطنبول لا تنطفئ في رمضان في شهر رمضان يمكنكم قضاء أجمل السهرات الصوفية و الدينية و الغنائية والموسيقية...حيث أغلب المطاعم و الفنادق تقدم إما سهرات أناشيد دينية أو صوفية أو موسيقية عثمانية و حتى البعض منها يقدم ما كان معروفاً في البلاد العربية بسهرات القراقوز و أيضاً هنالك سهرات في قراءة القرآن والرقص الصوفي المولوي هنالك احتفالية مميزة في منطقة السلطان أحمد مخصصة فقط لشهر رمضان حيث يقدم فيها التراث العثماني و حياة إسطنبول القديمة...كما يقدم معرض للمطبخ العثماني أيضا. هنالك مكان آخر في إسطنبول يدعى "فسهانه" ملاصق للقرن الذهبي...و هنالك أنشطة مشابهة للتي تقام في السلطان أحمد و هنالك أيضاً لونا بارك و هي حديقة ألعاب للأطفال. كما أن مختلف المطاعم والمقاهي الواقعة على ضفتي مضيق البوسفور تستعد لشهر رمضان حيث تقدم للزوار أشهى الحلويات، وتمنح له فرصة تلذذ الشيشة أو النرغيلة. اسطنبول ملتقى اقتصادي وتجاري دون منازع وبعيدا عن التاريخ، فإن تحول اسطنبول إلى قبلة سياحية، دفع بالقائمين عليها على غشاء أحياء وتخصيص أسواق للتسوق، فنجد مثل البازار الكبير، الذي تعج به مختلف السلع التركية، من ملابس ومجوهرات وأثاث وأواني، وتذكارات، كما نمجد سوق مصر، المتميز بالبهارات والذي يحوي على 21 ألف متجر، متخصص في البهارات والحلويات وحتى النسيج التقليدي وبيع الفخار. أما شارع تقسيم المتواجد في قلب اسطنبول غير بعيد عن نهج الاستقلال، فهو يعكس فعلا انفتاح الدولة التركية وتؤثرها بالعولمة الاقتصادية من خلال اصطفاف أكبر الماركات العالمية للألبسة، بحيث أصبح الشارع التجاري رقم واحد الذي يضاهي الشانزي اليزي بفرنسا ناو هارولد ببريطانيا. حتى أن أسعار السلع فيه. كل هذا كان في اسطنبول، ولا يتبادر للذهن إلا فكرة واحدة هي ضرورة العودة إليها، مجددا لأنها فعلا مدينة لن تكشف لك عن أسرارها من زيارة واحدة فقط.