“هل أنا كاتب عربي؟ هذا السّؤال، لست أنا من يطرحه، الذين يسألونني إن كنت كاتبا عربيا يفعلون هذا دون حسن نية، هم على حق لأنهم يرغبون بشدة في معرفة الإجابة لكي يصنفوني في الخانة المناسبة، على العموم، الذين يطرحون عليك أسئلة عن هويتك إما أنهم من الشرطة أو الدرك، ليس من السهل تحديد هذه الهوية، فتحديدها يعني إقامة ملائمة بين اسم ولقب الذي يحملانه، لكن في الأدب، قد تكون الهوية مضللة عندما نعرف كاتبا بواسطة اللغة التي يتكلم ويكتب بها، أقصد، اللغة الأم أو الوطن، فالأدب العربي هو إبداع عربي خالص، وذات الشيء ينطبق على الأدب الألماني، إذا كافكا، هذا التشيكي الذي كان يعمل في براغ، كان ألمانيا، لأنه كان يكتب بالألمانية، والقول ينطبق على “بيكيت" الذي كان يكتب جيدا بالانجليزية كما الفرنسية، ونابوكوف الذي كان يكتب بالروسية والانجليزية، ويعبر بلغات أخرى منها الفرنسية؟ ماذا نقول عن الشاعر الكبير جورج شحاتة، المولود بلبنان والذي يكتب أجمل الأشعار بالفرنسية؟ كاتب ياسين، كاتب كبير ومنذ مجازر 8 ماي التي كان شاهدا عليها، قرر ولوج فم الذئب للتعبير عن كراهيته للاستعمار ومظالمه القاسية، محمد خير الدين الذي كتب “لست عربيا، أنا بربري، مغربي لكنني بربري"، تطول قائمة الكتاب الذين ولدوا بلغة الأم لكنهم اختاروا الكتابة بلغة الآخر، نعرف خاصة منهم الفرانكفونيين، لكن يجب الحديث أيضا عن الكتاب الهنود، الباكستانيين، حتى اليابانيين الذين يكتبون مباشرة بالانجليزية، ويعتبرون كتابا بحد ذاتهم ولا تشوب كتاباتهم شائبة الشك والتشكيك، الفرق بين الفرانكفونيين و«الانجلوفون" هو أن الانجليز أو الأمريكيين لا يقضون وقتهم في التساؤل إن كان آرونداتي روي، سلمان رشدي، حنيف قريشي، نايبول، انيتا ناير... هم كتاب انجليز أم هنود، بالنسبة لهم لا يطرح السؤال من هذه الزاوية، المهم أنهم كتاب بريطانيين، لا يجعلون من القضية مسألة حياة أو موت إن صح التعبير، نعرف من أين قدموا، العوالم التي يكتبون حولها وحول ماذا يكتبون، بالكاد يتكلمون عن بلدانهم الأصلية، لكن بحكم أنهم يكتبون بالانجليزية فهذا يسمح باستيعابهم مع زملائهم من الكتاب الانجليز، وماذا نقول عن المؤرخ ذو الأصول اليابانية فرانسيس فوكويوما، صاحب النظرية المثيرة للجدل (نهاية التاريخ)؟ لم يذكر أحد مسقط رأسه لتحديد هوية كتاباته، في حالتنا نحن، أقصد بالطبع كتاب المغرب العربي الذين يكتبون بلغة موليير، تطل السياسة برأسها الافعوانية وتجعل من القضية مسألة حياة أو موت، أتذكر أنه في ستينيات القرن الماضي، عندما أصدر عبد اللطيف اللعبي مجلة (أنفاس)، طالته الهجومات والانتقادات من الجميع، الشعراء الذين كانوا برفقته وشاركوه الحلم أصبحوا في نظرهم خونة، نتاج الكولونيالية، أو بالأصح من بقاياها، سعوا لتخوينهم، لمنعهم من الكتابة، بالنسبة للبعض، صفحة بيضاء، الصمت أفضل من الكتابة بالفرنسية في بلد تحصل حديثا على استقلاله، عانينا كثيرا من ردود فعل ظالمة، مجحفة تترجم حالة انزعاج غير مفهومة في الثقافة المغربية، هي في الحقيقة ثقافة مسخرة للتعدد، كان علينا أن نقاوم، أن نكمل وخاصة كان علينا مقاومة حالة الشك، ضد الهشاشة المفخخة لذواتنا، البعض، مثل خير الدين فضل الهجرة إلى فرنسا، آخرون مثل نيسابوري واللعبي رفضوا المنفى، لسوء الحظ، قضى اللعبي ثمان سنوات من حياته في السجن، وكان جرمه الوحيد أنه يكتب بالفرنسية، لكن بالنسبة لشخص يفكر ويكتب ثمان سنوات بسبب جرم رأي كانت عملا بربريا لن يتكرر البتة في بلد في طريقه للديمقراطية، استغل الفرصة لأشرح ظروف هجرتي إلى فرنسا في سبتمبر 1971، بعدما قضيت ثمانية عشرة شهرا في معتقل (الحاجب) و( احرممو) بين جويلية 1966 وجانفي 1968،عينت أستاذا لمادة الفلسفة في ثانوية بتطوان، في سنة 1970 نقلت إلى دار البيضاء، لهذا اعتبر السنة الدراسيّة 70/71 سنة كل الثغرات، إضرابات الطلاب، مظاهرات شبه يومية عطلت تقريبا الدروس، وفي أحد الأيام علمت من نشرة الأخبار على القناة الوطنية (RTM) أن الجنرال أوفقير قرر تعريب تدريس الفلسفة من بداية سبتمبر 71، جنرال يتدخل في الثقافة والتعليم ليس علامة جيدة، ما كان يريده هو جعل النصوص التي تعتبر “مخربة" لعقول الطلاب بعيدة عنهم، الاكتفاء بتعلم الفكر الإسلامي، أمام هذا العدوان، قررت ترك التدريس وفعلت المستحيل لإكمال دراستي في السربون في باريس، حيث وصلت هناك في 11 سبتمبر وفي محفظتي ديوان شعري صادر عن منشورات (les éditions Atlantes) التي كان يديرها اللعبي نفسه، زيادة على الفصول الأولى من روايتي (Harrouda)، فهمت يومها أن خلاصي سيكون على يد الكتابة، وأنني لن أحرر نفسي وأخلصها من شياطينها إلا بالأدب، كنت أكتب طوال الوقت وفي الوقت نفسه أقوم بمهام أخرى، دراستي في علم النفس وأمارس عملي في مركز طبي خاص بالبسيكوسوماتي [psychosomatique] (مصطلح طبي يشير إلى جميع الاضطرابات النفسية)، لماذا لم أفعله بالعربية؟ لأنني لا أتقن هذه اللغة إلى حد جعلها لغة إبداعي، ككل أبناء جيلي كان تكويني مزدوج اللغة، وسرعان ما تغلبت لغة الآخر على لغتي الأم، في البداية، تعاملت مع المشكلة كلعبة، أردت أن أثبت للجميع أنني قادر على التألق بلغة “الكولون"، لكنها كانت في الوقت نفسه لغة “فولتير"، “جان جينيه"، “رامبو"... وآخرين، نسيت “الكولون" وانغمست في مؤلفات عباقرة اللغة الفرنسية، في أي وقت من الأوقات لم أشعر بالضياع، بأنني خنت وطني، ثقافتي الأم، بالعكس، كنت أشعر بالفخر، لأنه بالنسبة لي، لم أشكك في عروبتي، في مغربيتي، لم أشعر بأنني ابتعدت عن جذوري، إذا، من أكون؟ كاتب عربي أو فرنسي؟ فلنطرح السؤال بشكل مختلف، هل أنا كاتب صادق أو صانع كتب فقط؟ هل أنا كاتب يعبر عن جزء من واقع مجتمعه أو"ما يشبه الكاتب" فلكلوري و«اكزوتيكي" كما يشاع هنا، في هذا البلد الذي أحبه قبل كل شيء؟ فقط، الجمهور بإمكانه الإجابة عن هذا السؤال، الذين يدونون القواميس ويشبعونها بالمعلومات يصنفونني من بين الكتاب الفرانكفونيين من أصل مغربي، وآخرين يضعونني كفرد من عائلة الكتاب الفرنسيين دون تمييز في الأصل أو في الانتماء الجغرافي أو اللغوي، أخيرا، هناك من يعتبرني كاتب فقط، أعتقد أنه التعريف الذي أفضله، هذا لا يعني بأنني أتحاشى خوض النقاش أو أرفض مواجهة مسألة الهوية، لا، لكن يجب أن تتوفر أولا قاعدة حسن النية، بعبارة أخرى، نطرح السؤال دون دوافع خفية، دون محاكمة النوايا، دون ذنب، دون استياء، دون كراهية ودون عنف، يمكن أن يطرح السؤال كالتالي: عندما تترجم أحد كتبي إلى لغة أجنبية، الليتوانية، الاوردو، الافريكانير كمثال بسيط (آخذ عن قصد لغات بعيدة والتي هي بالنسبة لنا اكزوتيكية)، هل هي كتب فرنسية أو عربية؟ الترجمة تتم من الفرنسية، إذا، هي بالنسبة للناشر منتج فرنسي، لا يهم البلد الذي قدم منه الكاتب، لكن، ماذا سيحدث لو ترجمت كتبي إلى العربية؟ هنا، يتعقد الأمر ويصبح مشكلة وفي الوقت نفسه يفتح آفاق لشرح المعادلة الصعبة، العربية هي اللغة الوحيدة التي أقرأها خارج الفرنسية، إذا، أحب مراجعة ترجمات مؤلفاتي، ولا أستطيع القيام بهذا مع اليابانية أو مع الكورية أو مع الاسبانية أو مع الانجليزية، لسوء الحظ، فنظام القرصنة المتفشي في سوريا حيث يتم نشر كتبي بترجمات رديئة دون أن يكلفوا أنفسهم الاتصال بي أو حتى إعلامي، تبقى كتبي المترجمة إلى العربية والصادرة عن دار طوبقال هي الأقرب إلى النسخ الأصلية الصادرة بالفرنسية، عندما أعيد قراءة كتبي بالعربية، اكتشف أخيرا، أنه أفضل ألف مرة أن يترجم لك خير من أن تكتب مباشرة بلغة لا تتقنها أو لا تتحكم فيها، بالنسبة لي الأمر محسوم، لا أكتب بالعربية احتراما لهذه اللغة الجميلة وأيضا لأنني أشعر بأنني غير قادر على تقديم كل ما أملك بالعربية، الأفضل أن اعترف بهذه الحقيقة، والنأيي بنفسي عن التورط في جدال عقيم لا يفضي إلى شيء، الآن، أطرح السؤال بشكل مباشر، ما هو وطن الكاتب؟ وطنه هو الأدب، وبالتالي اللغة التي يكتب بها، هل أنا رغم ذلك فرنسي؟ بالطبع نعم، أنا كاتب فرنسي، من نوع معين، فرنسي، حيث لغته الأصلية، عاطفية ووجدانية هي العربية، مغربي ليس لديه أي مشكلة مع الهوية، يتغذى بالمخيلة الشعبية المغربية، هذه نقطة مثيرة للاهتمام من وجهة نظر أدبية،ثنائية اللغة، ثنائية الثقافة، اختلاط الحضارات وتهجينها يشكل فرصة ثراء، ويسمح بمغامرة رائعة، في كذا من مرة يسألني القراء وأيضا صحافيون لماذا لم أكتب رواية فرنسية، يعني، رواية تدور أحداثها على الأراضي الفرنسية وشخصياتها فرنسية، فأجيبهم في العادة فرنسا تملك كتاب من كل الأنواع ومن كل الاتجاهات الأدبية للتعبير عنها، هي ليست بحاجة لمغربي يبحث فيها، بالمعنى الذي قاله بلزاك في إحدى رواياته: “يجب أن يكون البحث في كل الحياة الاجتماعية ليكون المرء روائيا حقيقيا، بحكم أن الرواية هي تاريخ الشعوب الخاص"، أعتقد أنني يمكن أن أقول إنني أثابر واجتهد في هذا البحث، في الحياة الاجتماعية، البسيكولوجية، الأسطورية، الخرافية ، الواقعي، المرئي والغير المرئي، السري والغامض، لمجتمع واحد يلهمني ويهمني، بالطبع، أقصد المجتمع المغربي بكل تعقيداته، تنوعه، قوانين الجاذبية الحياتية التي تحكمه وتؤثر فيه، في صمته وغموضه، أخيرا، لإطلاق النقاش ولإنهائه بكلمة استثنائية، اقتبس هذا البيان لجيمس جويس، المؤلف الذي استحوذ علي في مساري الحياتي: “لا أريد خدمة ما لا أؤمن به، إن كان اسمه بيتي، وطني أو كنيستي، أرغب بشدة في التعبير بأي شكل من أشكال الحياة أو الفن، بقدر ما تسمح لي به الحرية، وبقدر الإمكان، بقدر هذه الحرية سأستعمل للدفاع عن نفسي بالأسلحة المتاحة لي والتي أسمح لنفسي باستعمالها، الصمت، المنفى، المكر... لست أخشى أن أكون وحيدا، أو يتم صدي على حساب الآخر، أو ترك أي شيء ينبغي تركه، لست خائفا من ارتكاب أخطاء، حتى لو كانت أخطاء فادحة، خطأ مدى الحياة، إلى الأبد كما يمكن ان يكون".. الطاهر بن جلون - 2004