ثلاثون أديباً، مغاربيين وأفارقة ولاتينيين وأوروبيين، يكتبون بالفرنسية التي ليست لغتهم الأم، يجتمعون بين دفتي الإصدار الجديد لسلسلة كتاب مجلة ''دبي'' الثقافية ''منفى اللغة ... حوارات مع الأدباء الفرنكوفونيين''، (436 صفحة)، جمع فيه الروائي العراقي شاكر نوري حوارات معهم، كان نشرها سابقاً في صحف عربية. ويحيل العنوان إلى عبارة الجزائري مالك حداد ''اللغة الفرنسية منفايّ''، والتي يشير إليها نوري في دراسة حاذقة استهل فيها الكتاب، أحال فيها إلى كتاب عالميين اختاروا الفرنسية فضاءً لغوياً لأعمالهم، منهم الروماني يوجين يونيسكو والإيرلندي صموئيل بيكيت والروسي أندريه ماكينين الذي حاز على جائزة غونكور والإسباني خورخي سومبريم. وتسأل المقدمة ما إذا كان ممكناً أن نتخيّل الأدب الفرنسي من دون مؤلفات هؤلاء، وغيرهم من أمثال التشيكي ميلان كونديرا وإيميل سيوران، لو حرموا من الإقامة في الأراضي الفرنسية، فيرى شاكر نوري، وهو الذي أقام في باريس 25 عاماً، وحصل على دكتوراه في السينما والمسرح من جامعة السوربون، أن مشروع الفرنكوفونية ثقافي يتطلّع إلى غايات سياسية محدّدة، وبدأ يتحرّك من خلال تنفيذ القرارات المتخذة من أجل نشر اللغة الفرنسية وثقافتها باستعمال أساليب متعدّدة. وفي تناوله مسألة الرواية المغاربية الفرنكوفونية، يطرح نوري أسئلة عما إذا كانت هذه الرواية تلعب حقاً دوراً مهماً في تشكيل وعي الناس وتجاربهم، وما إذا كانت الكتابة بالفرنسية تفتح المجال أمام الكتاب المغاربة لتناول المحرمات التي لا يمكن للكاتب العربي الاقتراب منها بالعربية، وما إذا كانت طريقة التعامل مع النصّ الأدبي تختلف في الفرنسية والعربية، ويتطرّق إلى تجارب كتاب اختبروا العلاقة مع اللغتين، منهم المغربي الطاهر بن جلون الذي واصل الكتابة بالفرنسية لعدم تمكّنه من الإبداع بالعربية، والجزائري رشيد بوجدرة الذي انتقل إلى الكتابة بالعربية من دون أن يبدع فيها، كما أبدع بالفرنسية التي يسيطر عليها. ويمضي شاكر نوري في طرح أسئلة ذات طبيعة إشكالية في مسألة كتابة أدباء عرب بالفرنسية، ويسأل ما إذا كان يمكن اعتبار نصوصهم جزءاً من الأدب العربي، ويجتهد في إجاباته على أسئلته لنفسه في مقدّمة الكتاب، وقد دلّت على معرفته المؤكّدة بالقضية التي ينشغل بها، كما أسئلته للكتاب الثلاثين، والتي دلّت على معرفته المكينة بنتاجاتهم وسيرهم ومواقفهم في غير مسألة، فجاءت محاوراته لهم مرافعات كاشفة تضيء على تصوراتهم في الثقافة والأدب والسياسة، ويجيبون فيها أيضاً على أسئلة تتعلّق بقضايا وجماليات في أعمال محدّدة لهم، أصدروها إبان إجراء الأحاديث معهم أو قبلها، وبذلك، تصير لهذه الحوارات أهمية خاصة تعين دارسي نصوص هؤلاء الكتاب. وكان مهماً لو تمّ توثيق تواريخ إجراء الحوارات لأهميتها في تعيين المرحلة الزمنية لآرائهم في أثنائها، سيما وأنّ أحداثاً سياسيةً يتم سؤالهم عنها، وفي وسع قارئ الكتاب أن يخمن أنّ معظم الحوارات أجريت قبل نحو عشر سنوات، وقبل احتلال العراق، وفي أثناء احتدام أزمة الإرهاب في الجزائر، مثلاً. وكان مهماً لو أشار شاكر نوري إلى وفاة بعض الذين حاورهم، ومنهم المغربيان عبد الكبير الخطيبي وإدمون عمران المليح واللبنانية المصرية أندريه شديد والمصري ألبير قصيري، واقتصرت مثل هذه الإشارة المطلوبة على اللبناني جورج شحادة. بصراحة، يقول العاجي أحمدو كوروما إنك من أجل أن تكون روائياً كبيراً في إفريقيا يجب أن تمر عبر فرنسا، ''لأنّ المركزية الثقافية الفرنسية تهيمن على كل شيء''، وعما إذا كان كتاب في ساحل العاج يكتبون بالعربية، يقول إنّ (المشكلة؟) إن من يكتب (الآن) يكتب بالفرنسية، وبشأن نقّاد فرنسيين يعتقدون بأنه يسيء إلى لغتهم، يجيب بأنّ حقائق في إفريقيا لا يمكن قولها بالفرنسية الصافية للفرنسيين، و''هناك مشاعر وأحاسيس لدينا لا نقدر على التعبير عنها بالفرنسية، ولذلك، أعبّر عنها بالفرنسية الإفريقية، وهذا كل ما في الأمر''، وله دلالة جوهرية قول كوروما الذي يعدّ نفسه كاتباً فرنكوفونياً، لأنّه يكتب بالفرنسية، إنّ لغته إفريقية، وهي الملانكية، لكن المشكلة أنه لا يستطيع الكتابة بها، أمّا أندريه شديد فتقول إن لغتها الأم إلى حد ما هي الفرنسية، لأن والديها كانا يتحدثان ويكتبان بالعربية، فيما كان الجميع يتحدثون في المنزل بالفرنسية، وتفيد بأنّها لم تحاول يوماً الكتابة بالعربية، لأنّها لا تعرفها في شكل كامل، حتى تكتب بها أعمالاً أدبية، على رغم أنّ معظم رواياتها تدور في العالم العربي، وترى شديد أن للكتاب الفرنكوفونيين إضافات كبيرة إلى الفرنسية، وتجيب عما إذا كانت فرنسيةً أم مصريةً أكثر بأنها الاثنتان في آن واحد، ولبنانية بعض الشيء. ويرى الروائي الجزائري بوعلام صنصال إنّ من الجنون القول إنّ العربية أقلّ من اللغات الأخرى، لأنّها على العكس أغنى منها، ويوضّح أنّه بربري وليس عربياً، ويرغب في الكتابة بالعربية، غير أنه للأسف الشديد كما يقول، لا يستطيع، فكلّ دراساته في الجزائر كانت بالفرنسية، ويعتبر أن التعريب فشل فشلاً ذريعاً في بلاده، ودمّرها ومسح التكوينات الأساسية لها، ويشدّد على أنّ موقفه هذا لا يعني معاداته العربية، لأنهما شيئان مختلفان، ويرى أنّ العرب والأفارقة وكتاباً من أماكن أخرى قدموا غنىً خصباً إلى اللغة الفرنسية. أما رشيد بوجدرة، والذي يصفه شاكر نوري بأنه الكاتب النموذجي للثقافة المزدوجة، إذ كتب عشر روايات بالعربية من دون تبجح، ويكتب بالفرنسية من دون عقد الدونية، فيقول إنّ الجزائر عربية مائة بالمائة، واللغة العربية لو لم تكن عظيمةً لما أنجبت شعراءنا الكبار، ويندّد بالذين يعانون عقدةً تزعم أنّ العربية غير قادرة على الأداء الأدبي، فيما هي قادرة أكثر من غيرها، أو بإمكانية اللغات الأخرى نفسها وبقوتها. لا تعتبر الجزائرية الأب والفرنسية الأم، ليلى صبار، أنّ ثقافتها مزدوجة، وتصف نفسها بأنّها كاتبة فرنسية، وتكتب بلغتها الأم، وهي الفرنسية، وتوضّح أنّ ما يميّزها هو الجزء العربي الموجود في ذاتها العربية الجزائرية، مع أنّها تجهل اللغة العربية تماماً، وتعتبر أهمية ما يسمى الأدب الفرنكوفوني في أنّه يقترح متخيّلاً جديداً على اللغة الفرنسية، لكنّه جزء من الأدب الفرنسي. أما ياسمينة خضرة، فيلحّ على أهمية نشر الفكر العربي في اللغات الأخرى، ويرى أنّ قوّة العرب الذين يكتبون بالفرنسية في أنّهم يطرحون هذا الفكر في أدبهم المكتوب بالفرنسية، ويناصر التعريب في بلاده، لأنّ العربية لغة الرسول التاريخية، على غير هذا الرأي، يطرح المغربي عبد الحق سرحان أنّ الفرنكوفونية لا تعني له شيئاً، ويرى اللغة الفرنسية أداة عمل لديه، بالنظر إلى أنّه كبر في أحضانها وتعلّمها، فيما لا يستطيع الكتابة بالعربية، وهو الذي يعيش في المغرب، ويجد الجزائري سليم باشي مؤسفاً أن يؤمن الفرنسيون بأنّ إشعاعهم الثقافي يمرّ عبر الفرانكفونية، أي عن طريق السياسة برأيه، وفي الوقت نفسه، لا يجد أنّ مصطلح الفرنكوفونية لا يعني شيئاً، ''لأنّنا نكتب بالفرنسية، وهذا كل ما في الأمر، لأن اللغة هي لغة، والأدب هو الأدب''. وفي الحوار معها، توضّح الشاعرة إيتيل عدنان أنّها تكتب بالإنجليزية أكثر مما تكتب بالفرنسية، وتقول إنّ مصطلح الفرنكوفونية ينحدر من الاستعمار، لأنّه عندما يقدّم أوروبي من طراز يوجين يونيسكو وتريستان تزارا وصموئيل بيكيت، على الكتابة بالفرنسية، لا نطلق عليهم تسمية كتاب فرنكوفونيين. ويحاور نوري الكاتب والسجين المغربي السابق جواد ميديديش، والذي له رواية عن تجربته هذه، كتبها بالفرنسية لأنه وجد فرنسيته أفضل من عربيته. يصف شاكر نوري الشاعر اللبناني صلاح ستيتية بأنّه أحد أربعة كتّاب عرب أضافوا إلى الفرنسية نكهةً جديدة، ممزوجةً بالعطر العربي وأساطير الشرق، وحملوا النار المتوهّجة إلى لغة آخذة في البرود يوماً بعد آخر، وشديد الأهمية قول ستيتية إنّه لا يسيطر على العربية والفرنسية، وربما يتقن الفرنسية التي تسيطر عليه، ويعبّر عن ابتهاجه بفوزه بالجائزة الكبرى للفرنكوفونية، ويقول إنه معتز بأنه عمل، عبر ثلاثين عاماً من الاشتغال بالفرنسية، لمصلحة الثقافة العربية. أمّا الحائز على جائزة ''غونكور''، المغربي الطاهر بن جلون، فيقول إنه لو كتب بالعربية التي لا يسيطر عليها تماماً، بحسب إيضاحه، فسينتج نصوصاً متواضعة، غير جديرة بجمالية هذه اللغة وعظمتها، ولا يستفزه سؤال في شأن أصوات تقول إنّه يكتب للغربيين الذين يتذوّقون الأشياء المجلوبة من الخارج، بل يجيب بأن هذا ممكن، لكنه غير واع به، ويفيد الفائز أيضاً بالجائزة اللبناني أمين معلوف بأنّ من المفارقات في الوسط الثقافي المبكر الذي عاش فيه أن الرواية واللغة الفرنسية كانتا غائبتين فيه، وأنه عاش في جو عائلي قريب للغاية من جو الجامعة الأمريكية. هؤلاء الكتاب، ومعهم المخرج السينمائي السينغالي عثمان سمبين الذي يعتبر إفريقيا قلب العالم، وكذلك الباحث الجزائري مالك شبل الذي قتل الفرنسيون والده، والروائي اللبناني غسان فواز ومواطنه الشاعر فؤاد العتر والروائي المغربي ماحي بينبين، يطوف معهم قارئ كتاب ''منفى اللغة...''، ويطلّ على تجاربهم الثرية، ويتعرّف إلى مصادر تكوينهم المعرفي ورؤاهم الثقافية، والتباسات علاقتهم بلغاتهم الأم وبالفرنسية. وتيسر محاورات شاكر نوري معهم في الكتاب بهجة خاصة في استكشاف عوالمهم المتنوعة، وأحياناً من دون كثير اكتراث بفرنكوفونيتهم، لا سيما أن منهم من ليس فرنكوفونياً بالمعنى الاصطلاحي، وإن كتب بالفرنسية، وإن ضمه شاكر نوري بين دفتي كتابه الرائق.