في دار حفظ الأمانات ينام سيف الصحابي الجليل عمرو بن الخطاب رضي الله عنه، كما سيف أبي بكر الصديق، سيفان للرسول (صلعم) جلبهما السلطان أحمد الأول، ثم قوسه، إضافة إلى سيف الخليفة عثمان بن عفان، وفي القاعة الثانية، المحاذية لدار حفظ الأمانات، الثوب الفاخر للسلطان بايازيد الثاني (1481-1512) وبيانه الشهير الذي يعود إلى سنة 1579، وأدواته الحربية: سيفان وثلاثة أقواس وقفطان الأمير الذي يلبس في الاحتفالات، ومفتاح الكعبة الشريفة. الدخول إلى قاعة حفظ الأمانات والقاعة المقدسة على وقع القرآن الكريم من ترتيل شيخ شاب بلباس تركي إسلامي. الأتراك لا يفهمون العربية، وهم يحفظون الآيات صوتيا، دون معرفة كلماتها ومعانيها، لكن قراءاتهم مثيرة، مثل الآذان الذاهب إلى الآفاق كفراشات من الحروف الخضراء. يجب سماع ذلك. يجب. إنهم يقرأون القرآن مثل العصافير. تلك هي الصورة المناسبة قليلا. أما أنا فسأتذكر دائما ذلك الصوت الخاشع، الصوت الذي لا يعرف ربما ما يردده، لكنه يفعل ذلك بإيمان، وبحب كذلك. مكتبة السلطان أحمد الثالث: قبالة دار السعادة، المزهوة جدا بشكلها وزخرفتها الحاذقة، وأسرارها الخبيئة في ذاكرة الماضي، تقع مكتبة الأندرونا المخصصة للطبقة العليا من خواص الحرم. ما يعني أن القراءة كانت فرضا، كما يدل على ذلك ترتيب المكان وأثاثه. لا بد أن السلطنة كانت حريصة على الكتاب، ما تعكسه العلامات الكثيرة التي توقظ العقل. المكتبة مؤسسة على الخزف الصيني المهيمن على منشآت توب كابي برمتها، وعلى جل البنايات القديمة التي تم الحفاظ عليها تكريما للتاريخ والذاكرة القومية. الأتراك لا يخطئون في ذلك، لا يبنون أبدا منشآت لا روح لها، وأهم من ذلك فإنهم لا يخربون ماضيهم ومتّكأهم. وذاك عنصر من عناصر قوّتهم وفهمهم للذات. كم هي جميلة نوافذ مكتبة السلطان أحمد والنافورة الخامية الخالسة بتواضع في مدخل القاعة! جميلة ودالة: الأصداف والزجاج الذي كمنمنمات “مطرزة" بعبقرية الأجداد ووافر المعرفة العمرانية التي لا تموت. وتلك الألوان التي كقوس قزح محلي. أما الأطر الزجاجية فتحمل كلها أبياتا شعرية عربية جيء بها من المدونات القديمة: من العصرين العباسي والأموي، وهي تبدو منسجمة مع القبة المسندة إلى أعمدة رخامية يتدلى منها نبراس أثري. في هذا الجو المثالي كان يجلس خواص الحرم: ليقرأوا، ليستمعوا إلى العلماء. كانت المطالعة جزءا مهما من فلسفة القصر، رغم انزلاقاته اللاحقة، كما تراها عيون التاريخ الكامدة. الحرم وتعني الأمر المحرم. المكان شبيه بأجواء الأساطير اليونانية التي يتعذر إدراك عوالمها السحرية، وهو مخصص لعائلة السلطان. لقد بناه السلطان فاتح، وفيه تزوج السلطان سليمان بالجارية “هُرم". الحرم لوحده مدينة داخل القصر، داخل اسطنبول المليئة بالدلالات والاحالات التي لا حصر لها. لا يمكن، بطبيعة الحال، معرفة كلّ ما بداخله. ثمة أماكن محظورة على السياح، وأخرى قيد الترميم. الحرم بمفرده مؤلف من ثلاثمائة غرفة، إضافة إلى مسجدين ومشفى وأروقة وحوض ودهاليز يبدو أنها صممت كذلك لمقاصد أمنية. وذلك مجرد تأويل قائم على المقارنة العينية، وهي شبيهة، إلى حد ما، بتصاميم قصور المدن الجنوبية، وربّما كان للتكييف دوره أيضا. الدخول إلى الحرم عبر بهو طويل يقودك إلى أنفاق مؤدية إلى أقسام موزعة وفق النظام الداخلي للسلطنة: أماكن الجاريات والخدم، الأبناء غير المسلمين، السلطان وجواريه، والدة السلطان، قصور وحمامات السلاطين. ويمكن أن نلاحظ على يسار المدخل، مدخل باب الجملة، دكة رخامية بطول ستة أمتار أو سبعة. هنا يبدأ التمييز، أو ذاك ما يمكن استنتاجه ببعض التحفظ. الدكة هي المكان الذي يوضع فيه طعام الجواري ليأخذنه بعد انسحاب رئيس الخدم من المكان، المكان إياه شبه معتم بالموازنة، شبه مهمش، إن لم يكن كذلك. لا خزف ولا رسومات ولا لوحات. الشامي شامي والبغدادي بغدادي. إنّه أشبه بمستودع باهت في الهواء الطلق، رغم أنه مسقوف. وقريبا منه، على الجهة اليسرى، غرف الجواري (المغلقة اليوم)، وهي تبدو، في مظهرها، أقل قيمة، مئات المرات، من إقامات الأسياد، إن نحن استندنا إلى القياس. مع ذلك يعتقد بأنهن كن محظوظات هناك. كذلك يقول بعض التاريخ. غرف الجواري، كما تبدو للزائر من جهتها الخارجية، لا توحي بأي اهتمام خاص. ما يحيل على قيمتها الحقيقية من منظور الحاكم آنذاك، وفي كل الأوقات، لأن التمييز ليس ظاهرة خاصة بالسلاطين الأتراك، إنّما بحقب مختلفة ميزت القارات جميعها، دون استثناء. ومقابل ذلك نجد غرفا جميلة للشابات الموعودات للسلطان، وهي تتوفر على حمامات وحنفيات دلالة على الحظوة. وثمة خمس عشرة غرفة للشابات الجميلات اللائي يتعلمن الرقص والموسيقى والآداب. ويمكن أن نلاحظ في مدخل البهو مرآتين كبيرتين متقابلتين تعكسان الجهات مجتمعة، وهي ظاهرة، بقدر ما تبدو غريبة، بقدر ما تعكس دهاء المعماريين وتصوراتهم المتقدمة من أجل ضمان سلامة القصر: المرأتان مخصصتان أصلا لمراقبة حركة الزنوج (الخدم الذين ارتفعت درجة بعضهم إلى التقرب من السلطان) تفاديا للمفاجآت التي تنغص هدوء القصر وراحته. وكلما ابتعدنا عن الباب الخارجي اقتربنا من أهل القصر الحقيقيين، وقد يكون لهذه الهندسة دور في حماية السلاطين، إذ يبدو ابتعادهم عن المداخل من باب الحذر. وتلك خاصية بارزة للعيان في توب كابي. في عمق البهو استقرت غرفة نورهان، والدة السلطان مراد الثالث. وهي ليست غرفة بالمفهوم المتداول، بل قصرا فخما من طابق واحد (لا يمكن الصعود إلى الطابق الأوّل)، وقد صممت بعبقرية فائقة وزيّنت بمنمنمات من كل جهة، إلى أن غدت منمنمة كبيرة لفنان موهوب كان يدرك شأن من سيسكنها. إن دار الوالدة ليست سوى تحفة، حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة التي قالت عنها الأجيال إنها مجرد خيال لذاكرة جماعية فيها مغالاة وأحلام. بعد موزع ساحة والدة السلطان، وفي الجانب الأيمن، تقع غرفة الأمير، وهي قاعة فخمة مزينة بمنمنمات، وبها حوض ماء، وإلى جانبها غرفة مراد الثالث (1579) التي تشبهها أناقة وفخامة، سواء من حيث الشكل أو من حيث طريقة تزيينها بالخزف والمنمنمات الباهرة التي ميزت الحقبة العثمانية على مدار مئات السنين. وقد كتبت عليها، على غير عادة الدور الأخرى، آية الكرسي (مع الإشارة إلى أنّ آيات كثيرة وأسماء وأقوالا مأثورة كتبت على المنشآت القديمة باللغة العربية، وهي لا تزال قائمة رغم اختفاء هذه اللغة وحروفها من الحياة التركية قاطبة). وإلى جانبها غرفة أحمد الثالث (أوائل القرن الثامن عشر). لقد تدخل الذوق الأوربي وعصر الورد في تزيينها، وبدأ التخلي، ولو تدريجيا، عن التقاليد العمرانية العثمانية التي شحذها الوقت والتجربة والأصالة. إنّ هذه الغرفة القصر عبارة عن تلوينات، أو عن ثقافتين من حيث إنها جمعت ما بين التزيين بالورد وكتابة الآيات القرآنية على الخزف الذاهب نحو فقدان ألقه القديم. مسبح الأقزام الظاهر أن السلاطين كانوا يميلون إلى نوع من التسلية التي تحتاج إلى مساءلات عن طريقة انتشارها في القصر المتشبث بالدين. كان السلاطين والأبناء يتسلون برؤية الأقزام يقومون بحركات بهلوانية مضحكة على قواربهم الصغيرة في المسبح الكبير المفتوح على مضيق البوسفور الهادئ. وقد وجد المسبح بمحاذاة مجموعة من القصور المزدوجة التي تحيل على أواخر عصر العمران الكلاسيكي. والملاحظ، من خلال القصر، أنه بدأ يعكس وهن الدولة العثمانية، فالنوافذ من الزجاج العادي والشبابيك من الخشب الذي يفتقر إلى النقوش الراقية المهيمنة على القصر (وعلى أغلب أبواب ونوافذ مساجد المدينة) القديمة. وقد خصص فيه طابق للزوجات. الدّهليز المحاذي يقود إلى طريق الذهب الذي أنشأه محمد الفاتح، وهو من أقدم أقسام الحرم المدهشة. كان السلطان يمرّ منه ويوزع قطع الذهب على الحاشية التي تلتقط ما تيسر منها. ولهذا الممر تاريخ مأساوي أيضا. لقد تعرض فيه محمود الثاني إلى هجوم من معارضيه الذين أرادوا تصفيته، وكاد أن يقتل لولا تدخل حارسه الأمين الذي أنقذه برمي الجمرات، كما تقول الحكاية. الدهليز الطويل، كما الدهاليز الأخرى، يدخل في استراتيجية البناء التي تريد الحفاظ على أمن السلطنة بطريقتها الخاصة. أما ساحة الحيمايون، القريبة من أندرونة، فهي ساحة خاصة بالسلطان وحريمه، السلطان سليمان القانوني وآخرين، وفيها قصور خاصة ومسابح وورود. هنا استقبل السلطان سليمان خير الدين بربروس. وقد أسّس أحد القصور، قصر ريوان في عام 1635، من قبل مراد الثالث بعد عودته من معركة ريوان التي انتصر فيها. القصر تحفة من المرمر والأصداف والخزف الصيني المنمق بمختلف الأشكال والرسومات. وبمحاذاته استقر قصر الافطارية الذي أسس في عهد السلطان إبراهيم، ويعتقد، بحسب المؤرخين أن السلاطين كانوا ينتظرون الآذان هناك في شهر رمضان، مطلين على بهاء البوسفور والمحيط الأخضر، لتناول وجبة الإفطار. وقرب هذا القصر الجميل استقر القصر البغدادي الواقع في المركز، وقد بناه مراد الرابع في عام 1638، ويشتهر هذا القصر بقبته العملاقة الملونة وبطريقة تزيينه: آيات قرآنية وصدف وخزف، إضافة إلى المدخنة والأثاث القديم الفاخر. غرفة التطهير: استخدمت في الاحتفالات الخاصة بالختان، وهي ذات جدران مزينة بالمنمنمات، مثلها مثل السقف، وهناك قرب نوافذها حنفيات صمّمت على الطريقة المعروفة في القصر المليء بالنافورات والحنفيات المنمقة، المبنية على هيئة تحف شبيهة ببطاقات بريدية. كما يمكن أن نلاحظ على الجدران منمنمات ضخمة تعود إلى القرن السادس عشر. وبجانب القصر والمسبح يقع “القصر الموزع" المنتشر على سهل من الورد، وسمي أيضا قصر مصطفى باشا، ويعود تاريخه إلى القرن الثامن عشر. يطل هذا القصر المزين بالأحجار الكريمة على نهر البوسفور وعلى تلّ أخضر شاسع يليق براحة السلاطين. غيض من فيض لم ننقل فضاء قصر توب كابي نقلا أمينا بالنظر إلى شساعته ومكوّناته وزاده ومضمراته. ثمة أشياء كثيرة يجب رؤيتها والوقوف عليها، وهناك أسئلة كثيرة يجب أن يطرحها السائح والمؤرخ والفنان ورجل الدين. ثمة ما يدعو إلى الحيرة بالنظر إلى عدة تناقضات يصعب تأكيدها، ومنها ممارسات السلاطين وعلاقتها بالدين، رغم إلحاحهم على هذا الجانب الذي بدا أساسيا في العلامات العمرانية، على الأقل. بيد أن العلامات الحياتية تحيل على أمور أخرى يتعذر قبولها إن كانت كذلك فعلا، بغض النظر عما ورد في مسلسل قصر الحريم الذي زعزع هدوء الذاكرة واطمئنانها. خاصة ما تعلق بحياة سليمان القانوني الذي يعدّ مرجعا للأتراك وسندا لهم ولهويتهم التاريخية. الناس في تركيا مصدومون، وهم لا يصدّقون الصورة “المشوّهة" التي عكسها المسلسل الذي صور في توب كابي، حيث كان السلاطين والأبناء والحريم والجواري، وحيث العوالم الخرافية التي مالت إلى اللهو والبذخ والجريمة من أجل ضمان الخلافة، ومن أجل الحياة، ليس كما يراها الدين، بل كما تريدها التأويلات والنزعات المتباينة التي قرأت الدين من منطلقات تخدمها. أو هكذا يبدو من خلال بعض الأمارات. الأتراك متذمّرون من الفهم الجديد للسلطنة، وهم، إذ يتخذون مواقف سلبية من ذلك فلأنهم يعتزون بانتمائهم الحضاري ولا يرون ضرورة لمراجعة التاريخ، أو بعض التاريخ بالطريقة التي يراها الآخرون لغايات تخصهم وحدهم. إنهم مع أجدادهم الأتقياء الورعين الذين شكلوا سلطنة أضاءت العالم، أمّا المسلسل، أمّا وجهات النظر التي تمس بجوهره فليست ذات شأن. لا مجال لإيقاظ المضمرات. ثمّ... يجب التأكد منها. النخبة أيضا ليست متحمسة لما يقال، وليست معنية بالمسلسل الذي أحدث شرخا وما يشبه الصدمة. الجامعة لا ترى ذلك كما حدثنا أساتذة قسم الأدب بإسطنبول. لقد ألحق بهم المسلسل ضررا من حيث إنهم يرون أن السلطان سليمان القانوني كان قانونيا، وكان رمزا، أما ما يذاع عنه فليس سوى تشويه للحقائق التاريخية، ولجزء معتبر من الخلافة العثمانية وإنجازاتها لغايات تهم جهات معينة يدعمها المال، ليس إلا. تقفيلة: في كلّ الأحوال، في أحسنها أو في أسوئها. قصر حريم السلطان يشبه ما ورد في الحكايا السحرية، وهو لا يقع في الجمهورية التركية فحسب، إنّه في كل مكان من هذا العالم المريض الذي يحكمه مرضى، مرضى يحكمون شعوبا مريضة. لقد خرجت من توب كابي بهذه الفكرة التي تلخص حياة الشعوب والحكام: الدنيا عبارة عن سلاطين وقطعان من البهائم التي تسمّى الشعوب، المتقدمة منها والمتخلفة، هناك دائما في هذا الكون قصور للحريم موزعة هنا وهناك في كل هذه الأرض الموبوءة. مع ذلك فعلينا أن نثني على الأتراك الذين عرفوا كيف يحافظون على هذه الأنوار، على جزء مهمّ من الذاكرة، وبتلك المهارة النادرة التي تنمّ عن ذوق رفيع، وعن فهم متقدّم للموروث وللآثار. شكرا لتوب كابي.