أحمل حقيبتي السوداء المحملة بالأوراق والكتب والجرائد الجزائرية والفرنسية، الساعة تقترب من الواحدة بعد الظهر، أقف أمام نقطة الرقابة، أكشف عن جواز سفري وبطاقة الركوب، أدخل ذلك الرواق المغلق المؤدي إلى مدخل الطائرة القابعة كأبي الهول في صمت وخشوع جليلين.. الطابور طويل لكنه غير مثير للسأم والقلق، يتحرك كحبل خفيف الحركة، وجوه عامرة بالصمت الناطق الذي يكشف تحت غلافه السميك إشارات وعلامات غامضة الفصاحات.. شاب مصري يتجاوز الثلاثين يتحدث بسرعة وجيزة وبارقة إلى زميله المصري الممتلىء الجسم، تتطاير كلماته المتقاطعة كالشظايا في فضاء مغلق.. يتعرف شرطي على الزميل العربي زواق الذي يجيد المحادثة المتدفقة التي تذكرك بأهل السهوب العاشقين لسرد القصص والحكايات الصغيرة غير القابلة للانتهاء والتوقف.. أفتح محفظتي، يلقي الشرطي نظرة خاطفة إلى ما بداخلها.. أوراق، دفاتر وكتب، أحدق في وجهه، ملامح سمراء، عينان سوداوان، جبهة عريضة، أنف شبه مفلطح، وفم كذلك عريض.. تستقبلني عند مدخل الطائرة المستضيفة بابتسامة في سرعة البرق، لا يوحي مظهرها بالجمال والرقة، بدينة، متوسطة القامة، تتحرك وهي تشير عليك بمقعدك كأنها ذكر.. تتحرك الأجساد وهي تحمل الحقائب المتعددة الألوان والأشكال والأحجام.. أصوات هنا وهناك مصرية وجزائرية راحت تملأ المكان الساكن وتبعث فيه نوعا من حيوية السفر.. هي نفسها، ذات نفس السحنة والمذاق تلك الأجواء الحنيقية للرحلات.. يبدأ قلبك بالانقباض (هل هو الخوف من غموض الرحلة؟) لينفرج شيئا فشيئا على لحظات جديدة قد تحمل لك معارف جديدة، ولحظات مشرقة عابرة كالطيف الذي يبرق في قلب لحظة من لحظات حياتك التي هي في نهاية المطاف برغم ما تحمله من شحنات وقلاقل ومخاوف ومشاعر ومحطات شتى مجرد رحلة لا تعرف محطة توقفها بشكل واضح ودقيق.. أجلس بحذاء الرواق الطويل للطائرة بعد أن تخلصت من الشاش.. الجاكيتة السوداء ووضعت المحفظة أمام قدمي برغم أن الخزانة العلوية كانت فارغة... يجلس إلى جانبي الزميل نجيب، يتحدث بعربية أقرب إلى الفصحى يتخللها إيقاع خفي للكنة الجيجلية وقهقهات متقطعة حادة ووجيزة النبرة.. تمنيت منذ اللحظة الأولى لركوبي الطائرة أن استسلم لنوم عميق، كانت أمنيتي مثل الاعتقاد الراسخ، لكن هيهات فلقد هرب النوم مني وطار مثل طير دوري نزق في سماء لا أعرف حدودها... التفت خلفي، تأتي أصوات من الخلف، كانت لزملاء في الأقسام الرياضية متوجهون إلى القاهرة ومن ثمة إلى جنوب إفريقيا لتغطية مباريات الفريق الوطني لكرة القدم، في منافسات كأس إفريقيا.. لم أكن متفائلا ومتحمسا للفريق الوطني الذي بدا منذ وقت طويل هزيلا ومثيرا للقلق.. التقيت بنفس الزملاء لدى عودتي إلى الجزائر من رحلتي إلى السعودية، كانوا مرهقين ومتعبين وعلى وجوههم خيبة مريرة.. وكان أحد الشباب، قال لي بأن اسمه بشير يتجاوز العشرين بقليل يشعر بالغضب ليس بسبب هزيمة الفريق الوطني الذي خرج من الباب الضيق، بل بسبب تعليقات المصريين الذين استفزوه في المطار بالقاهرة الذين علقوا بشكل من التشفي على هزالة الفريق الوطني، وراح يؤكد افتخاره كونه جزائري ومشجع وفي إلى درجة التعصب المجنون للفريق الوطني وكون رئيسه عبد العزيز بوتفليقة الذي لم يبخل في ما أصبحت معروفة لدى الإعلاميين الجزائريين بموقعة أم درمان التي جمعت منذ أكثر من سنوات بين الفريقين الجزائري والمصري لما وفر للأنصار طائرة حربية! سرى صوت المستضيف ليعلن عن هوية قائد الطائرة وفريقه متمنيين لنا سفرا طيبا وممتعا، ثم انطلق من على الشاشات الصغيرة المعلقة أمامنا صوت وكأنه صوت إمام يلفظ بدعاء السفر، وهنا تفتح نافذة من نوافذ أبواب الغيب.. دعاء يذكرك بأهوال غامضة قد تنزل على رأسك كالعقبان وتشرع أمام قلبك كل المخاوف المبهمة المتعلقة بفقدان الأهل والمال ومنصب العمل فيرقص أمامك الموت كالوطواط الذي لا يجيد الطيران إلا تحت جنح الظلام.. أجل، إنك هنا على متن هذا الطائر الفولاذي وستخترق الأجواء وتجوب تحت قبة السماء وعندها سيطير جنبا إلى جنب هذا اللغز الأزلي المسمى الموت، وعندئذ تتذكر وتجول بخواطرك كل تلك الخيالات والأطياف والظلال التي تنساها أو تتناساها في لحظات غرقك واستغراقك بعيبوب الدنيا الهائج والهادر والمستديم في تحركه وتدفقه والمليء بتلك التيارات التي تتنازعه وتتقاذفه كالأقدار.. بدأت الآلة الضخمة العامرة بالركاب والراكبات ومختلف الحمولات بالتحرك، انطلقت بتكاسل وتثاقل، ثم كسلحفاة البحر، ثم بجنون وعناد وتصميم مدويين، راحت تلتهم الأرض أرضا وكأنها متجهة إلى ساحة الوغى حيث العدو وهنا يتربص وينتظر.. ثم شرعت باتجاه الأفق بشكل متمايل، ومنحني، ثم كالرمح الآلي الجهنمي خارقة ستائر الفضاء الممتدة إلى ما لا نهاية لتستوي هكذا باسطة جناحيها العملاقين في السماء، تأكدت من الحزام الواقي ومن المحفظة التي كانت أمام قدمي، وما هي إلا لحظات حتى شعرت بالحرارة صعدت إلى رأسي، بل كامل جسدي من أخمص قدمي فتخلصت دون تردد من حذائي الشتوي ومن جواربي ورحت أتلذذ بملامسة أرضية الطائرة.. ما أروع أن يعيش المرء حافيا وتعانق قدميه الثرى والحصى.. كنت كذلك عندما كنت صغيرا، خاصة حين يجمعني سباقا على طول المسلك المحاذي لمسقط رأسي، المؤدي إلى بحيرة سيدي محمد بن علي، ذلك الصوفي النائم منذ وقت طويل في ضريحه نومة أهل الكهف.. وشعرت بذات اللذة وأنا أمشي حافيا على أرض مكة في حالة طواف بالكعبة، وكذلك وأنا عائد بعد أن لاحت خيوط الفجر من الحرم المكي إلى حيث كنت أقيم بالفندق غير البعيد عن الحرم لما فقدت ولمرتين حذائي ونعلي.. لم أنتبه لنصائح وتعليمات المستضيفة الشقراء ذات الابتسامة الصريحة والعينين الزرقاوين العسليتين التي كانت تتحرك كالدمية الآلية من على الشاشة الصغيرة المعلقة، تحولت هذه الإرشادات مثل الروتين الذي يجرد الكلمات والحركات من رونقها وروحها وجدتها... وفجأة ظهر مستضيفان، إلى جنب المستضيفة الشبيهة بالذكر.. في العشرينيات من عمرهما، ويحملان نفس الملامح المصرية التي تذكرك بالأصول الفرعونية للمصريين، قاموا بتوزيع الجرائد الحكومية على بعض المسافرين العاشقين للقراءة وترقب الأخبار مثلي، الأخبار، الأهرام، روز اليوسف، والمصور.. ولا أثر للجرائد الخاصة.. هل ورث الإخوان - الذين بعد طول اضطهاد وصراع واستغراق في لعبة القط والفأر مع فترات الحكم الممتدة من الملك فاروق إلى حسني مبارك، أصبحوا حكام مصر الجدد- ذات السلوكات لخصومهم ومضطهديهم السابقين..؟! “مصر، لم تعد بخير" قال لي أحد المصريين الذين التقيت بهم في هذه الرحلة، لم يكن أحد ينتظر اندلاع الثورة بذلك الشكل، وسقوط آخر فراعنة مصر بتلك الصورة، ودخول مصر في دوامة من الغضب والشكوك والدراما والتراجيكوميديا السياسية بهذا المظهر، ومع ذلك فإنها تدور.. “هي الثورة هكذا" قال أكثر من واحد، ومن مراقب ومن فاعل ومن موالٍ ومن معارض ومن محبذ ومحب ومن ناقم مرتاب، عالم يضمحل ويتداعى وعالم يولد حاملا معه كل علامات المخاض الأليمة، بينما أم الدنيا راحت تكتشف كل أصواتها المعذبة بالتناقضات التي كانت منكمشة وملتفة على نفسها في سراديبها المظلمة وشديدة الدجى.. تتعالى الأصوات رافضة أخونة الدولة، وترد أصوات أخرى، “لن يسقط مرسي" ثم حوادث كثيرة، فيها صخب ودم، وعبث ومقاومات يومية لأن يصبح اليوم والغد أحسن حالا من الأمس.. أتصفح الجرائد، الواحدة تلو الأخرى.. نتبادل الجرائد المتاحة بيننا نحن المتوجهون إلى المملكة السعودية عبر القاهرة، قاهرة المعز بالأمس، وقاهرة شباب الثورة والحداثيين والإخوان والسلفيين وبقايا البلطجيين وقدامى النظام الذين يقاومون هم الآخرون للبقاء على قيد هذه الحياة التي تنازع بقوة وعناء من أجل الإستمرار والولادة معا... إلى أين تتجه مصر؟! ليس ذلك هو السؤال بل تلك هي المعركة الجارية رحاها على مسرح الراهن، مسرح التاريخ الجديد قيد الكتابة على فضاء ساحة التحرير وساحات مصر الأخرى التي تحولت إلى قلاع معارك رمزية... اختفت الدمدمة وعاد السكون من جديد لينشر أجنحته داخل هذه الآلة التي استسلمت إلى استكانة عميقة.. راح المستضيفون يجرون تلك العربة الحاملة للوجبات الغذائية.. فتحت الصحن المليء بالأرز والدجاج والسلاطة والحلويات، لكن في نهاية الأمر لم أجدني قادرا على الإستهلاك فاكتفيت بالشاي متمنيا من أعماقي لو أرفقته بسيجارة المالبورو لايت، لكن من أين لي هذا، وصوت المستضيف يردد بشكل حازم، المنع المطلق للتدخين حتى داخل المرحاض المراقب، فما أحلى يا إلهي تلك الأزمنة التي كنا ندخن فيها، ليس فقط في الأمكنة والمطاعم، بل حتى على جنح الطائرات!! استسلم نجيب إلى النوم، حسدته على ذلك وأنا أنظر إلى رأسه الملتوي، ومن وراء رأسه، كانت السماء تركض في الخارج المطلق، كانت تركض عبر تلك الأكوام البيضاء الشبيهة برؤوس الخيل، خفيفة الظل والحركة... فيلم كلاسيكي كان يتحرك عبر شخوصه على الشاشة الصغيرة، فيلم أبيض وأسود يعود إلى زمن مصر الرومانسية... الحب، والحبيب والحبيبة والنهاية السعيدة بعد الدموع والعناق العامر بالقبلات التي اختفت عن الشاشات العربية منذ أن انبعثت أزمنة الصحوة الدينية من تحت الرماد.. عدت إلى أسئلتي وأوراقي مستعيدا قصة السعودية من البداية، بدايات لحظة التشكل والتأسيس، ولحظة المغامرة الكبرى التي ركب موجها رجلان.. الأول داعية، جره حنينه إلى زمن النبوة والخلفاء الراشدين إلى محاكاة لحظة ميلاد الإسلام المبكر في قلب الصحراء العربية ولقد وجد حليفه الذي بعثته إليه العناية الإلهية في نظر الأنصار والجماعة، ليجعلها من الحلم والمغامرة، حقيقة على الأرض أضحت تسمى المملكة العربية السعودية.. الإسلام الإمبراطوري الذي كانت ترعاه الإمبراطورية العثمانية في مأزق. وكان يحذوها طموح كبير لبسط سيطرتها خلال القرن 16 و17 على أرض الحجاز، حيث الحرمين وذلك لأن تستمد في ذلك شرعيتها الدينية لما يتمتعان به من دلالة رمزية وشحنة دينية، لكن ليس هذا وحسب، لكن أيضا إحكام “سيطرتها على مضيق باب المندب وحماية البحر، البحر الأحمر من التوغلات الأوروبية.." وكذلك إحكام السيطرة على منطقة الإحساء قصد الحفاظ على جنوب الإمبراطورية المترامية الأطراف من الهجومات الفارسية والأوروبية ووقاية تلك المصالح الإقتصادية التي كانت ثمرة توسعها الإمبراطوري، كل ذلك بدا مهددا ومعرضا للتداعي والانهيار مع نهاية القرن السابع عشر بحيث راحت تتوالى إخفاقات الإمبراطورية على الصعيدين السياسي والديني وذلك تحت ضربات تيار التشيع الذي بدأ بالتعاظم في كل من العراق وفارس، وأمام ملامح التدخل الأوروبي في المشرق العربي وبشكل خاص على طول الساحل الجنوبي والجنوب الشرقي لشبه الجزيرة العربية.. أثار مثل هذا المشهد لدى حكام الإمبراطورية تفكير جديد لإعادة النظر جذريا في الإستراتيجية السابقة، وهو التراجع ووضع ولو بشكل مؤقت حد للنزعة التوسعية للباب العالي على منطقة شبه الجزيرة العربية وكانت النتيجة الرئيسية لمثل هذا الإنطواء فتح المجال للنزاع والصراع أمام ممثلي القوى المحلية من القيادات والأمراء التقليديين الذين اعتمدوا على الحروب ذات الطابع القبلي واليدوي بامتياز.. وفي ظل هذا المشهد، لم تكن منطقة نجد تكتسي أية أهمية استراتيجية في نظر الباب العالي وذلك ما جعلها تنأى بنفسها عن دائرة تلك الصراعات والإضطرابات السياسية الكبرى في نظر قوى التدخل الكبرى المتحالفة على مصر الرجل المريض... كانت نجد عبارة عن هضبة “صحراوية شاسعة تتخللها مراع ونقاط مياه" تقيم على أرضها جماعات من البدو والحضر، وكانت طبيعة نظامها الإجتماعي تقوم على نوع خاص من القرابة، المعبرة عن نفوذ السلطة التقليدية وهيمنتها وذلك ما أضفى عليها حالة من الصراع الدائم وغير المستقر بين العائلات التي تسيطر على الواحات وحلف القبائل المسيطرة على نقاط مما يساعد على تأجيج الحروب القبلية والعشائرية والنزاعات السياسية بين البدو والحضر من جهة ومن جهة ثانية تأجج الصراع داخل مجموعة، ومثلما يذهب صاحب كتاب “علماء الإسلام" محمد نبيل ملين “كانت الأحلاف البدوية تقوم أساسا على نقاط المياه والمراعي وكان ذلك يزيد من أهميتها وهيبتها ويعزز رأسمالها المادي والرمزي من خلال عمليات الغزو وتحقيق الغنائم والحصول على الأراضي وفرض الأتاوات إلا أن النصر المحقق والمنجز لم يكن يحتفظ بديمومته، فسرعان ما يعاود المهزوم الفرصة من جديد فيعلن تمرده وبالتالي حربه وهذا ما يفتح الباب على مصراعيه لإعادة إنتاج سلسلة من الثارات.. كما كانت حالة الحضر أمام الغزوات المتكررة للبدو وفي منطقة نجد تشعرهم بالحسرة والقلق، والمعاناة، خاصة إذا ما أضفنا لها تعرضهم لمضايقات جيرانهم الفرسيين والشرقيين في كل من مكةوالأحساء الذين كانوا يطالبونهم بدفع الأتاوات إلى جانب تلك التداعيات المترتبة عن النزاعات القبائلية مثل انتشار ظاهرة قطاع الطرق وأعمال السلب والنهب التي تعطل طرق القوافل.. وفي ظل هكذا مشهد يتسم بالهشاشة فشلت الأحلاف القبلية في بسط سيطرتها على نجد انطلاقا من تلك الممارسة للسلطة التقليدية، وكان البديل لتحقيق ذلك يتمثل في ضرورة خلق قوة فوق قبلية، قوة تعتمد على تحالف مقدس بين ايديولوجيا ذات طاقة على التعبئة والتجنيد وبين قوة مادية، تمتلك سلطة الردع والتوحيد قادرة أن تتحول إلى مؤسسة عسكرية وسياسية وهنا يكمن سر التحالف الذي سيتحقق بتعاون ولقاء مثمر بين داعية ديني وبين سياسي مسلح... يتبع