أفتح عيني من جديد مهلوعا.. كان الهاتف الجوال يرن.. وبصوت مثقل بالكوابيس أجبت دون أن أنتبه إلى الرقم المسجل على الهاتف الجوال... كان صوت كمال جوزي الذي سيكون رفقة الصحفيين الخمسة المتوجهين إلى المملكة العربية السعودية.. صباح الخير، احميدة.. آسف على الإزعاج.. صباح الخير كمال.. كيف الحال؟! لا.. لا بدون حرج.. خيرا أنك اتصلت.. قل لي.. ستكون معنا، أليس كذلك؟! بالتأكيد... إذن سنلتقي بعد قليل في المطار.. بالتأكيد، يا كمال، بالتأكيد.. حسنا فعلت أنك اتصلت.. تعرف أني لم أنم باكرا.. إذن.. إلى حين... سلام، شكرا.. إلى حين... استيقظت على عجلة من أمري.. اتجهت رأسا إلى الدوش... ثم جلست إلى زوجتي فاطمة الزهراء.. حضرت فطور الصباح.. كانت سلاطة وحريرة.. ثم تناولت فنجاني قهوة، تأكدت من أن سائق الجريدة مراد يكون قد وصل.. ثم اتجهت إلى مقر الجريدة.. تصفحت الجرائد، وتأكدت من أنني لم أنسَ بعض الكتب التي عزمت أن أحملها معي.. ثم تأكدت من الوثائق التي يجب ألا أنساها... تشير الساعة إلى التاسعة والنصف صباحا، وضعت الحقائب في مؤخرة السيارة اللوغان.. لم تكن في السماء غيوم من هذا اليوم الشتوي.. كانت الشمس تبدو وهي في كبد السماء خجولة في إشراقها الندي.. دسست جسدي داخل السيارة الرمادية وجلست إلى جانب السائق مراد الذي سألني إن كانت مدتي بالسعودية ومن بعد ذلك القاهرة ستطول، قلت كالمتمتم “ربما" تصفحت الجرائد التي كانت تحمل أخبارا سيئة على صفحاتها الأولى.. كيف حصل هذا؟! قلت مرددا بيني وبين نفسي، أن تتمكن جماعات قيل أنها تنتمي إلى تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي من التسلل إلى منشأة المركب الغازي بعين أميناس وتتمكن من حجز أكثر من أربعين رهينة أجنبية وأكثر من خمسمائة داخل المركب... بدا لي الأمر كفيلم مرعب مفزع يعود بالذاكرة إلى سنوات المحنة الجزائرية في التسعينيات.. اتصلت برئيس التحرير في جريدة الجزائر نيوز لأطمئن أن كبير المحققين في الجريدة عبد اللطيف بلقايم رفقة المصور يكونا في طريقهما إلى عين أميناس... قال لي، أنهما لم يتمكنا من التوجه إلى إليزي عن طريق الطائرة، فاختارا الذهاب برا وذلك ما قد يستغرق حوالي 48 ساعة على أكثر تقدير... نزلنا من الشارع الضيق بيردو حيث مقر الجزائر نيوز ومررنا ببولفار العقيد عميروش اللصيق بشارع حسيبة بن بوعلي.. نحن في قلب ذاكرة شهداء حرب التحرير الجزائرية.. العقيد عميروش؟! الرجل المتشدد والشرس وصاحب الإيمان الديني العتيد، كاره فرنسا الكولونيالية والموصوف بعدو المثقفين المنخرطين في الثورة التحريرية بحكم نزعتهم التحديثية واليسارية التي تجعل منهم في نظر ابن جبال جرجرة عناصر مندسة داخل الثورة لقي حتفه في المنتصف الثاني من الخمسينيات، وظل استشهاده لغزا كبيرا.. هل تمت تصفيته من طرف خصومه من المجاهدين عن طريق الفرنسيين؟! حسيبة بن بوعلي؟! حاصرتها قوات بيجار في قلب القصبة بالجزائر العاصمة أثناء المعركة الشهيرة التي وصفت بمعركة الجزائر.. لقد فجر البيت الذي تحصنت به رفقة علي لابوانت وعمر الصغير بالديناميت.. ويقال أيضا أن استشهادهم كان بسبب خيانة أحد رفاقهم الذي لم يتمكن تحت التعذيب من الاحتفاظ بالسر، سر إقامتهم...! لم يتخلص الجزائريون من التاريخ بعد.. هو هنا يجثم بأسراره وأشباحه فوق صدور الأحياء.. الماضي يتحكم بالحاضر، والمستقبل معلق بين الماضي والحاضر، يبحث عن طريق، عن بؤرة ضوء في آخر هذا النفق المظلم الذي استمرت مسافته عقود خمسة من زمن الإستقلال.. نتجه نحو الطريق العريض المحاذي للبحر في زرقته وصمته وامتداداته نحو الأفق اللامتناهي.. أشعل سيجارة، وأنصت إلى الأخبار الوجيزة على القناة الثالثة للإذاعة الجزائرية... لم تكن الطريق مزدحمة وهذا أشاع في نفسي شيئا من الراحة والإطمئنان.. كانت السيارات تركض بسرعة على الخطين المتعاكسين.. تبدو العمارات الكولونيالية والمباني الشاهقة غارقة في سكون ملفوف بالجلال والخشوع.. يلوح مبنى المطار الدولي هواري بومدين من بعيد.. نمر بحواجز الشرطة دون أن يوقفنا أحد... يسألني السائق مراد، إن كنت أنوي القيام بعمرة عندما أصل إلى السعودية.. وقبل أن أجيب، أردف قائلا “أدعو لنا يا الشيخ.." لي أكثر من سنة لم تطأ قدمي المطار.. وفجأة استعدت أجواء السفر، حيث الإنتظار، الخطوات الروتينية من ملء البطاقات، وتقديم الوثائق الرسمية والتذكرة أمام الشباك.. وضع الحقائب عبر جهاز السكانير، والتفتيش ورفع الأيادي، ونزع كل ما تشير إليه أجهزة السكانير، وتبادل الكلمات المقتضبة حينا والمستفيضة حينا آخر مع رجال الشرطة والجمارك في نقاط المراقبة.. ثم تفحص الوجوه المألوفة وغير المألوفة بتلك العلامات المتعددة المرتسمة على ملامحها.. ثم التحديق في اللوحات الإلكترونية والإصغاء إلى أصوات المضيفات عبر مكبر الصوت... وشراء المجلات والصحف ومحاولة قتل وقت الانتظار بالقراءة.. قراءة تفاصيل الحوادث والأخبار إذا ما طال زمن الانتظار... بعد أن استكملت إجراءات السفر، التقيت بمجموعة من الزملاء المتوجهين إلى المملكة العربية السعودية، كانوا أربعة، كمال جوزي، والعربي زواق من جريدة الخبر، محمد مسلم من جريدة الشروق، نجيب بلحيمر من جريدة الأحرار في حين تغيب زميلان، الأول من جريدة الوطن والثاني عبروس تودرت من جريدة ليبرتي... وجدتهم جالسين أمام طاولة في إحدى مقاهي المطار، وكانوا غارقين في حديث عن مرضى السرطان.. وبدا لي نجيب بلحيمر وهو يتحدث كرجل متخصص واسع المعرفة في هذا الداء، وعلمت فيما بعد أن إحدى قريباته قد ابتليت بهذا الداء.. لم تكن تربطني بمحمد مسلم ونجيب بلحيمر سوى علاقة عابرة وسطحية في السابق وذلك بسبب العمر ربما... لكن بالنسبة لكمال جوزي والعربي زواق فلقد كانت علاقتي بهما تعود إلى سنوات طويلة... تعرفت على العربي زواق، أصيل حمام الضلعة في العام 1979، حيث درسنا معا في معهد العلوم السياسية والإعلامية.. كنت يومها قادما من سيدي بلعباس مفعما بنزعتي اليسارية وحماستي في الدفاع عن المسألة الثقافية الأمازيغية.. أما هو فكان على الخط الآخر المعارض والمعاكس لتوجهاتي، فلقد كان قوميا، مدافعا شرسا عن العروبة والبعث العراقي.. كان زواق من نشطاء الطلبة الذين دافعوا في نهاية العام 1979 عن التطبيق الفوري للغة العربية في المؤسسات الرسمية، وتمكنوا يومها من شل الجامعة عبر إضراب وطني شامل داخل الجامعات.. لكن ظل العربي زواق محافظا بدماثته على علاقة جيدة مع فصيل من اليسار الجزائري، ولدى تخرجه من الجامعة التحق بجريدة الجمهورية الجهوية بغرب الجزائر في مدينة وهران، ليصبح مراسلا لها من مدينة تيارت التي قضى فيها سنوات منذ نهاية الثمانينيات التي انتقلت فيها الجزائر من نظام الحزب الواحد إلى حقبة التعددية إلى غاية المنتصف الثاني من التسعينيات، حيث دخلت الجزائر وقتها تجربة مريرة وقاسية بعد إيقاف المسار الإنتخابي من طرف العسكر والذي حصدت فيه جبهة الإنقاذ أغلبية المقاعد في أول انتخابات برلمانية حرة في حياة الجزائر المستقلة.. تجتمع في مدينة تيارت ذات الجبال والهضاب العليا كل التناقضات الصارخة، فعلى أرضها تشكلت أول دولة إسلامية ذات استقلالية عن مركز الخلافة الإسلامية بالشرق العربي أقامها الخوارج المنتسبون إلى الإمام محمد عبد الله بن إباض على يد عبد الرحمن بن رستم تحت عنوان الدولة الرستمية وتحولت لسنوات طويلة إلى منارة للعلم والحضارة الإسلامية إلى أن سقطت على أيدي فرقة منافسة قدم دعاتها هم الآخرون من المشرق وبقيادة الداعية الشيعي الإسماعيلي أبو عبد الله الشيعي الذي اعتمد على قبيلة كتامة البربرية، وفي اللحظة الكولونيالية أضحت تيارت مدينة ذات طراز كولونيالي بامتياز لتصبح في السبعينيات من القرن المنصرم مرتعا للصراع بين القوى المحافظة والليبرالية التي رفضت نهج الرئيس الجزائري هواري بومدين فيما أطلق عليه الثورة الزراعية القائمة على تأمين الأراضي ونزعها من ملاكها لمنحها صغار الفلاحين وقوى اليسار من حزب الطليعة الإشتراكية وحلفائها من يسار حزب جبهة التحرير الموالين لهواري بومدين.. وكان رفيق هواري بومدين، مسؤول حزب جبهة التحرير آنذاك ووزير ماليته الكولونيل بومدين قايد أحمد المعروف بشجاعته وصراحته ممن رفضوا خطة بومدين في الإصلاح الزراعي، فحدث الفراق واضطر إلى اللجوء إلى المغرب إلى غاية وفاته في ظروف غامضة... وغداة أحداث أكتوبر 88 رمت مدينة تيارت بثقلها إلى صف الإسلام الراديكالي الذي مثلته جبهة الإنقاذ وهي المدينة التي كانت معروفة طيلة العقود السابقة بتحرر نسائها وحاناتها الكثيرة وميلها إلى الحرية والإنفتاح... وفي بداية التسعينيات اختفى بشكل مطلق وجه تيارت الميالة للحياة الحرة لتتحول فجأة إلى قلعة لأمراء جماعات الإسلام المسلح.. وانضوى شبابها تحت لواء كتيبة الأهوال التي كان يقودها كل من قادة بن شيحة، والطيب جريري، ثم الأمير عقال المدعو غريب الذي أصبح بعد انشقاقه عن أمير كتيبة الأهوال أمير الجماعة الإسلامية (الجيا) بالمنطقة الغربية... تابع العربي زواق كل تلك الأحداث المأساوية كمراسل صحفي للجمهورية ثم فيما بعد لجريدة الخبر، كان شاهدا على تلك الإغتيالات وتلك المجازر وتلك الحرب الأهلية ذات الأبواب الموصدة.. عاش لحظات الشك والخوف والتهديدات.. لا يصدق العربي زواق الذي تعود على الحياة الهنيئة بمنطقة الغرب الجزائري كيف وجد نفسه في قلب الجحيم الذي ظل يرافقه ككابوس إلى يومنا هذا.. لم يكن يحلم يوما، أنه سيغادر تيارت التي عاشر أهلها وأصبح منهم وأحبها إلى درجة العشق، لكن كان لصموده ومقاومته من أجل البقاء حدودهما القصوى، فبعد استهدافه لمرتين من طرف جماعات الإسلام المسلح راح يفكر جديا بمغادرة هذه المدينة باتجاه مكان آمن، قد لا يعرفه فيه أحد.. ومع نهاية التسعينيات اتخذ قراره بالإنتقال إلى العاصمة والإنخراط كصحفي في الفريق المركزي في جريدة الخبر... غيرت السنون وسنوات الحرب العربي زواق كثيرا.. فلقد تلاشى حلمه بقيام وحدة عربية بعد سقوط صدام حسين وزوال حزب البعث وتحول العراق إلى بلد غير البلد الذي كان يحلم به وتراجع الإيديولوجيا القومية العربية التي لم تنتج سوى الديكتاتوريات والشموليات التي أودت بشعوبها إلى درجة الحضيض وحالة الغضب الشامل الذي أينع اليوم ما يسمى بالربيع العربي.. كان يجلس بجانب العربي زواق الخمسيني كمال جوزي ذو الشعر الأبيض والصوت الهادئ والحركات البطيئة الميالة للمسالمة والسكون.. عندما تعرفت على كمال جوزي في بداية التسعينيات كان يتقد حماسة وينبض نشاطا وطموحا.. اشتغلنا إلى جانب بعضنا بعض في القسم السياسي بجريدة الخبر الذي كان هو أحد مؤسسيها إلى جانب صاحب مبادرة التأسيس الإعلامي والكاتب عابد شارف والراحل عمر ورتيلان على إثر رصاصات إجرامية في الرأس أردته قتيلا وهو قادم من البيت الذي كان يستأجره في حي بلكور المعروف بحي جامع كابول متوجها على قدميه إلى دار الصحافة بساحة أول ماي، حيث مقر جريدة الخبر ذات صباح من العام 1993، كان كمال جوزي من جيل الصحفيين الشباب الذين غادروا الصحافة الحكومية وانغمسوا في مغامرة إعلامية مثيرة بحيث أعطوا نفسا جديدا للصحافة المعربة الجديدة التي سعت إلى إحداث قطيعة مع قدامى الصحفيين المعربين الذين كانوا يفضلون كتابة التعاليق دون المجازفة في الميدان.. وكان عابد شارف، الصحفي والكاتب المخضرم هو من بادر بجمع عدد من الشبان الصحفيين غير المتمرسين في فريق واحد، وكان ذلك بإيعاز من جهات حكومية كان على رأسها الرئيس الأسبق للحكومة مولود حمروش الذي تجمع حوله ما كان يطلق عليهم عشية تداعي الحزب الواحد في خريف 1988 بالإصلاحيين.. وبالفعل تمكن فريق عابد شارف أن يمنح للمشهد الإعلامي المعرب دفعا جديدا، متحررا، يعتمد على لغة عربية حديثة بعيدة عن تلك القوالب التقليدية والمتخشبة للعربية الإعلامية التي كانت سائدة في تلك الفترة.. وبالرغم أن جريدة الخبر لاقت في بدايتها مقاومة شديدة من طرف المحافظين والتقليديين القريبين من الحرس القديم رافع شعار الثوابت، فلقد تمكنت من خلال مواهب العديد من الشبان الجدد الوافدين إلى الصحافة أن ترتقي إلى درجة كبيرة من الاحترام، ويمكن ذكر أسماء عديدة مرت بجريدة الخبر وغادرتها فيما بعد، مثل عبد الحميد بلومي، وأحمد ولد أحمد، وهابت حناشي ورشيد بودراعي وحميد عبد القادر وعبد الكريم تفرڤنيت وشوقي مدني وسليمان حمنيش وإيوانوغان وأنيس رحماني وغيرهم كثير.. يشغل كمال جوزي الآن منصب مدير تحرير بجريدة الخبر، لم يزر كمال المملكة السعودية من قبل وكانت رغبته الأساسية من الرحلة إلى بلد آل السعود أن يغتنم الفرصة للقيام بعمرة عندما نصل إلى مدينة مكة.. يتبع