عندما يكتب الشاعر مذكراته، فإننا نتوقع منه ما قد لا نتوقعه من الآخرين، كتاب الرواية والقصة، ما عدا إن كانوا يملكون حسا شعريا راقيا، بمقدوره ترقية التفاصيل الصغيرة إلى مستوى أعلى، بحيث لن نميز بين التفصيل والموضوعات الكبرى. كل ما ورد في كتاب لقبش، للشاعر الجزائري المقيم بالإمارات العربية منذ وقت، الأستاذ عياش يحياوي، له أهمية استثنائية. ليس لأهميته الفعلية، إنما لقدرة صاحبه على جعله كذلك، مهما ومثيرا في الوقت ذاته. لم أقرأ إلى الآن، في حدود ما حصلت عليه من سيّر ذاتية، كتابا في مستوى “لقبش"، معرفة ومعجما ومتخيلا وزادا وأسلوبا. إنّه، من منظوري، تجربة رائدة في هذا النوع الأدبي الذي تم إهماله من قبل كتابنا، رغم قيمته، كعتبات، في فهم العصر والمحيط ونفسية صاحبه، ومن ثم الدخول إلى نصوصه ببعض الزاد المساعد على تفكيك مختلف الشفرات والمضمرات. لقبش، بدارجة الشرق الجزائري، هو الطفل المتسخ الحافي العاري ذو الشعر الكث، أي ذاك الذي كنّاه، نحن جيل الاستقلال، الذين خرجنا إلى الدنيا بكل الفقر والهمّ والتشرّد والعراء. لقد شبهته، إلى حدّ ما، بشخصية فورولو للراحل مولود فرعون، كواقع بطبيعة الحال، أو كمجموعة من الصور التي كانت بمثابة بطاقات دلالية مضيئة، ولافتة في الوقت ذاته. وهو تعبير عن مرحلة من مراحل الجزائر التي لا يمكن إغفالها، مرحلة البؤس الأعظم الذي وسم فترة أغفلناها أدبيا، رغم جمالياتها الخاصة. إن كانت هناك حداثة، بمفهوم الأصالة، فإن كتاب لقبش هو تجسيد لهذه الحداثة التي تركز على الذات في تعقيداتها وتعرجاتها، وفي حقيقتها التاريخية التي تفرض منطقها، دون أن تعتبر المنطق الغيري مبتدأ وخبرا. هناك سرد حميمي في علاقة وصلية بالتراب والملبس والعادات واللعب والجوع والضيعة والناس، وهناك الشعور العميق بهذا العالم الصغير، الكبير في نهاية الأمر في عيون السارد، العالم الذي سيكون متكأ للحياة وللكتابة معا، ولطبيعة العلاقات اللاحقة. لقبش ليس سوى جزء منّا، الجزء الذي كان يجب أن نقيم له تماثيل في الذاكرة لتستقيم بعض سلوكياتنا وأعمالنا عندما يقف أمامها شاهدا على الطفولة التعيسة، طفولة أغلب الذين عرفوا نتائج حرب مدمّرة لم تترك للأهالي إلاّ ذلك الخراب الذي لا يمكن أن ينسى. الخراب الذي لم يتم استغلاله في الأفلام والروايات والقصص والمسرحيات، وفي تقويم ذواتنا المنسلخة عن نفسها. كيف استثمر عياش يحياوي جزئيات طارئة بتلك العبقرية؟ ويجب التأكيد على الطابع العبقري لهذه المذكرات الفاخرة، بداية من الإهداء إلى ما ورد من مجازات وأخيلة ليست كالجمل التي يمكن العثور عليها في سلة المهملات مع الورق المبلل وأعقاب السجائر والرماد وعلب المصبرات الباردة. أهدى الكاتب مؤلفه إلى: “طفل متسخ اليدين والقدمين يخاف لمس الخبز الأبيض، إلى الدنيا بنت الكلب، وإلى الصمت الجبلي العالي". ويعد الإهداء، في حدّ ذاته، قصة متقدمة بإمكانها التنبيه إلى الدلالات اللاحقة، وإلى المسار العام للمذكرات. قد تكون مسألة الاستثمار موضوعا مستقلا بذاته، إذ يتضح من خلال إشارات المؤلف، أنه رتب لفعل الكتابة مستندا إلى منطلقات عارفة، كما تحيل على ذلك مجموعة المفاهيم والمصطلحات الدقيقة الواردة في شبه المقدمة، وهو، إضافة إلى ذلك، على بينة من الأهداف، ومن القيمة الكبيرة التي تكتسيها هذه الكتابات: “يمكن اعتبار هذه النصوص شهادة حية ذات قيمة أنثروبولوجية، لتنوع ما ورد فيها من معلومات ذات صلة بالتراث الاجتماعي المعنوي والمادي معا في منطقة جغرافية محددة. ولعل من فجوات التنمية في الوطن العربي التعامل مع الإنسان بصفته كتلة فيزيائية ذات طاقة صماء قابلة للاستثمار، وليس بصفته كائنا تاريخيا وطاقة مركبة متجهة بالفطرة والمعرفة معا إلى المستقبل، أي أنه يشكل مخزونا قيميا شديد التعقيد، لا يمكن استثماره في الحقل الدلالي الوظيفي السليم إلا إذا تمت دراسة بيئته دراسة استقرائية واستنباطية، من أجل التعرف على سبل التعامل معه، والسبل التي تحيط بقدراته ومجالات استثمارها ومكامن الضعف فيه ومجالات الانتباه إليها". كان هذا هو الأساس الذي بنى عليه الكاتب نصوصه اللاحقة، بحذق وبعفوية، ولست أدري تحديدا كيف جمع بين هذين العنصرين المختلفين في جوهرهما، ما عدا إن كانت هذه الطاقة التوفيقية نتاج تجربة شحذها الواقع والحسّ الشعري في آن واحد. إذ إنّ السرد العاري لا يكفي وحده لنقل نتف عابرة وجعلها أنوية قاعدية، رغم بساطتها، أو رغم قيمتها التي تبدو، من منظورنا، بدهية وليست ذات شأن بالنسبة إلى الذين ابتلعتهم نقاشات المدن التي لا أصل لها. ينقل لقبش بمهارة حياة ليس من السهل الإحاطة بها بتلك الدقة، وبذلك الوقار المهيب الذي نلمسه في كتابات أمريكا اللاتينية، وفي الأيام لعميد الأدب العربي طه حسين. هناك في واقعنا أحداث وحالات تستدعي مهارة سردية وتؤدة للإحاطة بها كمادة، ثمّ لنقلها بأسلوب يرقى إلى مستواها، كيفما كان. أما ما فعله عياش يحياوي، فهو شيء من هذا وذاك، وبوعي سردي لا يمكن أن يكون ملقى في الطرقات مع الجمل الذابلة التي يمكن أن تقدم في نهاية اليوم في أسواق الرثاث، بسعر زهيد أو مجانا. وهناك معرفة، الحكايات والمعارف مجتمعة في تشابك غاية في الانسجام والدقة: “تنتمي والدتي مباركة بنت سي نعمان إلى جيل من البدو الجزائريين كان جسرا بين الخيمة وبيت الطين، بين الترحال على ظهور الإبل نحو المنتجعات البعيدة والإقامة قريبا من حقول الشعير والقمح. وقد ظلت ذاكرة هذا الجيل بدوية محضة في منطوقها ومعيوشها.. والدتي قريبة الصلة بوالدي... وكلاهما من منطقة جغرافية ذائعة الصيت هي “الحضنة" جنوب شرق العاصمة الجزائرية... جبل بوطالب شمالها والسبخة الكبرى وبدايات الصحراء جنوبها، وفيها توجد مدينة المسيلة عاصمة المعز بن باديس الفاطمي، ومنجبة الشاعر ابن هانئ، والناقد ابن رشيق صاحب كتاب “العمدة" المشهور بالقيرواني لإقامته في القيروان ردحا من عمره، وفيها توجد بلدة “مقرة" التي ينتمي إليها المقري صاحب كتاب “نفح الطيب"، وفيها توجد قلعة “بني حماد"، وهي ما تبقى من حضارة الحماديين الذين أسهموا في نقل باقة من العلوم العربية إلى صقلية وإيطاليا، وفي “الحضنة" أيضا توجد أطلال مدينة “طبنة"، وهي من أوائل الحواضر العربية الإسلامية في المغرب العربي، بناها بأمر من الخليفة المنصور أبو جعفر عمر بن حفص..." ثمّ ينتقل الكاتب ليدعم مذكراته بسيل من المعلومات الخاصة بالقبيلة والعائلة والأهل والظهر والفخر، بدءا بطفولة العائلة الصغيرة مرورا بحنجرة الجبل الأسطوري ولقبش والكلاب والبقرة الكحلة والمدرسة الأولى وحروف المدرسة ودار الطفولة لأبناء الشهداء وخاتمة الصبي الذي هجر القرية. أما ما يمكن أن يكون دعامة قوية للمذكرات فهو هذا الصدق في التعامل مع تموّجات حياتية متباعدة ومضطربة، وبأناة في الإلمام بالماضي، الماضي الذي يبدو حاضرا ومؤثرا، كأنما يمثل، في قسم كبير منه، الراهن والمستقبل، أو امتداد الذاكرة في الآن، وفي كل بنياتها اللاحقة من حيث إنّه يظل قائما بأطيافه وساعاته وذكرياته. وقد يبدو ذلك واضحا للعيان في عدة صفحات وتلميحات، وفي أجزاء من الكتاب أيضا: “كان الصبي قرية تمشي وتسافر، وكانت الطفولة عامرة بالصمت والضجيج، يهيمن عليها كلكل الماضي السحري. كان إذا جاع ساق الشياه أمامه قريبا من طريق “السواقة" 158، الذين يوزعون “الحيثية" تمرا أو زلابية أو برتقالا، وهي عادة أهل الحضنة، لم تكن “الحيثية" تقدم يدا ليد - في الغالب - بل يرميها “السواقة" على الأرض... كان العالم جميلا ورحبا، وكانت النفس تواقة إلى ما خلف زرقة الجبال... وطلعت شمس أخرى لا يعرفها الصبي في شوارع الإسمنت والكآبة والحديد... كان يسأل نفسه كم من شمس في هذه الدنيا؟ وهل يمكن أن تطلع هنا في المدينة شمس القرية...؟ إنّه انهيار العمارة والجغرافيا والشياه و«الحيثية" والزمن القروي في أعماق الصبي المهاجر..." الكتاب في مجمله ينمّ عن قدرة فائقة على التصوير الدقيق لمسار طفل قادم من فقر القرية الجميل وقناعة الناس. وهو شهادة مهمة لشاعر أدرك قيمة التأريخ للذات في صيرورتها، إضافة إلى مفعول الطفولة وآثارها المستمرة في السلوك والإبداع، بشكل مباشر أو غير مباشر، والأهم هو كيفية القول، الطريقة التي اعتمدها صاحب الكتاب في التعامل مع الأحداث والحالات والتفاصيل المثيرة التي نقلها بأشكال سردية لم تغفل البلاغة والاستعارة وأهمية الخيال في تقويتها. يبدو الجزء الأول من المذكرات استثناء، وقد يكون الجزءان المتبقيان أكثر إثارة بالنظر إلى القيمة الكبيرة التي أحاطت بالكتاب الأول. إننا، باختصار أمام تجربة لها إمكانات كبيرة في أن تكون نموذجا ناجحا في كتابة السيرة الذاتية، إن لم تكن من التجارب القليلة جدا في الجزائر منذ خمسين سنة من الاستقلال، وهي ظاهرة تحتاج إلى معاينات لمعرفة أسباب عزوف الكتاب والشعراء عن كتابة هذا النوع من الأدب، رغم قيمته المركبة.