وجدت في مذكرات الكاتب الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز (جائزة نوبل للآداب 1982) ما لم أجده في عشرات كتب السير الذاتية، مع وجوب الإقرار بتفوق بعضها، كحالة الأيام لعميد الأدب العربي طه حسين. وهو كتاب يستحق اهتماما آخر بالنظر إلى حنكته ودهائه. تلك مجرد عيّنة تمثيلية. أما عشت لأروي (منشورات دار المدى للثقافة والنشر، دمشق 2012)، فيبدو كهالة من الهالات الخرافية وهبة من الخالق). ولا أعتقد أنه من السهل كتابة هذا المؤلف برأس واحد وبالحبر والورق ذاته الذي نتعبه بأفكارنا وأخيلتنا الخرقاء. لقد أدركت كيف كتب ماركيز تحفة ألف عام وعام من العزلة وعجائبه الأخرى التي سحرت العالم: خريف البطريق، وقائع موت معلن، وفاة الجدة ميمي، الحب في زمن الكوليرا، لا أحد يراسل الكولونيل... وغيرها من المآثر والأمجاد الحقيقية التي لها لون الذات وقرى أمريكا الجنوبية. تلك المؤلفات التي لن تتكرر أبدا لها لون كولومبيا والفاقة والمحيط والنفس والأنا. أي أنها، مثل مذكرات عشت لأروي، لا تتجاوز حدود الكاتب التي سطرتها ثقافته الأصيلة التي شحذتها الموهبة والتجربة. في هذا الكتاب الذي لم يتخل عن هويته كثير من الحكايا المسبوكة بحكمة وبأناة، وفيه ما يكفي المتلقي لمعرفة أحد أروع كتاب القرن: الطفولة، المراهقة، الفقر، التطواف، الرعب، المغامرة، التعلم، التسكع، السفر، الكتابة، القراءات، الأسس، المرجعيات، النقد، الموسيقى، الفيلم، العمل الصحفي، العلاقات... عالم بأسره من القصص التي أهلته لأن يكون كذلك، قبل أن يصبح مرجعا بدوره، ثم قطبا من الأقطاب الأدبية التي يفتخر بها الجنس البشري برمته. وإذ لا تكفي لا العلامات، ولا المؤهلات لتقديم “عشت لأروي" بشكل موجز يمس بوحدته وبعبقريته المنسجمة مثل قصيدة تتخذ هيئة شلال، فإن قراءته تغدو مهمة ، وضرورية للبعض، إن لم تكن كذلك بالنسبة للكثيرين، وذلك لقيمته الفنية والسردية من جهة، ولمستواه المعرفي من كل الجهات، وليس من جهة ثانية أو ثالثة، كما في الصيغ المنوالية التي لا تقول شيئا، رغم كثرة كلامها. لا يقدم الكتاب سيرة ذاتية فحسب، بل يقدم معرفة وملكة في فن القول بحيث يتعذر على القارئ القفز على بعض الجمل والمقاطع والصفحات، كما يفعل مع بعض الكتب المملة، دون أن يصرح بذلك احتراما لمشاعر الكاتب. والحال إنه لن يستطيع أن يفعل ذلك مع هذا الكتاب الآسر. كأن ماركيز وضع في المقدمة: ممنوع القفز، إني أراك. ليس كما فعل الأخ الأكبر لجورج أورويل في روايته الموسومة: 1984، بل بحضوره السردي الذي يعكس قدراته التخييلية الرهيبة، وبذلك البناء المنسجم الذي لا يختلف كثيرا عن النص الروائي الكلاسيكي المعروف عند أولئك العظماء. كان غابريال غارسيا ماركيز، بالعودة إلى المذكرات، شخصا مثل الناس التقليديين تقريبا، طبيعيا إلى حد ما، متواضعا جدا في دراساته الجامعية في “بلاد كانت على حافة حرب أهلية جديدة، بعد بضع وأربعين سنة من السلام المسلح". (ص 378). وكان يرسب دائما في شعبة الحقوق التي لم تكن تعجبه لميولاته الصحفية والأدبية التي ظلت تهيمن على خياراته، رغم استياء الوالدين اللذين كانا ينظران إلى ميله باحتقار وريبة. لقد أشار الكاتب إلى ذلك بواقعية، دون استعلاء... ودون غش. كما حصل تماما في اعترافاته الكثيرة التي لا علاقة لها بالألوهية التي قد نعثر عليها في بعض السير التي تقدم صاحبها مثل ملاك، ومثل إله إغريقي منزه من الزلل. هذه مجرد إشارة إلى قيمة الصدق في المذكرات، وهي تحتل مساحات لا تعد، كما في حوارات ماركيز وحياته التي تشبه مؤلفاته، إن لم تكن مطابقة لها ولمواقفه الحياتية ورؤاه. لقد كانت الجامعة، بالنسبة إليه، بمثابة عائق يحد من قدراته الحقة المتمثلة في التأليف. كان قد عرف أمهات الكتب وتأثر بها. وكان يريد أن يكتب ما يشبهها: “ضآلة اهتمامي بالدراسة تضاءلت أكثر... وبخاصة في الجامعة، حيث بدأ بعض زملائي بمنحي لقب أستاذ وتقديمي ككاتب، وتوافق ذلك مع تصميمي على تعلم بناء بنيان يكون في الوقت نفسه محتملا وخياليا وفق نماذج كاملة الإتقان وصعبة. (ص 379). كان يفكر في تلك الفترة في كتابات الأديب الأمريكي وليام فوكنر، في أوديب ملكا لليوناني سوفوكليس، في كتلة الشحم للكاتب الفرنسي جي دو موباسان. كان مأخوذا ببعض العناوين التي بدت له مكتملة ومثالية. لقد خطط الآن لمستقبله. بيد أن ذلك سيبدأ بالكتابات الصحفية التي ستوفر له بعض المال للهرب من العوز. كانت عائلته البائسة لا تجد قوت يومها. أما هو فكان، حسب تعبير والدته، “متسول صدقات" ص1، صندل بلا جوارب، سروالان داخليان، واحد يرتديه وآخر يجف. ذاك ما كان يملكه، ولم يكن يحتاج إلى أكثر من هذا الإرث. كان ماركيز، في عيون المحيط، إنسانا ثريا، وكان ذلك مثيرا ومضحكا في الوقت ذاته. لقد أشار إلى ثرائه بسخرية مأسوية، وبإعجاب نادر: “سبب لي النشر...على هامش النجاح الأدبي، مشاكل أخرى أكثر دنيوية ودعابة. فقد صار أصدقاء غافلون يوقفونني في الشارع، ليطلبوا مني أن أقرضهم نقودا منقذة، فما كان بإمكانهم أن يصدقوا أن كاتبا بمثل ذلك الانتشار، لا يتلقى مبالغ مالية ضخمة مقابل قصصه. وقلة قليلة فقط هم الذين كانوا يصدقون أنه لم يدفع لي مقابل نشرها سنت واحد. (ص 382). وستستمر حياته على هذا المنوال أعواما، في القرية وفي بوغوتا وفي باريس، على شاكلة الحياة القاسية التي عاشها إرنست همنغواي وهنري ميللر وسكوت فيتزجيرالد وكاتب ياسين. لكنها ستكون مفيدة ومؤثرة بالنظر إلى قيمتها الجمالية. أما أحسن جمال فيتمثل في الطريقة التي كتب بها ماركيز عن الفقر، بلا تهويل، ومن غير جعجعة. كان أسلوبه رائعا، فخما واستعلائيا إلى حد كبير. وهنا مكمن الكتابة المحترفة التي تنقل المآسي بوقار استثنائي، مع أن ذلك ليس الخيار الوحيد. وقد يتناغم هذا الأسلوب مع أساليب كثيرة في الكتاب لأنه أسس على بعض الحيادية، كما في الهالات القديمة حين يقف السارد كمتفرج، حتى في الحالات التي يكون فيها موضوعا وممثلا. لقد نقل ماركيز حياته الصحفية القاسية بالطريقة ذاتها، لذا يبدو في مقاطع وسياقات غير معنٍ بالحكايات والأحداث، أي في حالة من السلبية القصوى، لكنها ليست كذلك في جوهرها. إنه يمرر بلاغات وظيفية مثيرة، ومؤثرة رغم الشكل السردي الذي قلل من حضور الصفات الموجهة. والواقع أنه تعامل مع تجاربه المتنوعة ومع الواقع بنزعة إمبراطورية، وبأساليب الصوفيين القدامى. لم يكن يميل إلى المغالاة، وإذ يتطرق إلى علاقاته بالشخصيات المكرسة يفعل ذلك بلا انبهار، وقد يصبح الرئيس فيدال كاسترو، أو الشاعر أراغون، كما الناس، وكما الشخصيات الأخرى القادمة من دهاليز مدينة بوغوتا وحاراتها الفقيرة. ليس هناك في مذكرات ماركيز ما هو أفضل وأهم. ثمة في الحياة موضوعات وأساليب وأبنية. لقد تحدث عن فترة من حياته، كناقد سينمائي، باعتزاز وأبهة سردية.ليس إلا. وكانت تلك المرحلة من المراحل التي أغنت مخياله النقدي، كما مخياله الإبداعي الذي استفاد من نقائص الصورة ومن فجوات السينما. لكنه لم يكن ساخطا، ولا منتقما من السينما التجارية التي نظرت إليه من علٍ. لقد كان مستعدا لذلك. أي شيء مثير في عشت لأروي؟ إضافة إلى هذه الحيادية التي تتجلى في الجملة السردية والقدرة المذهلة على نقل التفاصيل الضرورية، هناك أمر يبدو مربكا. يقول ماركيز في مقطع مفتاحي ورد في مطلع المذكرات: “حتى سن المراهقة، يكون اهتمام الذاكرة منصبا على المستقبل. ولهذا لم يكن الحنين قد حوّل ذكرياتي عن القرية إلى المثالية. كنت أتذكرها مثلما كانت عليه: مكان جيد للعيش، حيث يعرف الجميع بعضهم بعضا، على ضفة نهر ذي مياه صافية تنساب فوق فرشة من حصى مصقولة..." (ص 12). تبدو القرية، في نهاية الأمر، محطة أساسية لذاكرة الكاتب. لم تفارقه إلا لماما، فقد تكون حيزا ما،وقد تكون قيمة جمالية لا يمكن القفز على عناصرها القاعدية التي شكلت مخيلة الكاتب، سواء في المذكرات أو في مجموع النصوص النثرية اللاحقة رغم كثرتها، ورغم قدرتها على اختراق الحدود الإقليمية واللسانية على حد سواء. كأنها مركز الموضوعات والشخصيات على تنوعها، ونادرا ما تغيب ظلالها وآثارها في النصوص التي كتبها، في كولومبيا وفي فرنسا وفي المكسيك وفي إسبانيا، أو في كتاباته المهاجرة من بلد إلى آخر. ربما كان يرى جوهرا، استعاريا على الأقل. إن لم تكن كذلك بالنظر إلى تركيزه على الموضوعات “الصغيرة" والشخصيات “الهامشية" التي لا أحد يوليها اهتمامه، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأدب “الكبير" الذي يريد تحقيق ذاته بالقفز عليها. لا بد أن غابريال غارسيا ماركيز،كما تعكس ذلك المذكرات، انتبه إلى قيمة المحلية في الإبداع الذي يؤسس على سرد له هويته وشخصيته، كما أشار إلى ذلك الأديب الألماني غوته، لذا جاء كتابه الضخم (680 صفحة) حافلا بالأماكن وعوالقها الدالة على إحالات وظيفية لا يمكن تجاوزها: الأماكن والشخصيات والخطابات وما يشبه نثار الموضوعات. لكن، ما هذا الشيء المدهش؟ يقول صاحب المذكرات في خاتمة الكتاب: “المفاجأة الكبرى جاءتني من موسيقيين كتلانيين... يعتقدان بأنهما اكتشفا تشابهات مفاجئة بين خريف البطريرك، روايتي السادسة، وكونشرتو البيانو الثالث لبيلا بارتوك، صحيح أنني كنت أستمع إلى هذا الكونشرتو دون توقف، بينما أنا أكتب... ولكنني لم أفكر قط في أنه يمكن لتلك الموسيقى أن تلمح في كتاباتي. ولست أدري كيف علم أعضاء الأكاديمية السويدية... فوضعوا تلك الموسيقى نفسها، كخلفية، عند تسليمي جائزتي (جائزة نوبل)" (ص 636). يجب الإشارة إلى أن غابريال غارسيا ماركيز كتب هذه المذكرات، وقد بلغ الخامسة و السبعين من عمره، ومن يكتب بذلك الوعي، وبتلك الأصالة المعلنة في كل نصوصه، لا بد أن يصل إلى المقولة النقدية الشهيرة: يحاول الفن قاطبة باستمرار أن يبلغ حالة الموسيقى. وهي الحالة التي أشار إليها في “عشت لأروي" المؤلف الذي يعد بمثابة هالة أخرى تنضاف إلى رواياته الاستثنائية في تاريخ الأدب برمته.