هل نستطيع لملمة جميع أشلاء أيامنا ورفات ما أتلفته الثواني والساعات والأيام من حياتنا المنفلتة مع نبضات مؤشر الثواني والدقائق والساعات؟ هل يمكن الإمساك بتلك الصور المتقطعة وإعادة جدولتها حتى نحدث منها كلاماً يستحق توقيف القارئ الذي أصبح يرتكب كل المخالفات إلا القراءة؟ هل بمقدورنا استرجاع تلك الصور بمشاهدها وملامح شخوصها؟ هل يستطيع الأدب أن يجمع كل هذه الألوان والأطياف ويرسم كل هذه المشاعر والأحاسيس ويبعث الحياة ويدفق فيها من جديد سيل الذكريات؟، هل استطاع الشاعر عياش يحياوي أن يكون هذا الماضي المولد في الكلمات والجمل دون أن يترك فراغاً للبكاء واللعب من خلال كتابه “سيرة ذاتية لحليب الطفولة”؟ جرت العادة أن نلقي بنظرة سريعة على الكتاب ولانحاول التغلغل في تفاصيله وكأنّنا أمام منطقة محرّمة، وكثيراً ما نكتفي بقراءة المقّدمة وما يوجزه المؤلّف في ظهر الغلاف ثم نطوي الصفحة بذكر الناشر وعدد الصفحات وقياسها ثم نمهر الموضوع بإطراء أو إشارة خفيفة وننهيه، هذا ما يحدث في تقديمنا للكتب لأننا بكل صراحة لا نقرأها ولا نستطيع لقراءتها سبيلًا حتى ولو أردنا ذلك، لأنّها تأتينا فجأة يطلب منا تقديمها بذلك الاستعجال السريع الذي لا يعطي حرمة للوقت ولا للتعرّف على الكاتب. سيرة ذاتية، مشاهد من حياة طفل شاعر، استرجاع لطفولة ربما حفرت فيها المأساة أخاديد لا يمكن ردمها خصوصاً إذا أضفنا لها اليتم والعوز وكلّ الأحلام التي تعيينا مطاردتها إبان طفولتنا، ولا يمكن أن نعود وفي قبضتنا منها ريشة من ريش جناحها. ودون الإجهاش في التفاصيل يقول الكاتب في مقدمة كتابه هذا: “في حياتي أحداث مركزية كثيرة... الحدث الأول هو انفصالي عن أهلي منذ أن كان عمري ست سنوات والحدث الثاني هو رفض عمي عمار شراء دراجة هوائية لي... الحدث الثالث هو الحصار الرمزي الذي عانيت منه حين نزل على جسدي الصغير قمر الشعر، الحدث الرابع يتمز بمشهد سينمائي مثير... الحدث الخامس هو تضييعي لهدف حاسم في مباراة كرة يد...”. هذه هي المشاهد التي استعرضها الأديب عياش يحياوي في رحلته إلى الماضي من خلال كتابه “سيرة ذاتية لحليب الطفولة” وهذا الكتاب (الجزء الأول) الذي هو بين أيدينا من ثلاثة أجزاء والذي عنونه ب«القبش” الإسم الذي كانت تناديه به أمه. الكتاب هو سرد لسيرة ذاتية بأسلوب أدبي كما أوضح المؤلف: “أن ما تضمنه الجزء الأول نشر كله في جريدتي (الشعب) و(المساء) في الجزائر قبل هجرته إلى الإمارات... ولقي إهتماماً كبيراً من قبل المجتمع والمثقفين، وكتب نقاد دراسات حوله نشرت في جريدة “المساء” وهذا النسيج كما وصفه المؤلف نفسه لايدخل في خانة الرواية ولا في خانة القصة... وإنما يؤرخ لجانب من معاناة الطفولة الجزائرية بعد إستقلال الجزائر. الكتاب من القطع العادي ويتوزع على 192 صفحة. في طبعته الثانية من مطبعة الخلدونية (الجزائر).