لم يكن أحد بسوريا والعالمين العربي والإسلامي، يشك في موسوعية العلامة محمد سعيد رمضان البوطي، سواء تعلق الأمر في أصول الفقه السني، الذي نال شهادته العالمية من جامعة الأزهر (1953-1955) أو في قواعد اللغة العربية، التي حاز على دبلومها العالي من الجامعة ذاتها، ثم مؤلفاته التي تجاوزت الخمسين مؤلفا حول الشريعة والفقه الإسلامي. إلا أن ما ظل يثير الكثير من اللغط والأسئلة هو ما علق بسمعة الرجل بشأن علاقته بالنظام الذي حكم سوريا طوال الخمسة عقود الماضية، حيث مثل لقاءه بالرئيس السوري الراحل حافظ الأسد في بدايات الثمانينيات نقطة تحول ليس في حياة البوطي فحسب، بل في نظرة الآخرين له، كمرجع ديني وعميد لكلية الشريعة بالشام منذ 1977. تلك العلاقة التي رمت بجذورها في مسار الرجلين لتمتد إلى الخَلف الذي اعتلى سدة الحكم بقصر الشام، وقد تجلت خاصة في ذلك الموكب المهيب الذي شهدته سوريا أثناء تشييع جنازة باسل الأسد، نجل الرئيس الذي كان يعد ليخلف والده في الحكم، حيث أمَ الشيخ البوطي المصلين على الجنازة، رغم وجود مفتٍ شرعي لسوريا في تلك الفترة. مما طرح أسئلة كثيرة حول دفء العلاقة الثنائية بين بيت الأسد، والمفكر الإسلامي، الذي لا يتقلد أي منصب رسمي، في دولة ترفع الشعارات العلمانية، ويحكمها حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي سعى طوال سنوات وجوده إلى طمس المكونات المتعددة في النسيج الوطني السوري لصالح “تعريب" الدولة والإنسان، في حين ينحدر “البوطي" من أسرة ذات أصل تركي كردي، وهما مكونان ظلا حاضرين في وجدان ولسان البوطي، قبل أن تنتصر السياسة عليهما.وفي إطار هذه العلاقة الاستثنائية لطرفي المعادلة، تم السماح للأخير بتقديم “ساعة وعظ" على التلفزيون الرسمي في مخالفة للتقاليد البعثية التي ظلت متبعة في القطر الشامي، قبل أن يتم تمكينه، لاحقاً، من تأسيس محطة تلفزيونية باسم “نور الشام" بهدف الترويج للفكر الديني المعتدل والمتسامح، وهي المحطة التي رأى فيها البعض الآخر من معارضي النظام، أنها مثلت “جذوة الفتنة" أكثر منها “منبر حوار وتسامح"، سيما بعد اندلاع الثورة الشعبية ضد نظام بشار الأسد في منتصف مارس 2011، حيث اختار البوطي أن يقف بجانب النظام وينكر وجود “ثورة شعبية" بسوريا حتى تاريخ مقتله في انفجار وقع في الواحد والعشرين من الشهر الجاري، (عامين بعد اندلاع الثورة)، بمسجد الإيمان بدمشق، وهو الانفجار الذي تبادل كل من النظام والمعارضة، التهم، حول تدبيره، ليرحل الرجل الذي رأى النور على ضفاف نهر دجلة عند نقطة التلاقي بين حدود سوريا والعراق وتركيا، وقد تفرق دمه بين “الإخوة الألداء"، وبين من يرى في رحيله “إنطفاءة لنور الشام" وللإسلام المعتدل والمتسامح، وبين من يرى في رحيله “انطفاءة" لجذوة الفتنة التي طالما نخرت جسد الوطن السوري، بإفتاءات تقوي من عرش “سلطان جائر" يحكم شعبه بالحديد والنار. وبين المنزلتين، هناك أمة عربية وإسلامية تبدو مكلومة، ليس في شيخ من شيوخها وعلمٍ من أعلامها، بل في وطن يتشظى تحت سطوة الاستبداد بشقيه السياسي والديني، أمة ستبقى شاهدة على تفتت دولة كانت تسمى سوريا.