في هذه الوثيقة المأخوذة عن مذكرات الرئيس علي (من المناضل السياسي إلى القائد العسكري 1946- 1962)، يعرض الرئيس الراحل شهادته حول ملابسات، شخصيات.. وتبعات مؤتمر طرابلس، ولحظة “الزحف" إلى العاصمة وانطلاق جذوة الصراع على السلطة.. لذلك وصفه في مذكراته ب “الاجتماع الذي لايزال معلقا إلى اليوم".. الطريق إلى طرابلس الغرب (ليبيا) في 18 مارس 1962، تم التوقيع على اتفاقيات إيفيان وفي اليوم الموالي دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، وفي اليوم ذاته أطلق سراح المساجين الخمسة. وبدأت مرحلة الصراع على السلطة ومرحلة تجسيم التحالفات المحسوبة بهدف تحقيق “الزحف" على العاصمة، وبالتالي الاستيلاء على السلطة، وكانت رأس الحربة هي “السيطرة" على وحدات جيش الحدود، التي كانت معطلة في الاحتياط لعدة سنوات، في الوقت الذي كانت فيه الولايات الداخلية تعاني من النقص. كان علي منجلي يطوف على وحدات جيش الحدود صائحا بأعلى صوته “إن جيش الداخل لا يمثل شيئا بل أنتم المستقبل..". ومن هنا بدأ ناقوس الخطر يدق، ولاحت في الأفق بوادر حرب أهلية، حطمت بظلالها بطولة هذا الشعب وقدسية جيش التحرير الوطني. بدأت التحضيرات لمؤتمر طرابلس مع بداية شهر أفريل 1962، حيث تم إرسال الدعوات (الاستدعاءات) إلى قادة الولايات وأعضاء مجالسهم. ولأول مرة توفرت الشروط، شروط الحضور الجماعي لإجراء نقاش جدي والعمل على الاستعداد لمجابهة المستقبل، ورغم ما قيل فإن جدول الأعمال كان يتضمن بالإضافة إلى المصادقة على اتفاقيات إيفيان: المناقشة والمصادقة على برنامج طرابلس. تشكيل المكتب السياسي الذي يشرف على هذه المرحلة الانتقالية حتى يُنظم مؤتمر تقييمي. والغريب في الأمر، والجدير بالتسجيل في تاريخ هذه الأزمة الحادة، هو إرسال هيئة الأركان العامة بعض ضباطها للسيطرة على الولاية الثانية، ونتحفظ عن ذكر أسماء هؤلاء؟ ماذا دهاكم؟ أجننتم؟ أنسيتم أن الولاية الثانية هي ولايتكم؟ فقال أحدهم: لدينا أوامر من هيئة الأركان العامة باحتلال الولاية قال صالح بوبنيدر. أين كنتم عندما كنا في أمس الحاجة إليكم؟ لقد تفطنت قيادة الولاية الثانية للخطر الداهم المتمثل في محاولة السيطرة على الداخل الذي كان مهملا ردحا من الزمن، وهاهو الآن يعاني أطماع الجميع. حيث كانت المساعي هي محاولة “غزوة" من الخارج. من سيدخل الأول “فاتحا"؟ ولهذا وتماشيا مع مواقفها مع مبادىء الثورة وروح أول نوفمبر، عقد وفد الولاية الثانية بقيادة صالح بوبنيدر قبل توجهه الى طرابلس اجتماعا ضم جميع إطارات الولاية لتحديد موقف حول المحاور الآتية: 1/ لابد من المصادقة على اتفاقيات إيفيان، حيث أن المطالب الأساسية للثورة الجزائرية معترف بها علنا وبوضوح في هذه الاتفاقيات، وهي السيادة الوطنية ووحدة التراب ووحدة الشعب. 2/ يجب الإبقاء والاحتفاظ بالمؤسسات التي أنشأتها الثورة “المجلس الوطني للثورة الجزائرية والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية" إلى ما بعد الاستقلال، حيث يحدد بعدها تنظيم مؤتمر عام لتقييم وضبط الخطوط العريضة للسياسة العامة للجزائر المستقلة. وفي هذا السياق، كان موقف الولاية الثانية مع الشرعية الثورية دون الإنحياز إلى طرف على حساب الآخر، بل إن هذا الموقف يهدف إلى إنقاذ مكسب ثمين وهو الشرعية التي صدمت بكل شجاعة وجسيم التضحيات أمام جميع العواصف والمناورات منذ مؤتمر الصومام، إذ أن هذه الشرعية ضرورية وحتمية لوحدة الصفوف ولمصداقية الثورة وروح أول نوفمبر، واحترام هذه الشرعية هو وحده الذي يقدم أقصى ما يمكن من الجدية والوضوح لنقاش ذي أبعاد تاريخية، إذ ما يراد تحاشيه بكل ثمن هو الإستيلاء على السلطة بالقوة والذي يؤدي إلى دوامة العنف ويفتح الطريق أمام حرب أهلية. هذا حتى لا تبقى قرارات وموقف الولاية الثانية منفردة ومنعزلة اتصل مسؤول الولاية بقائدي الولايتين الجارتين الأولى والثالثة، وبالفعل تم اجتماع قريب من مدينة سطيف شارك فيه الطاهر الزبيري، قائد الولاية الأولى، وحسين محيوز مندوبا عن محند ولد الحاج (قائد الولاية الثالثة)، وبعض عناصر من قيادة الولاية الثالثة. أطلعهم صالح بوبنيدر على موقف وقرارات الولاية الثانية وندد بالأساس بهيئة الأركان العامة أكبر المخاطر في نظره، متهما إياها بما تسببت فيه من فوضى في الخارج والتغرير بوحدات جيش التحرير الوطني “المجمدة" على الحدود التونسية الجزائرية. اقترح على رفيقه اتخاذ موقف مشترك من هذه القضية، أي إدانة هيئة الأركان العامة ودفعها إلى تقديم الحساب بشأن سيرة حرب التحرير والإلحاح عليها “بإطلاق سراح" جنود الحدود وتمكينهم أخيرا من الإلتحاق بولاياتهم الأصلية. اتفق الثلاثة على هذا الموقف المبدئي. وفي بومرداس وقبل توجهه إلى تونس في طريقه إلى طرابلس لحضور المؤتمر على رأس وفد الولاية الثانية، التقى صالح بوبنيدر مع العقيد حسان الخطيب ببومرداس، وكان الأول في طريقه إلى مؤتمر طرابلس على رأس وفد الولاية الثانية، وسأله إذا ما كان سيحضر الإجتماع فأجاب بالنفي، وحاول صالح إقناعه قائلا “إن الثورة تمر بمرحلة حاسمة، مستقبل الجزائر المستقلة في خطر، وليس لأي مسؤول أن يتخلى عن واجبه في هذا المنعرج الخطير والحاسم، فهذه أول مرة سيتذوق فيها الشعب الجزائري ثمرة الإستقلال"، و«من واجبنا أن نتصدى لكل من يريد أن يفرض عليه قيادة من الخارج، يجب أن نكون متواجدين ونوحد مواقفنا وفي نفس الوقت يجب أن نمنع بأي ثمن أن يرفع مجاهد سلاحه في وجه مجاهد آخر". يجب ألا يدفع جندي واحد حياته في سبيل المغامرات المجنونة والمطامح الإنتهازية لبعض المسيرين، إن جيش التحرير الوطني في الداخل لم يكن أبدا ضد إخوانه المجاهدين “المجمدين" في الحدود، وهو ينتصب ضد جميع من يحاول أن يجعله رهينة ليكون لعبة للسلطة، وإذا فشلت محاولاتنا الثورية المخلصة، فعلينا أن نتخل عوض أن نكون سبب مواجهة وصراع الإخوة فيما بينهم". لكن العقيد حسان الخطيب تمسك برفضه “لأن قيادة الولاية الرابعة لن تتوجه إلى طرابلس"، ومن ثم مازال السؤال مطروحا، هل هو موقف متبصر وبالتالي فهو عنصر معادلة سياسية (ولصالح من؟) أم هو موقف أملاه التخوف من المجابهة البادية في الأفق والتي تتطلب امتناعا سليما. ومهما يكن فإننا نعرف أن الولاية الرابعة أرسلت إبان الأزمة بتفويضها إلى العقيد ابن الشريف الذي كان قد اتصل بها في السابق، ولا يخفى تحالف هذا العقيد مع هيئة الأركان العامة. وفي تونس دائما في طريقه إلى طرابلس وبعد المقابلة التي أجراها كما ذكرنا مع ممثلي الولايتين الأولى والثالثة وبعد الإتفاق المبدئي، فوجىء صالح بانحراف المواقف، فالطاهر الزبيري كشف عن ثقته التامة في هيئة الأركان العامة، والولاية الثالثة تتخذ موقفا مبهما ثم تبعث بوكالتها إلى محمد السعيد عضو الهيئة. فهل كانت خيوط اللعبة قد حيكت منذ زمن وهذه آثارها تظهر على السطح!؟ البرنامج حظي بالموافقة وكان الإختلاف حول الأشخاص مؤتمر طرابلس الأخير: (25 مارس 7 جوان 1962) يبقى هذا المؤتمر الأخير الذي عقد بطرابلس الغرب (ليبيا) من قبل المجلس الوطني للثورة الجزائرية خالدا في تاريخ ومسيرة الثورة الجزائرية. والجدير بالتسجيل هو أن البرنامج السياسي (الذي عرف فيما بعد ببرنامج طرابلس) تمت المصادقة عليه بالإجماع دون أي مناقشة، إذ لم يغير منه حرف واحد، وهكذا طويت وثيقة ذات أهمية قصوى في مستقبل البلاد السياسي والإقتصادي والإجتماعي والثقافي بكل سرعة وسهولة وإهمال، لإفساح المجال للمطامح الشرسة، حيث أن ما كان قد استحوذ على العقول آنذاك هو انتخاب (المكتب السياسي) الذي سيتقلد مصير البلاد بعد الإستقلال، ويشرف على هذه المرحة حتى ينظم مؤتمرا تقييميا، وكل ذلك تزييف، ومغالطة للواقع والتاريخ، إذ كيف ينتخب مكتب سياسي ولم يكن هناك حزب حقيقي سواء بالمفهوم التقليدي العام، أوبالمفهوم التقليدي النضالي الذي عرفته البلاد. الملاحظة الثانية هي أن تشكيلة المجلس الوطني للثورة الجزائرية على ضوء الخلفيات التي ذكرناها سابقا والمناورات المدسوسة في إطار المعادالة المغطولة، والتي أدت فيما بعد إلى شبه حرب أهلية، إن تلك التشكيلة لم تكن تتوفر على أي عنصر إيجابي موضوعي للإنسجام حول الإختيارات السياسية والتوجيهات الإقتصادية والثقافية، إذ كان مؤتمر الإجماع يضم جميع أنواع التيارات وجيمع المدارس السياسية، خاصة منها التي توغلت في صفوف الثورة بتكتم وتستر انتهازيين. بعد المصادقة على الوثيقة (برنامج طرابس) تطرق المجتمعون إلى “تصحيح الوكالات" في الإطار الإجرائي بهدف التصويت، وخاصة على عدد وأعضاء المكتب السياسي. ونلاحظ هنا أن عدة وكالات جاءت إلى بعض أعضاء الحكومة مثل بوصوف، بن طوبال وبن خدة، فتخوف بن بلة أن تستعمل تلك الأصوات ضده، فأثار نقاشا نابيا مع كل من بن خدة وصالح بوبنيدر، مما أدى إلى رفع الجلسة. فكلما أثيرت تصفية الأشخاص كان الإنفجار، وإذا ما كان الإتفاق سهلا بالنسبة للعدد (من 7 إلى 9) فلم يكن هناك أي تساهل بالنسبة للأشخاص الذي سيتكون منهم المكتب السياسي، لم تحصل أي تركيبة على الأغلبية وحتى إذا لم يتم الإعتراض على “المساجين" الخمسة، فإن الخلاف كان عميقا بالنسبة للآخرين، كان الخمسة ضد رقم 9 لأنهم يكوّنون أقلية، وبالتالي ومحاولة لردء التصدع تم الإتفاق على أن يكون عدد أعضاء المكتب السياسي سبعة. وإزاء هذا المأزق رفعت الجلسة للقيام بتشاور في الكواليس محاولة لإنقاذ الموقت، وهكذا عقد اجتماع تشاوري غير رسمي بين مجموعة تتكون من 22 مسؤولا يمثلون مجموع ولايات الداخل وفيدرالية فرنسا والمغرب وتونس، وأعضاء من الحكومة المؤقتة ومن مكتب المجلس الوطني للثورة الجزائرية، وكان الهدف هو محاولة إيجاد صيغة مقبولة لدى الجميع، منطلقا من اقتراح يتكون من عناصر ثلاثة، وإرجاع المياه إلى مجاريها، واستئناف المداولات، والعناصر الثلاثة هي: 1 يجب احترام الشرعية (ونلاحظ هنا الموقف المبدئي للولاية الثانية) والحفاظ على وحدة الصف في هذه المرحلة الحاسمة من الثورة. 2 يجب تحاشي ما من شأنه أن “يقزم" وينال من الثورة الجزائرية على الأرض الليبية، وهو ما سيصيب الشعب الليبي بخيبة كبيرة، وهو الذي كثيرا ما مجدنا وقدم لنا عظيم المساعدات. 3 يجب التكذيب القاطع لجميع توقعات العدو التي تروج بانتشار الفوضى بعد ذهاب فرنسا. واتفق الجميع على حل وسط يتمثل في تكوين مكتب سياسي من سبعة أعضاء (المسجونين الخمسة زائد شخصيتين من قيادات الداخل)، أما بوصوف وبن طوبال فقد تخليا إراديا لتسهيل هذه التسوية، ومثل هذا الموقف المسؤول في ساعة التمزقات الكبرى لجدير بالإحترام والتقدير. أختير علي كافي لتقديم الإقتراح إلى بن بلة، وبالفعل قام بالمهمة وخلال حوالي ساعتين فقط تمكن من إقناع بن بلة الذي تقبل الإقتراح بكل حماس.. ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، ففي نفس الليلة توجه (رابح بالوصيف) إلى بن بلة ليثنيه قائلا: “لا تكن واهما فقد اتفقوا ضدك"، وأصاب السهم مرماه من سجين أنوا، الضعيف المزاج والشكوك المريضة والتقلبات. وبذلك انقلب الأمر رأسا على عقب، وأصبحت جميع المبررات مقبولة لتكريس الفشل والنهاية المأساوية للشرعية. واندلعت الفوضى داخل الفندق حيث الاجتماع وكانت الفرصة سانحة لمن يصطاد في المياه العكرية، وخاصة الذين أحسوا بأن القطار سيفوتهم مرة أخرى وبغير رجعة. وجاء يوم 4 جوان 1962، وهو اليوم الأخير من عمر المؤتمر الذي طال أمده، وكانت الجلسة العامة، وهي القطرة التي أفاضت الكأس، حيث دامت الأزمة أسبوعا كاملا. وكان دائما تصحيح الوكالات مبررا سانحا لإثارة الاستفزاز والركض نحو القطيعة والتنافر والفشل، كانت حقا مأساة كبيرة وصدمة عظيمة لأولئك الذين وهم أقلية ما زالت في أعماقهم جذوة من الوطنية والثورية. أسبوع الأزمة المستمرة في ليلة 6 / 7 جوان، وبسرعة مفاجئة، غادر رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة (بن يوسف بن خدة) مدينة طرابلس، دون أن يخبر أحدا، لا مكتب المجلس الوطني للثورة الجزائرية ولا الوزراء، وكذلك فعل أعضاء مجلس الثورة، كل في اتجاه معين، فمنهم من ذهب إلى داخل الوطن وآخرون إلى تونس أو فرنسا... إنه مؤتمر الانفجار ونهاية الشرعية وانتصار المغامرة وبقي أعضاء المكتب ينتظرون استئناف الاجتماع المؤتمر وبعد مرور الوقت القانوني للانتظار جمع ثلاثي المكتب كل الوثائق مكتوبة ومسموعة (مسجلة) وحرروا محضرا أمضاه ثلاثتهم وأودعوا الكل مكانا سريا في قاعدة ديدوش مراد في طرابلس (ليبيا). وهكذا كان مصير الاجتماع المؤتمر (1) ترى لو رجعنا إلى الماضي القريب، كيف نحكم على هذه الاجتماعات الأخيرة للمجلس الوطني للثورة الجزائرية؟ 1 تحقق قول زيغوت يوسف “الاستقلال سنحصل عليه، أما الثورة فقد انتهت.." فالغائب الأكبر في هذا الاجتماع الأخير هي روح أول نوفمبر وفي الحقيقة أنها غابت منذ مدة طويلة عن الآفاق القيادية. 2 لقد كانت الثورة تتوفر على مؤسسات شرعية كان بإمكانها بكل هدوء ووعي تسلم السلطة من المستعمر، فهل كان من الضروري والحالة هذه، تعيين قيادة جديدة في طرابلس وقبيل الاستقلال والمخاطرة بمجابهة دامية؟ من سوء حظ الوطن أن الذين كانوا يعوون في الظلام منذ مدة طويلة لم يتركوا فرصة لاحترام الشرعية ما دامت مطامعهم الشخصية الانتهازية لم تتحقق. 3 ألم يكن من السابق لأوانه التفكير وبعنف وإصرار لا يمتان إلى الوطنية والثورية بشيء في تشكيل مكتب سياسي لحزب غير موجود؟ فالثورة الجزائرية أنشأت منظمة هي جيش التحرير الوطني، ولكنها عجزت عن إنشاء حزب، ولقد انكشف هذا من خلال الأزمة الانفجار، وكذلك حقيقة وواقع الحزب خلال العشرية الأولى للاستقلال. 4 هل كانت جلسات طرابلس اجتماعا أو مؤتمرا؟ بالنسبة للوطنيين المخلصين الذين عقدوا آمالا واسعة عليها، لا بد أن نسجل تلك الجلسات في التاريخ كمؤتمر، إذا كان آخر لقاء قبل الإنتصار جاء ليتوج شرعية دشنها مؤتمر الصومام، وثيقة إيديولوجية كانت قاعدة لكثير من النصوص الأساسية بعد الاستقلال، وبالتالي أضفت بعدا تاريخيا، وبهذا فقط، يمكن اعتبار اجتماع طرابلس الأخير مؤتمرا ناجحا. غادر الجميع وبقي بن بلة وحده مع بعض أتباعه من الدرجة الثانية.. وفي هذا الوقت جاء من أسر إليه بأن الحكومة بيّتت له شرا واعتزمت اغتياله، فانتقل فورا إلى بنغازي محاطا بحراسة مشددة. نصيحة عبد الناصر لبن بلة وفي مقر بعثتنا الدبلوماسية بالقاهرة تلقى علي كافي وكان رئيسا لها آنذاك... مكالمة هاتفية من سامي شرف مدير ديوان جمال عبد الناصر يخبره، بوشوك وصول بن بلة. رفض علي كافي الابلاغ مؤكدا لسامي شرف بأن بن بلة هو نائب رئيس حكومة، ولديه جميع إمكانيات الاتصال بي مباشرة، فما عليه إلا أن يبلغه هو شخصيا بوقت وصوله. واجتمعت بأعضاء البعثة (2) وأطلعتهم على الخبر تاركا لهم حرية الذهاب إلى المطار، فأيدوه بعد أن علموا رأيه بعدم الذهاب. وصل بن بلة وطلب مقابلة جمال عبد الناصر، فرد عليه بأنه مشغول وإن سمح له الوقت فلا بد أن يكون أي بن بلة مصحوبا برئيس البعثة. كان جمال عبد الناصر على علم بالأزمة التي انتهى بها الاجتماع المؤتمر-، وبعد الزيارة (3)، تقابل بن بلة مع علي، وبعد حديث مطول اقترح الأول على علي كافي تسميته مسؤولا ومندوبا عن الحكومة في كامل الشرق الأوسط، ولكن كافي أجاب بأنه من المستحسن والمنطقي أن تأتيه هذه التسمية عن طريق وزير خارجيته سعد دحلب. وفي الأخير طلب بن بلة من كافي أن يرافقه إلى المغرب ومنه إلى تلمسان، فرفض مرة أخرى معللا ذلك بأن مثل هذا التصرف سيؤدي لا محالة إلى حرب أهلية. وافترقا دون أن يستطيع أحدهما إقناع الآخر. هكذا وكما ذكرنا فإن بن بلة سبق أن قابل عبد الناصر دون حضور رئيس البعثة علي كافي، وهذا مخالف لتقاليد بروتوكول وزارة الخارجية، وبالتالي فإن (كافي) لم يكن على علم بما دار بينهما، ولكن تسرب إليه أن عبد الناصر ألح على بن بلة بالدخول إلى الجزائر، ووعده بمساعدة عسكرية، وكانت المفاجأة! كان للثورة الجزائرية في إطار تكوين إطارات المستقبل طلبة عسكريون يدرسون بالقاهرة منهم جماعة الإسكندرية في كلية الشرطة وكلية البحرية أطلعوا علي كافي على أن هناك باخرة تشحن الأسلحة متوجهة إلى وهران، فما كان من علي إلا أن عاد إلى القاهرة وطلب مقابلة عبد الناصر، وكان الموعد، لم يكن عبد الناصر وحده، كان معه أغلبية أعضاء مجلس الثورة. وعندها شرح له علي كافي أن مثل هذا التصرف يعد انحيازا ويساهم ولو بغير قصد في إضرام الحرب الأهلية التي تخطط لها “جماعة تلمسان" و«الزاحفون على العاصمة"، وبذلك سيساهم في إفساد العلاقات بين الثورتين الجزائرية والمصرية. عندها تراجع عبد الناصر وقال لعلي كافي: إذا حددوا لنا المكان الذي تختارونه. فقال علي كافي: أرى الوقت غير مناسب، نظرا للوضعية التي تعيشها الجزائر، وإن كان لابد من ذلك فابعثوا الباخرة إلى ميناء وهران حتى لا يفسر ذلك انحيازا منكم أو تكون هدية “مسمومة" إلى الشعب الجزائري. فكان التوفيق وأرسلت باخرة إلى ميناء وهران، وأخرى إلى ميناء عنابة وذلك في أوج الأزمة (بن بلة رئيسا للجمهورية وبومدين وزيرا للدفاع)، إلا أن الباخرة الثانية انفجرت بميناء عنابة. الوضعية التي كانت عليها البلاد عشية الاستقلال من أبرز المظاهر القاتمة والمؤلمة التي عرفتها الجزائر، الوضعية التي كانت عليها البلاد غداة الاستقلال، الذي كان محتما وواجبا أن يكون عاملا حاسما للحفاظ على الوحدة الوطنية والاستعداد للجهاد الأكبر. فالخلفيات قد عرفناها منذ مؤتمر الصومام إلى مؤتمر طرابلس الأخير، وها هو انقسام خطير يحدث شرخا في قيادة الثورة بين الحكومة المؤقتة وهيئة الأركان، الأولى في العاصمة والثانية معززة ببن بلة وخيضر وآخرين بتلمسان. لقد كان حلم المجاهدين والشعب في الداخل وأيضا مصير الثورة الجزائرية فوق فوهة بركان في حالة ثوران أمام تسابق محموم على السلطة لم تعرف له الجزائر مثيلا... وإصرارا على الاستيلاء على السلطة ولو باستعمال السلاح والاقتتال العشوائي أو الحرب الأهلية. وهذا الوضع المأساوي، ضيع أمال الشهداء في جني ثمرة كفاح شعب مجاهد... والثورة أصبح يهددها الانقسام وشبح الحرب الأهلية التي كانت تغذيها العناصر الحاقدة على الثورة والشعب من الإدارة الفرنسية وأنصارها المتربصين في كل موقع ومكان. القمع إن الثورة لم تكن تمشي على الورود، والانتصارات التي كان يحققها جيش التحرير الوطني والصمود المثالي للشعب، لم يكن العدو يصفق لها. كان يواجه فشله وهزائمه بعمليات القمع والتدمير والتعذيب والإعدام، وقد كوّن لذلك مدارس يتخرج منها متخصصون في مختلف أنواع التعذيب الوحشي مثل مدرسة جان دارك بسكيكدة التي أنشأها بيجار لتكوين متخصصين في حرب العصابات وآخرين في وسائل التعذيب. ومن هذه المراكز على سبيل المثال: مركز القصبة العسكري بمدينة عنابة المركز العسكري بوادي العنب وبرج نام الذرعان بقالمة والثكنة العسكرية بنفس المدينة. ومراكز أخرى بوادي الزناتي وجيجل والميلية والطاهير والميلة والتلاغمة وشلغوم العيد وسكيكدة. ومن أنواع التعذيب ووسائل المتداولة عبر التراب الوطني: الكي الكهربائي الكماشة المسامير وضع الملح في الجروح- الإجلاس على القارورة بالقوة قلع الأظافر اقتلاع الأسنان الإخصاء الكلاب المدربة والخنازير الوحشية قذف المساجين المكبلين أحياء من الطائرات بقر بطون النساء الحوامل وأجسامهن بتر الأعضاء التناسلية للرجال والنساء. المحتشدات كانت عبارة عن سجون في العراء يرحّل إليها سكان الجبال أبناء الريف ويحتشدون بمناطق تحت رقابة شديدة وذلك بهدف عزل الجماهير الشعبية عن جيش التحرير الوطني وتضييق الخناق عليه بحرمانه من المال والتموين. ولكن الحقيقة كانت عكس رغبات العدو، فأخبار تحركات العدو كانت تأتي من هذه المحتشدات عن طريق اللجان السرية التي كونها جيش التحرير الوطني داخلها، والتي كانت حلقة الوصل الفعالة، وبقيت الجماهير الشعبية لصيقة بثورتها رغم الظروف الحياتية الصعبة من جوع وبرد واعتداءات على الحرمات واغتيالات. وعلى سبيل المثال لا الحصر كانت هناك محتشدات في القل جيجل الميلية ميلة - قالمةسكيكدةعنابة. المعتقلات خاصة بأسرى جيش التحرير وجبهة التحرير الوطني، أشهرها معتقل الملاحة، ومعتقل أولاد عطا الله قرب مدينة عنابة تعرض فيها المعتقلون إلى جميع أنواع التعذيب والإهانة والأشغال الشاقة، فمنهم من تعرض للإعدام، وآخرون وجهوا إلى معتقلات قصر الطير (قصر الأبطال حاليا) والجرف. رغم كل ذلك كوّن المعتقلون لجانا خاصة للاتصال بالثورة والحصول على المعلومات والتعليمات، وكان الأكثر ثقافة منهم يعلّم الباقي دروسا في اللغتين العربية والفرنسية وأركان الإسلام. وجدير بالملاحظة أنهم كانوا يتلقون موادا غذائية وألبسة من إخوانهم في المدن. وبالإضافة إلى القضاء على الثروة الحيوانية وحرق المزارع والغابات بالنابالم، هناك التدمير الكامل للقرى وحرق المداشر والقتل الجماعي، دون تمييز بين الأطفال والنساء والشيوخ. كما كان العدو يضع السجناء في أفران خاصة (4) ذات درجات حرارية خطيرة، مثل سجن تامنتوت. 1 وخلافا لما جاء في (ميثاق الجزائر) المنعقد في 1964 فإنه لم يتم تشكيل المكتب السياسي. 2 وكان عبد الناصر أثناءها قد ألح على بن بلة بالدخول إلى الجزائر، فليس له مكان بالقاهرة إن كان حقا يسعى إلى نصرة الثورة وإلا كان مصيره مصير صالح بن يوسف. 3 - حضر المقابلة عزيز بن الميلود. 4 مثل أفران داخاو في برلين التي تعود إلى عهد النازية وهو يزار اليوم، فلماذا لا تقوم سلطاتنا بمثل ذلك وغيره كثير حتى تتعرف الأجيال على الحقيقة.