زعيمان مهمان رحلا، في الأسابيع القليلة الماضية، هما هوغو شافيز (5 مارس) ومارغريت تاتشر (8 أفريل)، تناقضات كثيرة تفصل بينهما، فالأول اشتهر باشتراكيته المبالغ فيها ودفاعه عن الطبقات المحرومة، والثانية بقمعها لعمال المناجم البسطاء ودفاعها المستميت عن الرأسمالية المتوحشة، بينهما عداوة أفكار وعقائد سياسية مختلفة، ورابط واحد يجمع بينهما، كونهما يمثلان الجيل الأخير من “الزعامات الفردية"، القيادات القائمة على الرجل الواحد، أو “النبي المخلص"، فصور العزاء ومشاهد جنازتي شافيز وتاتشر هي انعكاس لأطروحة سياسية قديمة، سادت طويلا في دول العالم الثالث، وفي نظيراتها من الدول المتقدمة، فلم يكن ممكنا التعاطي مع الأحداث والوقائع التاريخية الكبرى، دونما العودة إلى مرجعية سياسية ثابتة ووحيدة، أو الاستشهاد ب “الفرد - الجماعة"، ولطالما ارتبطت الحركات التحريرية في أمريكا اللاتينية باسم “سيمون بوليفار"، والثورة الكوبية باسمي “تشي غيفارا" و«فيدال كاسترو"، وقيام تركيا الحديثة باسم كمال آتاتورك، والحرب العالمية الثانية بوانستون تشرتشيل. ولكن، يبدو أن مفهوم “الزعيم" قد تغير كلية، وأسقط من قاموس اللعبة السياسية مع بدايات الربيع العربي، وتحول البطل من الفرد إلى الجماعة، وصارت الثورة قضية “شارع" وليست قضية “مفكر أو عبقري" يتخذ قرارا منفردا. صورة المظاهرات الحاشدة بتونس العاصمة، صفاقس، سيدي بوزيد، واعتصامات الشباب في ميدان التحرير بالقاهرة، وساحة الجامعة بصنعاء، هي جواب صريح وتعبير واضح عن بنية ومنطق الحركات الاحتجاجية الجديدة في القرن الواحد والعشرين، وتنظير ملموس لمفهوم الثورة الجديدة، والقابلية “لقتل الزعيم"، ونثر رماده على الجميع، ليصنع الشارع من كل مواطن، أو حتى متعاطف مع قضيته، سوءا كان في الداخل أو الخارج، زعيما استثنائيا، وشريكا في صنع الرأي (وليس صنع القرار). ما عرفته دول الربيع العربي، خصوصا تونس ومصر، من تحولات، خصاصة السوسيولوجية منها، مع بداية تنامي الحس السياسي والمواطناتي لدى الفرد العادي، الذي لم يكن، في السابق، يهتم بقضايا الشأن، مس قطاعات مختلفة، بما فيها القطاع الثقافي، وبدأت الكثير من الزعامات الثقافية السابقة، المحسوبة على الأنظمة السياسية القديمة، التي سقطت بإرادة الشعب، تجد نفسها مجبرة على ترك مكانها لجيل جديد، جيل يتكتل ويتحرك جماعة، لا يؤمن بالنوستالجيا، وبالخطابات المكررة. ففي تونس مثلا، دفع المنتج السينمائي طارق بن عمار الثمن غاليا، بعدما عاش شهر عسل طويل الأمد، أيام زين العابدين بن علي وليلى طرابلسي، ليجد اليوم نفسه محاصرا، غير قادر على استعادة “الزعامة" الثقافية والقدرة على تحريك صناع القرار، وحصل الشيء نفسه مع العازف والمطرب لطفي بوشناق، حيث لم يغفر له الشارع التونسي توقيعه على عريضة طالبت زين العابدين بن علي (أشهر قبل الثورة) للترشح لعهدة انتخابية جديدة، وفي مصر حصل الشيء نفسه، مع الكتاب المقربين من الرئيس المخلوع حسني مبارك وحرمه سوزان مبارك، خصوصا منهم الكاتب والناقد جابر عصفور، الذي لم يرى مانعا في تناسي إرثه الفكري التنويري وتقبل منصب وزير الثقافة أيام كانت قوات الأمن تطلق الرصاص الحي على المتظاهرين في القاهرة والاسكندرية وبورسعيد، أما في ليبيا، فقد سقط فجأة اسم الروائي ابراهيم الكوني من العقول، وفقد مكانته السابقة كواحد من “قياديي" المشهد الأدبي في البلد.. هو اذا واقع أفرزته التحولات الجديدة التي رافقت الربيع العربي، والتي فرضت ايقاعا مختلفا ونظرة مغايرة للمشهدين السياسي والثقافي، ولكن، لا يعني أنها بالضرورة نظرة صائبة، لأنها، في الوقت الراهن تعيش مرحلة انتقالية، تحمل كما من “الغضب" ومن “الارتدادية" والارتجالية أيضا ازاء مواقفها من الأنظمة السياسية السابقة، فالشارع العربي، أو المواطن العربي إجمالا، والذي طالما ارتبطت في ذهنه أسماء الدول العربية بأسماء رؤسائها (المكرسين في الكرسي)، يحاول اليوم أن يصنع مشهدا بديلا، بهدم الأصنام القديمة، والزحف جماعة لاعتلاء المنصب “الواحد". وتجدر الإشارة إلى الدور الذي لعبته وسائل الإعلام ووسائل الاتصال الحديثة، ومواقع التواصل الاجتماعي، في تحقيق المنطق السياسي الجديد، فأيام الثورتين التونسية والمصرية، تحولت المدونات والحسابات الشخصية على تويتر وفايسبوك إلى مصادر رسمية للمعلومة للقنوات الإخبارية التلفزيونية والصحف والدوريات الدولية، وصارت مثلا المدونة الشابة لينا بن مهني (صاحبة مدونة بنية تونسية) تمثلا مصدرا أكثر مصداقية من أي وزير أو مسؤول سياسي تونسي، كما عرفت صفحة “كلنا خالد سعيد" المصرية على الفايسبوك تهافتا غير مسبوق بعد ثور ة 25 يناير، تماما مثل صفحة “حركة شباب 6 أبريل". وبالتالي، ما يحصل من تغيرات ميدانية متسارعة، في دول الربيع العربي، يلغي منصب “القائد - السياسي - الواحد" (منصف المرزوقي ومحمد المرسي اللذان وصلا الحكم بعد الثورات لا يحظيا بإجماع، وينظر إليهما على أنهما أسماء مرحلة وليس زعماء)، ومعه مكانة “المفكر أو المنظر للحدث والواقعة التاريخية"، فالحديث عن الثورات العربية، والتوصيف الأهم لها لا يختزل في نص أو كتاب، بل يجد مساحة استقطاب أوسع له في الصورة، هكذا تغير أسلوب توثيق حركة الشارع، فالأسلوب القديم، الذي رافق مثلا الحملة الاستعمارية الفرنسية على الجزائر، بدعوة كتاب ورسامين لمرفقة الجيش في معاركه الحربية والتأريخ لها، فقد معناها، وصار اليوم أي مواطن بسيط قادر على توثيق الحدث بصورة هاتف نقال، لتصير لاحقا مرجعية لا بد منها، كما صار بإمكان كل واحد منا أيضا تزييف الواقع بتزييف الصور الحقيقية، مثلما فعل بعض أنصار حركة الاخوان المسلمين بمصر، بتزييف صورة محمد البرادعي لقطع الطريق أمام ترشحه للانتخابات الرئاسية الأخيرة. في الأخير، لا يمكن أن نحصر الربيع العربي في سياق سياسي واحد وضيق، فهو يمتد إلى عدد من القطاعات الحياتية المهمة، وما يحدث اليوم من انعكاسات له ثقافيا واجتماعيا، لا يعبر سوى عن بداية تحول أكبر وأهم في السنوات القادمة، فقريبا لن يبقى في الذاكرة الجماعية من الربيع العربي سوى صور الحشود والمظاهرات، وسننسى محمد البوعزيزي، وننسى أيضا من حاول ركوب الثورة في مصر وتونس واليمن وسوريا.