فلاحة: التمور الجزائرية تصدر إلى أكثر من 90 دولة    رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    وزير الصحة يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة:عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    غزة: مجزرة بيت لاهيا إمعان في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني ونتيجة للفيتو الأمريكي    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    أيام إعلامية حول الإثراء غير المشروع لدى الموظف العمومي والتصريح بالممتلكات وتقييم مخاطر الفساد    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    عميد جامع الجزائر يستقبل رئيس جامعة شمال القوقاز الروسية    منظمة التعاون الإسلامي: "الفيتو" الأمريكي يشكل تحديا لإرادة المجتمع الدولي وإمعانا في حماية الاحتلال    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    فلسطين: غزة أصبحت "مقبرة" للأطفال    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    يد بيد لبناء مستقبل أفضل لإفريقيا    التزام عميق للجزائر بالمواثيق الدولية للتكفّل بحقوق الطفل    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    بحث المسائل المرتبطة بالعلاقات بين البلدين    حج 2025 : رئيس الجمهورية يقرر تخصيص حصة إضافية ب2000 دفتر حج للأشخاص المسنين    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    الجزائرية للطرق السيّارة تعلن عن أشغال صيانة    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يثمن الالتزام العميق للجزائر بالمواثيق الدولية التي تكفل حقوق الطفل    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    الجزائر تشارك في اجتماع دعم الشعب الصحراوي بالبرتغال    مجلس الأمن يخفق في التصويت على مشروع قرار وقف إطلاق النار ..الجزائر ستواصل في المطالبة بوقف فوري للحرب على غزة    تكوين المحامين المتربصين في الدفع بعدم الدستورية    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    رئيس الجمهورية يشرف على مراسم أداء المديرة التنفيذية الجديدة للأمانة القارية للآلية الإفريقية اليمين    سعيدة..انطلاق تهيئة وإعادة تأهيل العيادة المتعددة الخدمات بسيدي أحمد    أمن دائرة بابار توقيف 03 أشخاص تورطوا في سرقة    ارتفاع عدد الضايا إلى 43.972 شهيدا    فايد يرافع من أجل معطيات دقيقة وشفافة    حقائب وزارية إضافية.. وكفاءات جديدة    القضية الفلسطينية هي القضية الأم في العالم العربي والإسلامي    تفكيك شبكة إجرامية تنشط عبر عدد من الولايات    انطلاق فعاليات الأسبوع العالمي للمقاولاتية بولايات الوسط    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نعوم تشومسكي “النضال من أجل الحقيقة"
نشر في الجزائر نيوز يوم 26 - 04 - 2013

هناك الكثير من المفكرين من اتخذ أفكاره وسيلة لتحقيق مآرب شخصية، فابتعد بذلك عمّا كان يؤمن به ويناضل من أجله، لأن الحياة أغرته، ولم يستطع مقاومة رغبات النفس وتطلعاتها إلى الجاه والسلطان، وبالمقابل هناك قلة من المفكرين من بقي وفيّا لأفكاره، عاضّا عليها بالنواجذ، فاتخذ وجوده قربانا من أجل الجماعة الإنسانية، وناضل من أجل الحقيقة، ودافع عن المظلومين والمسحوقين في العالم دون أن يأبه للتهديدات والعقوبات، ودون أن يعبأ بسياسة الإقصاء ورسائل التشهير، ومن هؤلاء القلّة المفكر الكبير “نعوم تشومسكي"، الذي فضح السياسة الأمريكية في العالم، ومع أنه يهودي، إلا أنه انتقد معاملة إسرائيل للفلسطينيين، وناصر قضايا العرب العادلة، ووقف بجانب المقهورين في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، وقام بتعرّية العولمة والنظام العالمي، وقاوم التطرف وحارب الإرهاب، وصفته صحيفة “نيويورك تايمز" ب “الظاهرة العالمية"، وأضافت إلى هذا الوصف قائلة “ربما يكون الصوت المقروء على أوسع نطاق حول السياسة الخارجية الأمريكية على وجه الكرة الأرضية"، كما اعتبره استطلاع لمجلة “بروسبكت فورين بوليسي" “المثقف رقم واحد"، كما تُعتبر بحوثه وكتبه الأكثر استشهادا بعد الكتاب المقدس “الإنجيل"، كما يقول الغربيون.
ولد نعوم تشومسكي في ولاية فيلادلفيا عام 1928، حصل تعليمه المبكر في مدرسة تجريبية تقدمية ثم في الثانوية المركزية في فيلادلفيا، بعد ذلك وفي جامعة بنسلفانيا درس الرياضيات والفلسفة واللسانيات أيضا، تحت إشراف زيليغ هاريس، ومع أنه نال شهادة الدكتوراه من بنسلفانيا إلا أنه أكمل معظم عمله المتعلق بها في جامعة هارفارد بين 1951 و1955م، ومنذ عام 1955 أخذ يدرّس في معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا إلى حد الآن، وقد نال درجة الأستاذية هناك عام 1956.
بالإضافة إلى إسهاماته في المجال اللغوي واللساني، حيث يُعد تشومسكي الأب الحقيقي لعلم اللغة الحديث في أطواره المتعددة، فإن له العديد من المؤلفات والدراسات في الفكر السياسي المعاصر، وهي كلها عبارة عن انتقاد للسياسة الأمريكية في العالم سواء السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية من بينها: القوة الأمريكية، شباب الغرفة الخلفية، حقوق الإنسان والسياسة الخارجية الأمريكية، المثلث الفاجع المشؤم: الولايات المتحدة وإسرائيل والفلسطينيون، أوهام ضرورية: السيطرة على الفكر في المجتمعات الديمقراطية، الديمقراطية الرادعة، الدولة الفاشلة، الربح مُقدماً على الشعب، سنة 501 الغزو مستمر، قراصنة وأباطرة، النزعة الإنسانية العسكرية الجديدة... بالإضافة إلى العديد من المقالات والحوارات والمقابلات.. واللاّفت للانتباه أن لغة تشومسكي في مجال الفكر اللغوي واللساني تتسم بالعمق والصعوبة والتعقيد والتحليل الفلسفي، تحتاج إلى مشقة وعناء حتّى تُفهم، لأنه منتوج موجه لذوي الاختصاص، أما تحليلاته السياسية فتتميز بالدقة والغزارة في المعلومة، لأنّها تعتمد على الوثائق والمذكرات التي تحصل عليها، ولغة بسيطة وسهلة في متناول الجميع، لأنه يخاطب السياسي والطبيب والفلاح والعامل البسيط، ذلك أن تشومسكي مسكون بالأمل في التغيير، ولن يحدث هذا التغيير إلا بتكاتف جهود الكل، حيث يدعو في جولاته المكوكية في العالم الضعفاء إلى التكتل، والفقراء إلى الوحدة.
هذا المقال قراءة لأفكار هذا المفكر الموسوعي الذي يستحق أن نقول عنه بأنّه مناضل من أجل الحقيقة والإنسان، وللتذكير فإن الموضوع يقتصر على المجال السياسي دون الخوض في أبحاثه اللغوية ودراساته اللسانية.
العنف والإمبراطورية:
يربط نعوم تشومسكي بين العنف والإمبراطورية، حيث يرى بأن العنف هو أساس أي امبرطورية تقوم، وهو الذي يمنح لها القوة والطاقة لكي تستمر في الوجود، وهذا حال أمريكا منذ تأسيسها الأول من طرف المهاجرين الأوروبيين، حيث أبادوا السكان الأصليين بكل وحشية تحت مسوغات واهية من بينها “تفوق الرجل الأبيض" و«بربرية السكان الأصليين"، يستعير تشومسكي عبارة من أدم سميث تقول: “لم توجد في أمريكا إلا أمتان تتجاوزان منزلة الوحشية (البيرو والمكسيك)، وقد دُمرت هاتان بعد اكتشافهما تقريبا، أما الباقي فكانوا مجرد متوحشين"، والتوحش وفق هذا الفهم يقتضي الإبادة لأنه لا أمل في تحضير مثل هؤلاء البرابرة والهمج، عن هذه المرحلة يتكلم تشومسكي بكل مرارة وأسى قائلا: “إنه يجلس في مكتبه بسبب قيام جماعة من المتطرفين المسيحيين بالسفر للعالم الجديد، وقاموا بعملية اقتلاع وتشريد للسكان الأصليين، ومعهم آخرون من الغرب، وأكملوا مهمة محو الحضارات الأصلية"، ويستحضر من ذاكرة الطفولة كيف كان يلعب مع أنداده لعبة “كابوي" و«الهنود الحمر"، ويعلق بأن هذا الأمر لن يتكرر مع أبنائه نظرا إلى “وعي الأب بالحضارة الأمريكية التي قامت على المحو والإبادة".
إن محو الآخر وإبادته مازال مستمرا إلى الآن، وفي كل مرة يرفع عناوين جديدة ومبررات أخرى، من تحضير وتمدين المجتمعات البربرية إلى نشر العدالة والسلام إلى نشر الديمقراطية والحرية، لأن الامبراطوية حسبه لا تستطيع أن تستمر بدون عنف، والمتأمل في التاريخ الأمريكي القديم منه والحديث يدرك حجم ما خلفه من دمار في العديد من أقطار العالم في غواتيمالا والسلفادور ونيكاراغوا وفيتنام ولبنان والصومال والسودان واليمن والعراق وأفغانستان... ونجد أن نعوم تشومسكي يفرق بين نوعين من استعمال أمريكا للقوة في العالم، وذلك بحسب الجغرافيا، فالأول تستدعيه الرغبة، والثاني تفرضه الحاجة، وفي ذلك يقول: “غالبا ما يفرق المحللون والمستشارون السياسيون بين حاجاتنا ورغباتنا، وتتمثل الأولى بالشرق الأوسط بما فيه من مصادر لا تضاهى للطاقة، وتتمثل الثانية بأمريكا الوسطى وهي ليست ذات أهمية استراتيجية أو اقتصادية تذكر، ولكنها منطقة تحكم فيها الولايات المتحدة تقليديا"، ومن الحجج التي تساق عادة عن (الحاجة) هو السيطرة على النفط، ومنع أي قوة محلية للسيطرة عليه، لأنّ ذلك يعتبر تهديدا للهيمنة الأمريكية على العالم، ولضمان ذلك لا بد من استعمال كل الوسائل الرادعة، وفي هذا الصدد يقول: “إن حاجاتنا في الشرق الأوسط تحل لنا اللجوء إلى أقصى الإجراءات للمحافظة على الهيمنة الأمريكية، ولكي نضمن عدم استطاعة أية قوة محلية مستقلة (أو دولة أجنبية) من كسب نفوذ جوهري في إنتاج النفط وتوزيعه. إن هذا يجب أن تهيمن عليه، في الحدود الممكنة، الولايات المتحدة وحلفاؤها وعملاؤها الإقليميون وشركاتها النفطية".
في التحليل النهائي، إن الإمبراطورية في حاجة إلى القوة حتى تبقى مسيطرة وقادرة على إخضاع الآخرين، والسؤال المهم هو: هل الحرب على الإرهاب التي دشنتها أمريكا بعد أحداث 11/ 9 هي حرب ضد الإجرام العالمي الذي تعدى الحدود وأصبح ظاهرة عالمية أم هل هي حرب لتثبيت الإمبراطورية؟
إذا كانت الإجابة عن هذا السؤال بأنها حرب ضد الإجرام العالمي، فهذا في نظر تشومسكي يعبر عن النفاق، ذلك “أن الشخص (ويقصد بوش) الذي يرفض تطبيق المعايير التي يريدها للآخرين على نفسه يكون منافقا"، كما أن هذه الحرب تشنّ ضد الضعفاء ولأجل الأقوياء، كيف يدان الفلسطيني الذي يحمل بندقية، ولا يدان الإسرائيلي الذي يستعمل أحدث الأسلحة؟ كيف يدان المدافع عن أرضه ووطنه، ويقال عن المحتل بأنه يدافع عن نفسه؟ كيف يدان إرهاب الأفراد ويجيّش ضده الجيوش، ويُستساغ إرهاب الدول، وينظر إليه بأنّه دفاع عن الإنسانية والعالم الحر؟ وبالتالي، فالحرب على الإرهاب ما هي إلا وسيلة لحماية المصالح الأمريكية، ومحاولة لإخضاع الآخر المختلف والمعترض، أي بمعنى آخر وسيلة لتثبيت الإمبراطورية الأمريكية التي تتراجع قوتها اقتصاديا وعسكريا.
النتيجة التي يخلص إليها تشومسكي في الأخير هي أن القوة والعنف جذور الإمبراطورية الأمريكية، وبالتالي لا فائدة من التغني بالنظام الجديد، والعصر الجديد، حيث تسود الديمقراطية والحرية والرفاهية و... لأن النظام العالمي الجديد لا يختلف عن القديم إلا في الاسم الأخير فقط، فالممارسات من إبادة ومحو وتدمير وحروب هي هي، أي أن “النظام العالمي القديم والجديد" واحد، أو بتعبير أدق “اللانظام العالمي الجديد"، إذا جاز لنا استعارة وصف المفكر الكبير “تزفيتان تودوروف".
اليوم هناك سبيل للتقليل من الفوضى والخروج من حالة اللانظام التي تسود العالم، وإن استمرت فستؤدي حتما إلى الانتحار الكوني، هذا السبيل يتمثل في أن تتخلى أمريكا عن حلمها في الهيمنة، لأن الهيمنة هي السيطرة والسيطرة تحتاج إلى تدمير الآخر وإضعاف الأنا، وبذلك تقل الحروب ويتوافر للبشرية الأمن والسلام والعيش الكريم، وهذا يقتضى من أمريكا أن تتحلى بالشجاعة والجرأة، وأن تتخلى عن حب الذات والأنانية المفرطة، وتتعامل مع الآخرين بمبدأ الاحترام، وأن تعترف بأن هناك شركاء آخرين، وأن تؤسس لعالم التعايش والتسامح، وهذا من شأنه أن يحافظ على بقاء أمريكا ووجودها. هذا ما قصده تشومسكي من خلال كتابه المعنون “الهيمنة أم البقاء"، فلأمريكا بحسب رأيه خياران اثنان، فالأول يؤدي بها إلى السقوط والانهيار، أما الثاني فيطيل بقاءها، ليس كقوة وحيدة، بل كشريكة مع قوى أخرى في قيادة العالم.
نقد الديمقراطية:
لقد تغير مفهوم الديمقراطية، حيث لم يعد ذلك المفهوم الذي صاغه المفكرون الأوائل الذي يقول بأن الديمقراطية هي “حكم الشعب أو سلطة الشعب"، أي أن الشعب هو صاحب القرار، وأنه هو الآمر والناهي، والعبرة في الأخير في الغلبة أي في حكم الأغلبية، أما اليوم فالمصطلح بحسب تشومسكي يشير إلى “منظومة حكومية تسيطر فيها صفوة المجتمع المؤسسة من مجتمع الأعمال على الدولة بسبب سيطرتها على مجتمع القطاع الخاص، في حين يتفرج سكان الدولة فيما يحدث في صمت"، وبهذا الفهم، فإن صناعة القرار بيد الأقلية المتحكمة في المال والأعمال، وما على العامة إلا الموافقة والتفرج، وفي هذا الصدد يقول تشومسكي “تُعدُّ الديمقراطية كما هو الحال في الولايات المتحدة منظومة تصنع فيها الصفوة القرارات التي يصدق عليها العامة، ومن ثم يعتبر اشتراك العامة في شؤون السياسة أمرا خطيرا"، وبهذا المفهوم تصبح الديمقراطية في التحليل الأخير مجرد أداة تستعملها الأقلية بغية التحكم في الأغلبية “حكم النخبة المتميزة حكما مطلق العنان" باسم الشعب، كما أن الديمقراطية تصبح شكلا من أشكال “السيطرة على السكان" فخلق الآراء الموافقة، وصنع القبول على نحو يتفق مع قرارات النخبة الحاكمة أمر حاسم. قد يستغرب البعض من هذا الكلام، ويجدون فيه مجرد تحليل من معارض شرس للسياسة الأمريكية، وأن الديمقراطية أفضل ما توصلت إليه الإنسانية في تسيير شؤون الدول والإنسان على مر التاريخ، حيث تعتبر نهاية التاريخ كما قال فرانسيس فوكاياما، وهذا الكلام لا يختلف فيه اثنان، ولكن هناك فرق بين النظرية والتطبيق، بين القول والفعل، وبين الأفكار والممارسة، ذلك أن الديمقراطية الحقة لا تعني ممارسة الحق الانتخابي مرة كل أربعة أو خمسة أعوام، وبعدها كل ينصرف إلى حال سبيله، بحيث تترك السلطة تفعل ما تشاء والشعب في غفلة من أمره، بل هي نظام ثقافي سياسي تشاركي يزدهر باستمرار، ومن ثم تأتي مشاركة المواطنين في تسيير شؤونهم وتغيير عالمهم. هل الديمقراطية بهذا المعنى موجودة؟ لا أعتقد ذلك، يقول المفكر النمساوي الكبير هانس كوكلر مؤيداً كلام تشومسكي: “الحقيقة أن المواطنين محرومون بحكم الواقع من حقوقهم في نظام تمثيلي حصري، لأنهم لا يستطيعون التأثير بأي وجه كان في القرارات التي تؤثر فيهم مباشرة".
والسؤال الذي يطرح كيف تتم صناعة الموافقة؟ الإجابة قد تكون سهلة من خلال ما يقدمه تشومسكي من أبحاث ودراسات، حيث إنّه صاغ مصطلحا عَبَّر عنه ب “هندسة القبول"، وللوصول إلى هذا القبول لا بد من انتهاج استراتيجية لخداع الجماهير، هذه الإستراتيجية قائمة على الإلهاء وخلق المشاكل ثم تقديم الحلول، والتقهقر (من أجل تقبّل إجراء غير مقبول، يكفي تطبيقه تدريجيا) والتأجيل (وذلك لإقرار قرار غير شعبي، هي في تقديمها ك “شر لا بد منه"، عبر الحصول على موافقة الرأي العام في الوقت الحاضر من أجل التطبيق في المستقبل)، كما أن الرأي العام يُخاطب كأطفال صغار، واللجوء إلى العاطفة بدل التفكير، ومحاولة إبقاء الجماهير في الجهل والخطيئة، وذلك باستساغة البلادة، مما يؤدي إلى جعل الفرد، وكأنّه المسؤول الوحيد عن شقائه ومعاناته.
هل يستمر الوضع على ما هو عليه، حيث يبقى الفرد رهينة بيد وسائل الإعلام المملوكة للنخبة المالكة للمال والقرار؟ بحسب تشومسكي أن دوام الحال من المحال، فقد ظهرت ثقافة معارضة، بدأت بوادرها تتشكل بداية الستينيات من القرن المنصرم، وهي في تزايد ملحوظ، وإن كانت تأخذ وقتا أطول حتى تنضج وتصبح قوة تأخذ في الحسبان، حيث أصبح الشعب “يكتسب مقدرة ورغبة في التفكير في الأمور، ونشأت شكوك حول السلطة، وتغيرت المواقف تجاه العديد من القضايا. ربما تكون التحولات بطيئة، تعوزها الحرارة، ولكنها مفهومة وهامة".
وهنا نفتح قوسا بخصوص الثورات العربية الجديدة التي كثر حولها الكلام واللَّغط، حيث ذهب الكثير من المحللين العرب المغرمين بنظرية المؤامرة إلى أنها صناعة أمريكية، فأمريكا تديرها، وتقف وراءها وتدعمها، والغرض من ذلك زعزعة الاستقرار ونشر الفوضى -تطبيق مبدأ الفوضى الخلاّقة- من خلال شبكة التواصل الاجتماعي التويتر والفايسبوك وتسريبات ويكليكس.. وهذا التحليل إن دل على شيء فإنما يدل على احتقار الشعوب العربية، والنظر إليها نظرة دونية، فالشعوب العربية كغيرها من شعوب العالم تحب الحرية وتريد الديمقراطية حيث المساواة والعدل والاحترام، أدركت في الأخير أن هذه الأمور ليست هبة من السماء، ولا هي هدية من عالم الشمال، إنما هي وعي ونضال وإرادة تصنعها الشعوب نفسها بنفسها، فأمريكا ترددت في البداية في دعم الحراك الجماهيري، لأنها لا تريد التغيير في الحقيقة وإنما بقاء الوضع على ما هو عليه، ونجد أن اللهجة الأمريكية تغيرت عندما رأت قوة الحركة الشعبية في تنظيمها وإصرارها على مطالبها، أما فيما يخص شبكة التواصل الاجتماعي فما هي إلا وسيلة مُدعمة للنضال من أجل تواصل الجماهير وحشدهم في الميادين والساحات. يحلل نعوم تشومسكي الرأي الأمريكي في قيام ديمقراطية في البلاد العربية حيث يقول: “تلتزم واشنطن وحلفاؤها بالمبدأ الراسخ الذي يستند إلى أن الديمقراطية مقبولة بقدر ما تتطابق فقط مع الأهداف الإستراتيجية والاقتصادية"، ويعلق بلغة ساخرة عن الديمقراطية التي ترضى عنها أمريكا قائلا: “لا بأس بها في أراضي العدو (إلى حد معين) ولكن في فنائنا الخلفي، رجاء، إلا إذا كانت مروَّضة كما ينبغي".
نقد الرأسمالية:
يفرق نعوم تشومسكي بين نوعين من الرأسمالية، حيث يقول: “ثمة الرأسمالية، وثمة الرأسمالية القائمة فعلا"، وبحسب تفسيره يُستعمل المصطلح بشكل شائع للإشارة إلى النظام الاقتصادي الأمريكي مع تدخل لافت من قبل الدولة يتراوح بين دعم الإبداع الابتكاري، وتغطية الحكومة المطلقة للبنوك، مهما كانت مخاطرها كبيرة، أما اليوم فهو يشير حسبه إلى الأنظمة التي يغيب فيها الرأسماليون أو الشركات التي تتبع خططاً توسعيةً، والمملوكة للعمال، كما أنّه يَستعمل المصطلح للإشارة إلى الديمقراطية الصناعية، بحيث تخضع المؤسسات إلى رقابة عامة بما في ذلك وسائل الإنتاج والتبادل والشهرة والنقل والتواصل، ومن دون هذه الشروط ستبقى السياسة عبئاً على المجتمع بسبب الشركات، لعل الشكل الأخير من الرأسمالية أصبح في خبر كان، بعد أن تضاءلت الرقابة، حيث “ترتكز رقابة الحكومة بشكل ضيق على رأس سلّم الدخل"، والسؤال المطروح هل تتوافق الديمقراطية مع الرأسمالية؟ بالنظر إلى أن صوت الشعب مُغيب من طرف إعلام النخبة الحاكمة عن طريق صناعة الأوهام والتيئيس ونشر ثقافة البلادة والاستهلاك، كما أنّ همّ الأقلية الحاكمة هو الربح فقط، حيث أن الربح في الرأسمالية مُقدم على الشعب، وبالنظر إلى المآسي والكوارث التي جلبتها الرأسمالية للإنسانية من الفقر والأمراض والتلوث البيئي والاحتباس الحراري والحروب والإبادة.. فإن الإجابة ستكون ب لا، وبحسب تشومسكي فإن الحضارة لن تصمد كثيرا في ظل الرأسمالية القائمة لأنها تتجه إلى الانتحار الكوني معرضة مصير كل البشرية للخطر، حيث يقول في هذا الصدد: “إذا أبقينا على ديمقراطية الرأسمالية القائمة فعلا، سيكون الجواب حتما، هما تتعارضان بشكل جذري. يبدو لي أنّه من غير المرجح أن تستمر الحضارة في ظل الديمقراطية الرأسمالية القائمة فعلا، والديمقراطية المخففة بشدة التي تأتي معها، ولكن أيمكن لديمقراطية فاعلة أن تُحدث فرقا"، في رأيه بعد أن استعرض العديد من الدراسات والأبحاث أن هناك وعيا بدأ يتشكل من خلال ظهور حركات مناهضة وجبهات احتجاجية وجمعيات معارضة مثل حركة مناهضة الأسلحة النووية، وحركة حماية البيئة... للوقوف في وجه المخططات القاتلة من طرف الدول الكبرى التي تريد تدمير الحضارة الإنسانية.
صراع الحضارات:
يختلف نعوم تشومسكي مع غيره من المفكرين الغربيين من أمثال صموئيل هنتنغتون وبرنارد لويس فيما يخص المصطلح الذي شاع بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، هذا المصطلح الذي أسس لحروب جديدة تتخذ من الثقافة والدين محاور وتكتلات، بعد أن أرّخ سقوط المعسكر الشرقي لنهاية الايدولوجيا، حيث وُضع الإسلام في مواجهة الغرب، وصُور بأنه عدو يريد أن يلتهم الغرب، ويدمر حضارته، حيث يرى في صراع الحضارات بأنها “فكرة خيالية ملفقة" سببها في رأيه هو “ظهور أناس يريدون هذا الصدام من أمثال أسامة بن لادن وجورج بوش - الحليفين بالأساس هذا ما قاله جورج شيوار صراحة، وهو أحد الشخصيات البارزة في السي أي ايه الذي ظل لسنوات طويلة مكلفا بمطاردة بن لادن، وكتب، مؤخرا، أن بن لادن وبوش حلفاء وستفهم لماذا لو نظرت جيدا، هما يتعاونان جوهريا بشكل غير مباشر ويعدان في الواقع لصراع الحضارات"، والسؤال المحوري الذي يحتاج إلى إجابة هو: هل يعد الإسلام عدوا للغرب؟ لا بد من إقرار حقيقة مهمة هنا، وهي أن أمريكا لا تخاف من الإسلام المتطرف، إن صح التعبير، الذي يتخذ من العنف إيديولوجية في الخطاب والممارسة، بل في كثير من الأحيان اتخذته كحليف لمحاربة الآخر، وإنما تخاف من الإسلام الذي يدعو إلى الاستقلال من الهيمنة الأمريكية والغربية، والتحرر من التبعية والتخلف والجهل، في هذا الشأن يقول تشومسكي: “من الصحيح القول إن الإسلام ربما يكون عدوا لأنّه يعتبر بمثابة قوة مستقلة (تحررية) علاوة على ذلك فإني لا أتفق مع القائلين بأن عداء أمريكا للإسلام لا عقلاني"، عن هذه الاستقلالية والقوة التحررية للإسلام يقول فوكاياما: “الإسلام يشكل إيديولوجيا متجانسة ومنتظمة، مثل الديمقراطية والشيوعية، مع دلالته الخاصة في الأخلاق ومذهبه في السياسة والعدالة الاجتماعية، وقد هَزم الإسلام في الواقع الديمقراطية الحرة في أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي موجها تهديدا خطيرا للممارسات التحررية"، والغاية من التأسيس لهذا العداء في نظر تشومسكي هي إيجاد الوسيلة لتحريك الهستيريا والخوف في نفوس الشعوب الغربية وكبح جماح هذا المارد القادم، وفي هذا الشأن يقول “فإذا كنت تريد حكم العالم فإن أي قوة مستقلة تعد عدوا محتملا، لذلك فمن المنطقي أن يكون المرء قلقا تجاه هذه القوة، ومن المنطقي أيضا تحريك الهستيريا والخوف حول مثل هذه القوة"، فصراع الحضارات في التحليل الأخير كما يقول “مجرد فكرة خيالية ملفقة"، تخفي وراءها أفكارا دعائية لها أساس واحد ووحيد، وهو القضاء على أي قوة مستقلة تحررية، وقد تكون الحرب على الإرهاب دعاية أمريكية من أجل توقيف عجلة التقدم والتطور، ليس في البلدان الإسلامية فحسب بل في كل مناطق العالم، خاصة تلك التي تتجرأ على معارضة السياسة الأمريكية وتريد التحرر من هيمنتها، ألم يقرأ جورج بوش على مسامعنا بعد أحداث 11 /9 ذلك المأثور التهديدي الذي يقول “من لم يكن معنا فهو ضدنا"، فضلا عن ذلك حتى يبقى العالم بحاجة إلى الولايات المتحدة وقوتها.
للموضوع هوامش


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.