نعيش الصداقة دائما كتنويع على ذواتنا في الزوايا الجميلة التي نحبها.. إنها تكثيف للجانب الجميل من الذات.. نقاسم الصديق أفراحنا وأحزاننا وأسرارنا ونستمع معه إلى الموسيقى التي نفضلها، نسافر معه فنصنع ذكريات الذات التي تعيش وتوجد دائما في إطار ثنائي لا ننتبه إلى ثنائيته لأنه أشبه بالإطار الذاتي... الصداقة امتداد جميل للذات الجميلة.. وهل يوجد من نثق فيه أكثر من ذاتنا؟.. لا، قطعا... «ما يجعل الصداقة خيرا من الحب هو الثقة التي تتصف بها" أبحث في صديقي عن يقيني الغائب.. حبيبتي تستطيع أن تكون على الجبهة المقابلة لتحتويني، هي التي تحبني حد الجنون.. أما صديقتي فتحاول دائما أن تسند وجودي بوجودها.. تحاول ألا تجعلني امتدادا لها ولكن أن يكون ما بيننا امتدادا لما هي عليه وما أنا عليه بمعزل عني وعنها.... قال بعضهم: “الجميع يبحثون عن صديق ولكن لا أحد يهتم بأن يكون كذلك" يلخص هذا القول جيدا أزمتي على مر الزمن.. أعتقد أن قصة حياتي موقعة بإيقاع فقداني لأصدقائي.. بل إن كينونتي نفسها كثيرا ما ترتسم على خلفية الأثر الذي تركه في موت صديق أو انصرافه عني أو فعل الحياة القاسي بما كان أو يكون بيننا.. يموت الصديق فيكون الموت ويولد صديق فلا يذهب الموت أبدا بل يهدد ميلاده الجديد بميتة آتية ولو بعد حين.. رغم كل ما يحمله من حياة جميلة... «آلام الأصدقاء تعترينا أكثر من اعتراء آلامنا لنا" فيليب سوبو كلمات السيريالي “سوبو" تعيدني دائما إلى أهم ما يميز الصديق الذي هو محو الذات لأجل الآخر وليس محاولة ابتلاع وجود الآخر كما يحدث الأمر في الحب.. إننا نهتم لأمر الصديق لأننا نعيه كشخص شديد العطاء مستعد للبذل يحبنا محبة خالصة.. لا تبتغي أية فائدة... الصداقة علاقة تحقق شرط “الفن للفن".. يتركك الصديق تكون كما أنت.. مع الصديق تتعرى سعيدا ولا تتوارى حذرا.. العائلة تربطك بصلات قوية مبنية على الإكراه.. على المسؤولية الجماعية مقسمة بين الأفراد.. أما الصداقة فتدافع عن حريتك وتفردك واستقلالك بشخصيتك... كتبت أول نص شعري لي (وكان مخزيا من شدة الركاكة) منذ 23 سنة وكان عنوانه “صديقي".. ولكنه سظل -برغم الخزي الماطر والإعصار- أول نص نشرته.. وموضوعه الصداقة لا الحب... من أنجح ما وفقت فيه في حياتي تحويل إخوتي الثلاثة وأختي الاثنتين وزوجتي وبنتيّ إلى أصدقائي.. لا حرج في الكلام، لاحدود أخلاقية، لا خوف من تسريب الأسرار ومن الإفضاء.. “أصدقائي هم أهلي" هي الجملة التي أكررها دائما.. ربحت من هذه الصفقة نجاحي في عدم فقدان هذا الجيل الجديد “الغريب" من الأصدقاء.. ثم إنهم قليلو النفاق والخداع في حالتهم الخاصة هذه... أصدقائي هم محدثي الكبار.. أنت إذا صمت تحدث نفسك دائما.. فإذا وجدت من تتحدث إليه دون أن تكون منشغلا بجهاز المراقبة أكثر مما أنت منشغل بتعرجات حديثك إليه فقد وجدت الصديق الذي أنصحك ألا تتعامل معه ماديا وألا تدخل المال بينكما.. هي مقولة قديمة تشبه كلام العجائز ولكنها نصيحة من ذهب والذي جرب يقرأ هذا الكلام مبتسما أما الذي لم يجرب فالأيام تخفي له مفاجآت كثيرة. كل هذا الكلام أوجهه إلى أفضل الأصدقاء.. القارئ.. هو يقبلك بعيوبك ويحبك لما تقوله من دون أن يعرفك... أليس القارئ هو الصديق المثالي؟