المثقف الذي نعنيه في مقالنا هذا، هو الذي حدده بيار بورديو بدور منتج الرأسمال الرمزي للمجتمع. المثقف الذي نعنيه هو الذي يجسد دورا في المجتمع، دورا من موقعه كمثقف ينتج وعيا، والوعي هو محصلة تفاعلية ديالكتيكية، جدل بين المجرد والمجسد، تفعيل المجرد بتجسيده والعروج بالواقعي إلى مستوى المثل. في مطلع ثمانينيات القرن الماضي ومع بداية تشكل إرهاصات ما سيعرفه العالم من تحولات صاحبتها الخيبات و الانكسارات ثم انبعثت محاولات إعادة البنينة والصياغة للتمثلات، طرح السؤال جزائريا عبر المنابر الصحفية وكان الطرح مقترنا مع أحداث كالربيع القبائلي ومع تناول إحدى دورات اللجنة المركزية للحزب الواحد لملف السياسة الثقافية ..وفتح نقاش عقب حوار أجراه محمد بلحي مع الراحل جغلول .. وبادر الراحل عمار بلحسن إلى جمع تلك النقاشات والتمهيد لها بمقدمة في كتاب حمل عنوانا له دلالته: “مثقفون أم أنتلجنسيا؟". في تلك السنين تتابعت الأحداث حتى بلغت مرحلة ما بعد أكتوبر وما أفرزته من معطيات ومن مناخ، وتجدد النقاش مكثفا، نقاش توقف عنده الراحل بختي بن عودة، وكل ما طرح وما جرى كان بالتعبير المسرحي بمثابة “بروفة" لما سينبثق من رحم الجحيم الذي دخلته البلاد واقترن ذلك أيضا بمتغيرات عالمية، تتابعت بوتيرة متسارعة منذ ثمانينيات القرن الماضي أفرزت حيثيات أعادت صياغة التمثلات والصياغات. لقد كتب عبد الإله بلقزيز عن نهاية المثقف الداعية وكتب علي حرب عن وهم النخبة...نهاية وليس النهاية، نهاية تتضمن انبعاثا متجددا لصياغة السؤال ومغامرة المفهمة .. ويقول الكاتب الصحفي الصافي سعيد: “حين تنهار الدول أو تصاب بالتفكك والضعف، يصبح من الشائع التنديد بالنخب أي بالأنتلجنسيا، فالقوة الروحية ذلك المحرك النفاث الذي يدفع بالأمم إلى الأمام، تتشكل من تلك الطبقة التي تسمى بالأنتلجنسيا. وتضم هذه الطبقة (الرقيقة والناعمة والواقية) جميع العناصر التي تعمل في حقول وفضاءات المعرفة المتعددة والمتنوعة. فهي الحاملة والحاضنة للمتغيرات والمعاني والمفاهيم والقيم الجديدة..والناطق باسم الضمير المستتر للأمة". وتناول المسألة في سياقنا يجعل كما قال أركون: “من المضجر وبلا أي قيمة أن نعود مرة أخرى إلى تلك المناقشات التي دارت في فرنسا حول هذا السؤال: ما هو المثقف؟". طرح المسألة يعني حسب أركون: “العودة إلى دراسة تطور مجريات تراث فكري ما وطريقة عمله ضمن سياقات تاريخية واجتماعية محددة تماما وخاصة به دون غيره". وبالتالي ما حدث من تشكل لما يسميه السياج الدوغمائي المغلق، وهو ما جعل مهمة المثقف المسلم تختزل كما يذكر: “إلى مجرد التعرف على الشيء، لا المعرفة الحقيقية به". إقليميا منذ سنتين نعيش الحراك الذي لا زال ملتبسا كأي حراك مماثل له، حراك جعل الحديث يتجدد عن موقع المثقف ... فالشارع المنفلت سبق النخب وأحدث الذي لم يكن متوقعا، فسعى البعض إلى التموج مع التيار وتموقع فريق آخر في موقع المستنكر الذي يخشى ضياع استقرار يخدم مصالحه وتاه فريق في محاولات قراءة وتمثل الحراك لأنه مسكون باغتراب أفقده القدرة على فهم محيطه. بعض المثقفين في الواجهة ولقد دخلوا امتحانا في الممارسة كالمنصف المرزوقي وبرهان غليون ..والبعض كأدونيس و صادق جلال العظم يحاول أن يشكل موقفا لكن التموقع مهتز ..وطرف حرص على الصدق مع ذاته كأحمد فؤاد نجم و كيوسف سعدي .. ولعل تجربة حركة كفاية في مصر التي كانت رائدة مقاومة نظام مبارك جديرة بالدراسة في سياق دراسة علاقة المثقف و النخب بالواقع، علاقة تفاعلية فاعلة وليس انفعالية. وشكل الحراك الحالي امتحانا محوريا، فلقد أفصحت التحولات عن تكرس الانفعالية التي تفقد النخبة جوهر تجسدها وتفقد المثقف معنى وجوده ... تكرسا أفقد الحراك القوة الراشدة التي تثمر تشكل الحالة الحضارية، وفي غياب القوة المذكورة تصبح الحالة احتضارية. ولعل ما يلفت الانتباه هيمنة منطق الثنائية وتغييب إمكانات فهم أكثر، منطق يكرسه الذين يفرضون منطق إما وإما وهو ما يبرز في التعاطي مع الحراك، بين من يختزلون كل ما يحدث في مؤامرة وبين من يدبجون إنشاءات عن الربيع. الميديا تتمحور بمنطقها المتشكل بما يتراكم من تطورات صاغت أيقونات ورموزا وصنعت نجوما يظهرون كقادة رأي ..و النجوم صنعتهم وتحتضنهم قنوات مرتبطة بأجندات ساسة وحسابات مقاولين ومستثمرين. والوسائط الاتصالية التلفزيونية والتفاعلية تضخ شلالات من التفاصيل والتفاصيل تفصل عن المعنى، المعنى محجوب بما تضخه وسائط الميديا من تفاصيل وفي التفاصيل يسكن الشيطان كما يقول المثل. والتاريخ في سيرورته مرتبط بسنن تحكم بالتجمد على مفتقد التجدد، والتجدد هو توليد الحياة في الكيان، تغذية الصيرورة للكينونة. وفي فترتنا هذه، مع التحولات تبلورت التفاوتات الهائلة التي جعلت الميدان محكا اختبارا للعقل، العقل الذي أخفق والعقل الذي يحاول والعقل الذي يبدع. وصلنا مرحلة هز بها الشارع الساكن وخلخل الجاهز واستدعى تبلور العقل الذي يمد الفعل بما يثمنه ويحوله تغييرا حقيقيا مؤسسا للتحول الذي يتضمن جدل القطيعة و الاستمرارية، قطيعة مع الذي ساد حتى أباد، واستمرارية رأسملة ما تراكم. الأفكار التي لا تتحرك تتوثن وبتوثنها يخمد الحيّ فينا ونبقى متلبسين بالصدى والشبح. يقول محمد أركون: (إذا استمر الفكر زمنا طويلا وهو يكتفي بترديد ما تسمح اللغة والنصوص العقائدية والرامزات الثقافية وإجماع الأمة ومصالح الدولة بالتفكير فيه، فإنه يتضخم ويثقل ويتراكم. ويسيطر على العقل عندئذ ما لم يفكر فيه بتلك اللغة وفي تلك الدائرة المعرفية وتلك الحقبة التاريخية. وهذا ما يختبره عمليا كل عربي ناطق باللغة العربية فقط، ولا يعرف غيرها من اللغات الأجنبية الحديثة). في الساحة لا زال مهيمنا الالتباس وقائما الصراع حول قضايا مختزلة في مصطلحات موظفة ببتر نسقي وسياقي، قضايا يعاد طرحها باجترارية تنميطية استنساخية فيبقى الدوران في ما يتهندس به الكهف الذي تحدث عنه الفلاسفة، الكهف الذي يجعل صوتنا صدى ويجعل حضورنا شبحيا. الحدث الذي يتفاعل، ينبثق فتطفو على الركح تجليات البؤس، بؤس يهدد مصير روعة ما انبثق في الميادين، بؤس ينتجه افتقاد مقومات النخبة المحركة للفعل، النخبة التي تنتج التاريخ، النخبة التي تبدع في سيرورة الحدث شروط صيرورة الوجود الحق، الوجود الجدير بما هو إنساني. هناك إشكال التسمية كما أشار المرحوم بختي بن عودة، إشكال متصل باشكال التمثل أساسا. مثقف التغيير: في مقال نشره بمجلة الدوحة “العدد 65" تحدث الناشط السياسي السوري ميشيل كيلو عن مثقف التغيير وكتب قائلا: (إنه نشأ بمرور الزمن العربي الحديث تطوران مهمان وسما عمل المثقف وبدّلا هويته وجلا منه ما أسميته “مثقف التغيير") والتطوران هما: (ابتعاده التدريجي عن الحزبية، وبالتالي عن السياسة بمعناها الضيق، والأيديولوجيا التي أطرتها وسوغتها، واقترابه المتعاظم من تجربة ذاتية الطابع، جعلته يضع ثقافته ومعارفه في خدمة “الشأن العام" بما هو السياسة بالمعنى الأرسطي، معناها الأعلى، الأرقى، الذي لا يقصرها على التزامات جزئية الطابع، حزبية الاتجاه، تنمي الولاءات الدنيا على حساب الولاء للهيمنة المجتمعية) و(التصاقه بظاهرة جديدة بالنسبة للوعي السياسي العربي، عبرت عن نفسها في ما يسمى المجتمع المدني الذي هو مجتمع مواطنين أحرار وليس مجتمع أفراد ينضوون في المجتمع خلال طبقات يرتبط نيلهم حقوقهم بنضالات أحزابها)..ويختم مقاله: “بظهور مثقف المجتمع المدني، الذي أسميته مثقف التغيير، تنشأ ظاهرة جديدة في حياتنا الثقافية مازالت في بدايتها). وسأحاول مواصلة النقاش في مقالات مقبلة لتعميق التناول وتحري التدقيق أكثر.