1 إلى الشمال طبعا، فأنا هنا في جنوب الجنوب، قبل ذلك هناك عمل نفسي كبير مع أطفالي الصغار الذين ما إن أذكر لهم سفري حتى تتغير طباعهم نحوي، وبقليل من الحيلة والحلويات والشكولاطة أنهي الأمر.. زوجتي كالعادة تحضر الحقيبة بعناية دون أن تنسى شيئا، وكعادتي أغافلها وأتخلص من نصف محتوياتها، لا أحب السفر بحقيبة ثقيلة ولو استطعت لسافرت دونها. لكن هذه المرة “تحشات لي" إذ أني اعتقدت أن الصيف الطارئ هنا سيكون هو نفسه في الشمال ففاجأني البرد في الشمال والأمطار، سافرت دون معطف ولا ملابس شتوية، لم أعمل بنصيحة الأجداد الذين يسمون هذه المرحلة ب (ڤويرات الراعي)، وأصل الحكاية أن راعيا باع برنوسه في أبريل ففاجأه البرد ولم يجد ما يفعل، أنا حدث لي ما حدث للراعي فاضطررت لشراء معطف وتريكو صوفي. 2 كعادتي في كل أسفاري أختار كتابا أو اثنين للقراءة، هذه المرة فاجأتني مكتبتي الفوضوية بكتاب (نعيشها لنرويها) لغابريال غارسيا ماركيز، ترجمة رفعت عطفه، وهي مذكرات ماركيز، تفاجأت لوجود هذا الكتاب في مكتبتي دون أن أنتبه، حتى أني لم أعرف من أين اشتريته ولا متى، مفاجأة سارة، لكن ربما يكون سبب عدم انتباهي أن العنوان غير مثير أو ربما يكون اقترحه المترجم على عجل (vivir para contarla) هكذا في الأصل بالإسبانية، مع اعترافي أن الترجمة كانت أنيقة ووفية لعوالم ماركيز. «ليست الحياة ما عاشه المرء بل ما يتذكره وكيف يتذكره.. هكذا يدبج ماركيز كتابه الذي غرقت فيه منذ أن أقلعت بنا الحافلة من تندوف في تمام الخامسة مساء، مذكرات غابي هي رواية لكل حياته وحياة رواياته، يبدأ مذكراته بسفره الطويل مع أمه إلى بلدتهم الأولى لأجل بيع منزلهم الأول. وفي هذا السفر الطويل يستعرض حياته وحياة العائلة، الأهم في هذا الكتاب أن كل شخوص رواياته هم الأناس الذين عاشوا معهم، لم يكن الكولونيل خوسيه أركاديو بويندا في (مائة عام من العزلة) أو(خريف البطريك) أو(ليس للعقيد من يراسله) غير جده. ولم تكن قصة الحب الخرافية بين فلورينتينو أريثا وفيرمانا داثا في (الحب في زمن الكوليرا) غير قصة الحب العنيفة والغريبة التي جمعت بين والديه، كل هذه الشخوص وأهوائها ومزاجاتها كانت تتجلى أمامي والحافلة تسير في صحراء لامتناهية، ساكنة وهادئة، لم يكن يكسر رتابة المنظر المكرر غير عبور قافلة جمال صغيرة تمشي بتؤءة مطمئنة هادئة البال رافعة رأسها إلى السماء تشم في الأفق وفي الأرض أماكن الماء والكلأ، ثم يحل الليل بنجوم سمائه المضيئة في البعيد، لا مجال للنوم في هذا الليل، تلك عادتي في أسفاري البعيدة والطويلة، خلوة لذيذة مع الذات والإحتفال بأخطائها الكثيرة وانتصاراتها القليلة.. عند الفجر تصل الحافلة إلى بشار، استراحة قليلة ثم نواصل السفر إلى سعيدة.. 3 أصل صباحا إلى سعيدة، أجد في انتظاري عند مدخل المسرح الجهوي صديقي الأثير عز الدين عبار، مدير هذا المسرح، كنت متعبا من ليلة بيضاء قضيتها مع ماركيز ومع ذاتي. يخصص لي عز الدين غرفتي في المسرح، أستسلم لنوم عميق بلا أحلام.. في المساء كنت مع الفرقة المسرحية في تدريباتها على المسرحية الجديدة (جلنار) التي كتبها الحبيب السائح مستندا فيها على عوالم روايته الكبيرة (تلك المحبة). المسرحية كما يريدها مخرجها عز الدين عبار هي احتفال بعوالم الصحراء الغرائبية، باللباس والموسيقى والرقص والرمل. في الغد عمل لنا الحبيب السائح وليمة غذاء في بيته، لبن بقر طبيعي وتمر من أدرار، ثم حريرة وملفوف وشواء، ثم كسكسي بالرايب، وأخيرا شاي أدرار يصنعه لحبيب بنفسه بكؤوسه الثلاث التي تبدأ مُرة ثم يضاف إليها السكر والنعناع بالمقدار اللازم. الحبيب السايح مسكون بأدرار حتى أنه أصبح مرتبطا بالمكان حتى بعد تقاعده، مكان رائع للتأمل وللكتابة. 4 في الغد أسافر إلى تيسمسيلت أو (فيالار) في التسمية القديمة التي مازال أهلها يحافظون عليها. بين سعيدة وفيالار ينفجر ربيع خرافي في الطبيعة، أنظر إلى الأخضر الممتد بعيون صحراوية مدهوشة.. يا الله كل هذا الإخضرار في بلادي والناس متعبة.. في هذه المراعي تسرح أبقار كسلى، وغنم سمين.. تذكرت أمي، ماذا لو كانت معي في هذا السفر.. ماذا لو رأت كل هذا الربيع، كانت الأكيد ستأسف على سلالات ماعزها ونعاجها التي تعتني بها منذ سنوات، هذه السلالات التي لم تعرف في حياتها غير المراعي القاحلة لتبلبالة وبني عباس، كانت ستقول لي لو أن الله أعطاها أمتارا قليلة من هذا الإخضرار كانت ستشكره بكرة وأصيلا، أضحك في نفسي وأقول لها والله يا أمي أخاف على حيواناتك من هذا الإخضرار، الأكيد ستصاب بالهيستيريا والجنون. 5 مطر في الشمال.. مطر رذاذ كما أحب.. مطر الربيع يبهجني ويُرقص في ذاتي ذواتها الأخرى.. أسافر في المطر الصباحي إلى تيارت للقاء الصديق القديم عبد القادر جلجال، الذي لم أره منذ أكثر من 16 سنة، صديق من أيام الجامعة، والنضال ضد السلفية والإسلامويين والتخلف، أجده بانتظاري في محطة الحافلات، كبر قليلا بنظارات طبية، الهواجس ذاتها، قادني إلى التعرف على تيارتالمدينة التي عاث فيها الإرهاب ثم الإدارة فسادا، نقف عند الساحة الحمراء التي كانت ملتقى لشيوعيي المدينة، الساحة خربتها البلدية، والشيوعيون روادها القدامى انصرفوا في غير رجعة. ومع ذلك لتيارت سحرها بلهجة سكانها البدوية الفاتنة ونبيذها الأحلى من شهد العسل.. عبد القادر جلجال يصر على الضيافة في بيته، أغاني الجنية والشاب خالد وبوطيبة الزرقي وبلاوي الهواري.. عبد القادر يحب كل ما هو جزائري ويحتفي به.. ليلة تاريخية مع هذا الصديق الذي لم تغير منه السنوات شيئا. 6 أترك كل هذا الربيع، وهذه الأمطار، وهذه الذكريات خلفي وأعود إلى صحرائي، أعود إلى مشاغلي الرتيبة.