كنبي يحمل نصا مقدسا واحدا، يستشهد به ويدافع عنه، رحلت يمينة مشاكرة، أول أمس، وتركت نصها المقدس، الشامل الجامع: “المغارة المتفجرة" شاهدا عليها وعلى نبوءتها التي لم تكتمل. وعلى غرار كاتب ياسين الذي لم يتخلص طوال حياته من ورطة النص الواحد، ومن عقدة “نجمة" مستحيلة، ارتبط اسم مشاكرة بمغارة روائية، جاءت ربع قرن بعد صدور نجمة، لتعيد للرواية الجزائرية روحها، وتخلصها من خطاب سياسي مثقل بالبكائيات والنوستالجيا والعدائية تجاه الآخر.. كانت تجربة المغارة المتفجرة (1979) مخاضا عسيرا، ورغم حجمها المتوسط، فهي لم تصدر سوى بعد ثلاث محاولات متتالية، وبعد صبر وعناد وعتاب وتحايل على اللحظة التاريخية أيضا.. كان كاتب ياسين يعيد، في كل مرة، المخطوط مصححا، ومرفقا بملاحظات وهوامش، للروائية الشابة، التي لم تكن وقتها تتعدى سن الثالثة والعشرين، مع إحالات وتوجيهات لقراءة روائيين فرنسيين من الحساسية نفسها.. خمس سنوات كاملة قضتها يمينة في الاشتغال على نص واحد، سيظل علامة مميزة في تجرية الرواية الجزائرية ما بعد الكولونيالية، ومثالا على حساسية أدبية لم يكتب لها أن تستمر كثيرا.. يمينة “الكبلوتية" نصا وروحا، التي رفض ياسين أن يتبناها، رفضا منه لمنطق الأبوية، هي واحدة من أهم أسماء التجريب الروائي المغاربي، لم تكن تؤمن بالتراكم، بل فقط بالتجديد، تلغيم النص الروائي وخلخلته من الداخل، ثم إعادة بعثه مجددا في صورة مغايرة، قد تعجب بعضا ولا تعجب بعضا آخر.. كانت تلك طريقتها في التعبير عن نفسها، عن غضبها وكبتها في آن.. كتبت إذا يمينة نصها المقدس في المغارة المتفجرة، ولم تجد طاقة كافية لتكرر التجربة ثانية في رواية “آريس"(2000)، وواصلت الكتابة بعدها، لكن أوراقها ضاعت منها، “لست محظوظة مثل كاتب ياسين.. ليست لي جاكلين آرنو لتجمع لي نصوصي" قالت قبل حوالي عشر سنوات، فقد وجد ياسين إلى جانبه ناقدة وباحثة مجتهدة تجمع كل ما يصدر عنه، كل حرف وكل لحظة تأمل.. ولم تجد يمينة إلى جانبها سوى المقاساة.. وجدت أمامها صمتا ممتدا في عزلتها الضيقة في عيادة نفسانية.. لم تكن تسمع أكثر من صوت واحد.. صوت يأتي من داخلها.. كانت سنواتها الأخيرة جد صعبة، درامية إلى حد ما.. سنوات تيه وعدمية.. كانت تعيش في نفق من الوحدة اللاإنسانية، والأشياء من حولها تتداعى، و الذاكرة تتلاشى وزمن المغارة المتفجرة يبتعد شيئا فشيئا.. خطت في أيامها الأخيرة نصوصا شعرية.. شعرا يؤنس وحدتها ويخفف عنها غربتها.. ورحلت أخيرا بعدما اشتد عليها الألم.. لترتاح في دارها الأخرى وتترك لنا العالم.. لنا وحدنا.. لعلنا نشبع يوما ما رغبتها في أن ترى عرفانا جميلا يليق بها.. ليس في صور وأشكال طبعا، أو في حفنة ورد على شاهد قبرها.. بل في نص أدبي مفاجئ وملغم يضاهي جمال “مغارتها".