يبدو لي أن الأدب الحالي، أو كما كتب له أن يكون، بدأ يفقد إحدى علامات قواه القديمة، مثله مثل النقد الذي أوغل في محاكاة المنظور اللساني البنيوي المعروف في المقاربات الغربية، منذ الشكلانيين الروس إلى الموجات الجديدة التي ألقت بظلالها على القراءة، بداية من نهاية الستينيات إلى اليوم. هناك أسئلة كثيرة يجب أن تطرح اليوم على الأدب ووظيفته ومستقبله في ظل المتغيرات الكثيرة التي تشهدها الساحة الدولية، سواء في الدول المتقدمة أو في دول العالم الثالث، مهما كان هذا الأدب، كبيرا أم صغيرا. أي أن علينا، من حين إلى آخر، إعادة النظر في العلاقة بين المنجز الأدبي وبين المجتمعات والناس، وعلينا أن نطرح السؤال القديم: إلى أين يتجه الأدب؟ وهل الخيارات الموضوعاتية مؤسسة؟ وهل توارث الرؤى أو نقلها من بيئات مختلفة أمر لا يلحق ضررا بالأدب المحلي وبالمجتمعات المختلفة التي قد تحتاج إلى أدب مختلف له مهام أخرى؟ إلى أين يتجه الأدب خارج أي التزام؟ أتذكر أنني عشت في الروايات والمسرح والدواوين والمجامع القصصية، وفيها تعلمت المعجم والبلاغة والفلسفة والمبادئ والقيم والجمال. لقد كانت تلك الأعمال الكلاسيكية، بالنسبة إلي، جامعات وكتبا مليئة بالأفكار والزاد المعرفي الكافي لتنشئتي. أما الكتابة الحالية فلا تقدم لي ما قدمته المؤلفات القديمة، الغربية والعربية، ما عدا بعض التقنيات والآراء، إضافة إلى الفقر الكبير للقيم. لا يمكن أبدا نسيان الأم لمكسيم غوركي والسيد بافلوف، الأبله لدوستويفسكي، الجلد المثمن لبالزاك، بؤساء فيكتور هيجو وشخصيتي كوزيت وغافروش، الهارب لنيكولا راسبوتين، اللاز للطاهر وطار، فورولو لمولود فرعون، ديوان الغجر لبوشكين، القصص المذهلة لأنطوان تشيكوف، الإخوة الأعداء والمسيح يصلب من جديد لنيكوس كازنتزاكي، زوربا الإغريقي، أشعار مظفر النواب، ومحمود درويش، أحمد فؤاد نجم، كتابات جان بول سارتر، الشاعر أراغون، نصوص غانتر غراس ومواقفه، الشيخ والبحر لأرنست همنغواي، لمن تقرع الأجراس؟ إبداعات كافكا، برتولد بريخت. وقد نعود بعيدا إلى الوراء، إلى الآثار اليونانية مع أوديب سوفوكليس وبروميتيوس المقيد لإسخيلوس، وإلى زمن الملاحم التي اخترقت الحدود اللسانية وعاشت قرونا، وستستمر. لقد كانت هناك قيَم، وكانت هناك حكايات تجعلك تفكر أثناء القراءة وبعدها. وكان هناك كتَابا وشعراء يعرفون مكانتهم ووظيفتهم التاريخية. وكان الأدب أدبا. وهل كان نجيب محفوظ كاتبا تقليديا يمكن تجاوزه بسهولة؟ عندما أقارن رواياته بعشرات العناوين التي تسوَق في البلاد العربية ألاحظ الفرق الواضح على عدة أصعدة: الثلاثية، حب تحت المطر، السراب، قصر الشوق، السكرية.. ليس من السهل أن نمحوَ كاتبا بذلك العقل، وبتلك الثقافة، وبالقيم الفنية والأيديولوجية التي كان يتبناها، يتمثلها ويدافع عنها في نصوصه المثيرة، مهما اختلفنا مع وجهات نظره ومواقفه من التاريخ والموروث. يبدو لي أن الحداثة ذاتها هي التي قللت من شأن الأدب والأدباء، وخاصة في الوطن العربي. لقد ألحق سوء الفهم ضررا كبيرا بالكتابة وأسهم في عزلها عن تقاليد سامية كانت من صميم الأدب واهتماماته. إن هذا الثالوث المحرم، كما هو متداول على الألسن وفي الممارسات النصية الجديدة، بحاجة إلى مراجعة جذرية كي يفهم حدوده وحدود المتلقي، وكي لا يتمادى في فهم الحداثة وفق منطلق ضيق لا يتعدى حدود المسخ في بعده السطحي. هناك اليوم، في فهمنا الحداثي للثالوث المحرم، ما يشبه التردي العام، مع أن مختلف الدراسات لا تريد المغامرة بإبداء الرأي في المسألة لأسباب كثيرة، ومنها سلطة النفوذ السردي. لقد غدا الأدب، في مجمله، سلعة من السلع التي يتم الترويج لها في الأسواق، أي أنه صار في قبضة التجار والساسة والمنحرفين والاستعرائيين والشواذ جنسيا والناس الذين بلا مبادئ يمكن الدفاع عنها من أجل حفاظ الأدب على سلطته وجماله. وإذا كان النص الغربي قد بلغ مرحلة من التفسخ بفعل قناعات وبنى ثقافية ومعرفية، فإن النص العربي لم يصل إلى هذه المرحلة بفعل علاقات سببية واجتماعية منطقية، بل بفعل التقليد الساذج للموضوعات الغربية وكيفية معالجتها، سواء باسم التحرر أو باسم الحداثة القائمة على العري. ما يعني أن أغلب ما يكتب في الوطن العربي، باسم الحداثة الوهمية التي لم نتمثلها جيدا، سيظل خاضعا لأجهزة التقييس الوافدة من الآخر، وليس نتاج حلقية حضارية وقناعة راسخة. هذا النوع من الأدب، الفاقد للهوية والأصالة، لا يمكن أن يلتزم بشيء، لا بفكره ولا بمجتمعه وأعرافه وهمومه، قدر التزامه بالضوابط المستوردة من النظريات التي يتحكم فيها المقام، أي النظريات والممارسات الغيرية التي قد لا تعنيه إلا كمظهر أدبي جديد يرتبط بمنفعة عابرة، بصرف النظر عن قيمته الحقيقية ومدى انسجامه، ولو جزئيا، مع المحيط الذي يتحرك فيه ويكتب له، ومن أجله. قد لا نعثر في مئات العناوين الجديدة أي التزام بالقضايا المصيرية للشعوب التي نعيش معها، بقدر ما نلاحظ سفسفة لها وإعلاء من شأن موضوعات في الدرجة الثانية أو الثالثة، وذلك بسبب التأسيس على نقل المنظور الغربي بحرفية مقيتة، وكمثاقفة أحادية تستورد ولا تصدر. ويجب التأكيد على النقل الحرفي للكتابة الغربية التي لها سياقاتها ومجتمعاتها، لكنها لا تخص مجتمعاتنا بالمستوى ذاته، بالنظر إلى الخصوصية التي تميز مجتمعا عن آخر. يبدو أننا لم نميز ما بين الاستفادة من النموذج الغيري والانمحاء فيه. لقد وصلت الكتابة الغربية إلى مرحلة من التأزم قد لا تعني الكتابة العربية أبدا، ولا المجتمعات والقيم والأعراف والآفاق. ولا أعتقد أن مواطنا جائعا في القاهرة أو في الجزائر بحاجة إلى هذا النوع من الأدب الغارق في وصف الجسد والتفاصيل والأفعال، كما في الأفلام الخليعة التي تنتجها شركات البؤس المتخصصة في جمع الأموال، دون مراعاة القيم الإنسانية. الإنسان المظلوم والمضطهد بحاجة إلى سند، وليس إلى ترف عابث باسم شرعية الأدب القديمة. ما يفسر حراك الشارع بعيدا عن أفكارنا وكتاباتنا المنفصلة عن المجتمع وطموحاته. وإذا كان الأدب الجديد قد تنازل عن القيم، وعن كل ما له علاقة بالالتزام، فلأنه أصبح بدوره في قبضة الدعاية، وفي قبضة السياسة ورؤوس الأموال وموضة الإباحية الظرفية، ومن ثم فرضية انحساره وموته بانتفاء الظرف الذي أسهم في انتشاره السريع كسلعة للاستهلاك، ليس إلاَ. لذلك لا يمكن الحديث عن القراءة في ظل تكريس معيار أدبي لا يهم القارىء. لقد أفلحت الشركات العالمية والجماعات المتخصصة في إنتاج الحروب والأزمات في تحييد دور الأدب وإفراغه من الجوانب الروحية، ومن جوهره، وهو يتجه اليوم نحو عزلة كبيرة بفعل انشغالاته الذاتية، المنفصلة عن حياة المجتمعات. إنه، بشكل ما، بصدد محاربة المجتمعات التي ينتسب إليها، محاربة القارئ والتقاليد والدين والروح والأغلبية الساحقة، دون أن يدرك أنه يمارس استبدادا، أو يسهم في تقوية الاستبداد القائم بابتعاده عن الموضوعات الأساسية التي تسهم في التأثير والتغيير. إنني أزعم أن هذا النوع من الأدب البديل، الذي بدأ يهيمن تدريجيا على المشهد الأدبي، لا يمكن أن يحرر سوى الأعضاء التناسلية على مستوى الورق والصوَر والمتخيل. كما يمكن أن يسهم في خلق مجتمع ملتزم بالجنس كقضية وطنية بالدرجة الأولى، وليس بالمبادئ التي كرستها الآداب الخالدة عبر القرون. تلك الهالات التي لا يمكن لهذا النوع الخافت أن يحل محلها، مهما أوغل في خدمة هوس الاستعراء المجاني الموجه لفئات محدودة. لكن هذا الأدب لن يستطيع أبدا تحصين المجتمع وترقيته. وإذا استمر الأدب في التعامل مع الحداثة بالشكل المتواتر في بعض الفهم العربي، وفي بعض الكتابة التجريبية المتمردة على الأخلاق، فإننا لا يمكن أن ننتظر منه أكثر مما هو عليه من تهميش. أما ما يجب أن نعرفه هو موقف القارئ من هذه النصوص، ليس على مستوى شبكة التواصل الاجتماعي، بل على مستوى الواقع، أي علينا إدراك مدى نفور المتلقي من موضوعات ورؤى صادمة لا يستطيع الكاتب أن يخلق لها سياقا أو أن يبررها فنيا وجماليا وفلسفيا واجتماعيا. المسألة لا ترتبط بموقفنا من الدين والفتوى، بل بقدرة الكتابة على التواصل والتأثير والتغيير، بهذه الكتابة التي تفرض أثاثها المعرفي على المجتمع، كما كانت عليه سابقا مع كتَاب تمثيليين لهم حضور لا يمكن إنكار قوَته. أما إذا أصبح الأدب امتدادا للأفلام الخليعة، وتوأما لها، فلا يحق له أن ينتقد من حيث إنه غير مؤهل لذلك، إن لم يكن موضع نقد مركب، سياسي وأخلاقي وديني وفلسفي وجمالي، خاصة عندما يركز على موضوعات، ليس كتنميق، بل كجواهر، أي كقضايا مصيرية. ربما احتاج الموضوع إلى ندوات أكثر تخصصا وإحاطة، بيد أننا سنردد مع الناقد تودوروف، ولو في سياق مختلف: “الأدب في خطر"، أجل. لقد انحرف الأدب عن جوهره وأصبح في خطر داهم، قريبا جدا من الأغاني السوقية وأغاني الراب. إنه لم يعد يشبه تولستوي وكافكا وكامو وماركيز. لقد غدا شيئا آخر، مصالح أخرى وجوائز وأموالا وتبعية إلى الآخر والآخر. لم يعد الأدب، في مجمله، تلك القيمة الاستثنائية التي تميز عبقرية النخبة وقدرتها على التحليل والاستنتاج، بقدر ما أصبح بضاعة كأية بضاعة أخرى، إن لم تكن منبوذة ومقززة، وغير مؤهلة لأن تمثل الأمة وخياراتها.