زاوج بين البحث العلمي والشعر، غير أنه من المقتنعين أن الشعر لا يقبل ضرة معه. الدكتور الشاب يخوض في قضايا أدبية متعددة ومتشابكة، مثل كسر الطابوهات في الأدب العربي، واعتماد بعض الأدباء على الإباحية في أعمالهم الروائية، كما يتعرض إلى التشتت والفرقة التي يعيشها الأدباء الجزائريون متأسفا على هذا الوضع الذي لا يخدم الثقافة. الدكتور والأديب الشاب محمد كعوان يعتبر أن وزارة الثقافة قد حققت ما لم تحققه وزارة ثقافة في الجزائر من قبل. "المستقبل" التقته وكان لها معه هذا الحوار. إلى أين يتجه الأديب العربي الآن وقد سقطت الإيديولوجيات؟ يفضل الكاتب عادة أن يستشرف المستقبل، أن يعري الأشياء المحجوبة، وأن يفك رمزية الأشياء المبهمة، ولكنه لا يحبذ الكلام على شيء واضح يعرفه الجميع، لأن ذلك يعد سقوطا فجا في التقريرية وتكرار المبتذل، فالأديب عادة ما يسعفه خياله الجموح في ركوب موجة الاستشراف، لا يغريه الالتزام بمفهومه الكلاسيكي أي التزام الأديب بقضايا أمته فقط، بل يغريه التزامه بمبادئه ورؤاه الخاصة به والتي هي جزء من لاشعوره الجمعي. إن الدفاع عن الحرية وحق الكائن البشري في العيش الكريم واحترام حقوق الآخرين هي قضايا إنسانية وليست خاصة بأمة من الأمم، كما أنها متجذرة في لاشعوره الجمعي، وتعد من بين المكتسبات التي عزز بها أفكاره. والإيديولوجيا هي اختيار لا بد منه في الحياة والكتابة أيضا، إذ لا يخلو نص من الإيديولوجيا، فهي كظله الذي يتبعه دوما، لذلك فالإيديولوجيا هي شيء متجدد دوما، كلما تم التخلي عن إيديولوجيا معينة يتم التشبث بإيديولوجيا أخرى بالضرورة، لأن ذلك التخلي هو عبارة عن انتصار اختيار آخر والذي هو في حقيقة الأمر إيديولوجيا أخرى قد تكون نقيضا أو بديلا للأخرى . كيف ترى حالة النقد العربي بعيدا عن تطبيق المناهج الغربية؟ في حقيقة الأمر يمكن القول بأن المناهج النقدية الغربية السياقية منها أو النصانية هي امتداد طبيعي للنقد العربي القديم، فقد وضع النقاد العرب القدماء أرضية خصبة للنقد النصاني، حيث تطورت في العصر الحديث تلك المقولات مشكلة وعيا نقديا جديدا، عرف في الخمسينيات من القرن الماضي بالنقد الجديد الذي يعنى بالنص الأدبي مهملا بذلك صاحبه. وقد كانت بدايات هذا الاتجاه الجديد لدى الشكلانيين الروس في الربع الأول من القرن الماضي، وهذه الرؤية النقدية الجديدة ظهرت عند العرب قديما حينما حاولوا إثبات الإعجاز اللغوي والبياني في القرآن الكريم، إذ كان لا بد من تبيان مدى انزياح النص القرآني عن باقي النصوص الأدبية الأخرى وبخاصة الشعر، ونذكر هنا على سبيل الحصر منهج عبد القاهر الجرجاني في كتابه دلائل الإعجاز وقد كان سباقا بطروحاته اللغوية على كثير من الأسلوبيين الغربيين، ونحن نرى بأن عددا هائلا من الآراء اللسانية والنقدية قد استفاد منها العلماء في العصر الحديث، غير أنهم لم يشيروا إلى مصادرها الأساسية، ومرد ذلك؛ النظرة الدونية تجاه العرب قديما وحديثا. تلك النظرة التي سلبتنا من العديد من الإنجازات الفكرية والعلمية والحضارية أيضا. إن تطبيق المناهج النقدية الغربية على النصوص الأدبية العربية قد طرح تساؤلات عدة، جعلت النقاد يشككون في مدى نجاعة تلك التطبيقات الفجة للنقد الغربي بمناهجه ووسائله الإجرائية على النصوص الأدبية العربية، هل يسهم ذلك الخطاب النقدي في حل إشكاليات الواقع الأدبي والنقدي والثقافي العربي؟ أم تراه يعمل على تكريس واقع جديد يعكس الشرخ الكبير بين المنهج والنص . في حقيقة الأمر إننا بحاجة ماسة إلى نقد ينبع من صميم تراثنا اللغوي والفكري، يراعي خصوصيات اللغة العربية وجمالياتها الإيقاعية، وكذا الإيحائية، لأن اللغة كلها مجاز على حد قول ابن جني. يزعمون أن الرواية انتصرت على الشعر ؟ هذا زعم باطل في رأيي الخاص، لأن المقولة الصحيحة هي : لقد انتصرت الكتابة. فتجربة الكتابة مهما كان جنسها مرتبطة بالكائن البشري، وبدرجة تحضره ومحاولة إثبات وجوده. فإذا كان الشعر قديما يصلح للتعبير عن الأحاسيس والمشاعر، وقضايا المجتمع، وموقف القبيلة من قضية ما، ويشحن الهمم عند الحرب فإن كل هذه الوظائف التي يضطلع بها قد اندثر أغلبها لوجود خطابات أخرى أضحت تنافسه في ذلك، إذ ليس بالضرورة أن يعبر الشاعر عن المشاكل الاجتماعية أو القضايا السياسية، غير أن الرواية باعتبارها إحدى الأشكال السردية الأكثر شهرة وانتشارا في عصرنا الحالي تلبي رغبة الكاتب في التعبير عن العديد من القضايا، فهي تلخص رؤية الكاتب تجاه الآخر : كما تنقل لنا رؤية الآخر أيضا تجاه الجماعة، وتصور لنا الصراع الأبدي بين الخير والشر في شتى الأشكال والمظاهر، تصور الواقع المعيش وتطرح الأفكار والرؤى الجديدة، ولذلك يقال بأن الرواية هي بنت المدنية، في حين ينفرد الشعر بتصوير رؤى الذات وعلاقتها بكل ما هو خفي وسري، فالذات الإنسانية من طبيعتها حب المعرفة، ومن ثم فالشاعر المعاصر يسعى إلى سبر أغوار ذاته ليتسنى له معرفتها وكشف أغوارها، فالشعر مرتبط بالمعرفة، وهذه الأخيرة مرتبطة هي أيضا بمعرفة الذات الإلهية، وتحضرني هنا مقولة يرددها كثيرا الصوفية في جل مؤلفاتهم : من عرف نفسه فقد عرف ربه. لذلك يسعى الشعراء عبر الأزمان إلى كشف هذا الباطن المتعلق بذواتهم، لأن ذلك هو السبيل الأمثل للمعرفة اليقينية. والشعر لا ينتهي ولا يهزم ولا ينتهي عصره فهو خالد لأنه يؤسس لنفسه ذلك الخلود. ما تعليلك على عودة أدب الطابو، هل هو إفلاس أدبي، أم استفزاز حضاري، أم بحث عن الشهرة في إطار الإثارة ؟ أعتقد أن ما يسمى الآن بأدب الطابو أو أدب الثالوث المحرم موجود منذ القديم، فالكتابة على العموم هي خليط من السياسة والدين والجنس، لأن هذه الثلاثية هي محور التفكير الإنساني، وأساس تصرفات المجتمع. حضور الجنس وفق رمزية معينة في النصوص السردية لا يشكل أي مشكلة على الإطلاق، لكن المرفوض هو أن يتحول الخطاب الأدبي إلى خطاب إشهاري لمواقف جنسية تستحوذ أحيانا على جل العمل الأدبي، حيث تنتفي وظيفة الأدب من النص كلية لتحل محلها وظيفة أخرى قد تكون الإثارة، أو الدعوة إلى الرذيلة، أو محاولة تقنين المدنس وجعله شيئا عاديا. فعلى سبيل الحصر هناك مجموعة من الأمثلة بداية بالأديب التونسي كمال الرياحي، هذا الشاب الذي دخل باب الرواية مستعجلا، وباحثا عن مصعد الشهرة، حيث جاءت روايته الفاضحة والموسومة ب "المشرط" لتعبر عن تعب فني ورغبة ملحاحة في الظهور بمظهر المتحضر الحداثي الذي بإمكانه كسر كل الطابوهات، فقد طعم روايته بمجموعة من اللوحات والصور لأجساد عارية. وقد أعجبني جدا موقف مشرف لأستاذ جزائري يعتبر قدوة لعديد الأساتذة في الجامعات الجزائرية بعلمه وأخلاقه وذلك حينما رفض هدية المؤلف قائلا له لا يشرفني أن أضع هذه الرواية في مكتبتي ليقرأها أبنائي من أفراد عائلتي ومن طلبتي، فمثل هذه المواقف المشرفة، وهذه الجرأة في المواجهة هما ما نحتاج إليه في وقتنا العصيب هذا . وهناك أسماء عديدة تحتج بما كتبه التيفاشي والسيوطي والنفزاوي، وهي مؤلفات قديمة نالت شهرة كبيرة في وقتها، كما لا زالت محافظة على الصيت نفسه في أيامنا هذه، بل أصبحت مطية للكتابة عن الجنس، فهذه سلوى النعيمي صاحبة الرواية الجنسية: برهان العسل، والتي صدرت بلبنان سنة 2007. هذه الرواية التي تحتفي بالجنس من أول صفحة وهي الغلاف الذي يعرض جسدا أنثويا عاريا، كما أنها تستحضر كل المقولات العربية القديمة الخاصة بالجنس والتي استقتها من كتب التيفاشي والسيوطي والنفزاوي، وحتى من كتب مؤلفين غربيين ك : جورج باطاي، هنري ميللر، الماركيز دوساد، كازانوفا الكاماسوترا ... محمد كعوان الشاعر والأستاذ الجامعي والباحث، أي رؤية تطاردها من وراء هذا؟ الشعر كالمرأة لا يحب أن يعيش جنبا إلى جنب مع ضرة، فمعظم الأكاديميين تخلوا عن كتابة الشعر وقوله باستثناء قلة منهم، وهذا ليس اختيارا ولكنه الشعر يأتيك في لحظات تكون فيها أحوج ما تكون إلى التفكير الجيد لأجل تسجيل ملاحظة علمية معينة في أبحاثك الأكاديمية، فالباحث عادة ما يفضل معايشة موضوع بحثه، ولا يرغب البتة مقاطعة تلك اللحظات القلقة المفضية في آخر الأمر إلى نتائج علمية مرضية، والشعر له لحظاته وله طقوسه التي تحتم عليك معايشتها حتى تحس بلذة الحرف وهي تصدر إيقاعها السحري في ذاتك. وقد اخترت طريق البحث العلمي غير أن الشعر لا يزال يراودني من حين لآخر، كما أحن إليه وأحس بأن الإنسان خلق ليكون شاعرا؛ فالكون كله نغم لا يسمعه إلا الشعراء، ولا يستطيع التعبير عن جماله إلا الشعراء، والنفس رمز لا يفك مغاليقها إلا الشعراء، فكيف لا نأسى للشعر حينما يأتينا ونرده على أعقابه . هل لديك اقتراح ما للثقافة الجزائرية؟ أما بخصوص الثقافة الجزائرية في الفترة الراهنة فقد شهدت قفزة نوعية نظرا للاهتمام المتزايد بالثقافة وشؤونها من قبل الوزارة الوصية، وهو أمر لم يحدث منذ فترة طويلة تعاقبت خلالها على الوزارة عدة أسماء تنتمي لحقل الثقافة والمثقفين غير أنها لم تنهض بها بالطريقة التي هي عليها الآن، ولذلك نتوسم خيرا لثقافتنا الجزائرية في السنوات المقبلة إن بقي اهتمام السلطة تجاهها بهذه الطريقة، فنحن نعلم جيدا بأن للثقافة دورا كبيرا في النهوض بالمجتمعات، والدول المتقدمة بقدر تقدمها بقدر ما تنفق على ثقافتها، والكتاب على سبيل الحصر هو أحد مظاهر الاهتمام بالثقافة، غير أني أعيب على القائمين على طباعة ونشر الكتاب بمناسبة تظاهرة الجزائر عاصمة الثقافة العربية كونهم نشروا العديد من الكتب التي ليس لها قيمة تذكر مثل تلك الكتب التي جمع فيها أصحابها مقالات صحفية في سنوات خلت، حيث يشبه نشر تلك المقالات إعادة نشر أخبار صحافية ماتت في حينها، وهناك كتب كثيرة أعيد طبعها رغم أنها مكدسة في رفوف المكتبات لا تباع ولا تشترى، ورغم ذلك تبقى مبادرة دعم الكتاب ونشره نقطة إيجابية في سياستنا الراهنة . أما ما آل إليه حال كتابنا من تفرقة وفتن فهو شيء يؤسف له، فقد انقسم الأدباء طوائف تحكمهم المصالح الضيقة والآنية، لا يفكر الواحد منهم في نظرة الأشقاء لنا وقد أصبح حال اتحادنا مضرب المثل في التفرقة، وقد استفادت فئات عدة من هذا الوضع المأساوي والفوضوي لاتحاد الكتاب الجزائريين، وبقيت فئات أخرى مهمشة لأنها غير منتمية لإحدى الطائفتين. وما نتمناه من كل قلوبنا هو لم الشمل والذهاب إلى مؤتمر جامع وشامل تصفى فيه القلوب وتغلب المصلحة العليا على حساب المصالح الضيقة، نعيد فيه قيمة الأديب الجزائري المفقودة، ونباهي باتحادنا وتآخينا أشقاءنا وأعداءنا أيضا .
كلمة أخيرة أشكر جريدة المستقبل على هذه الالتفاتة الطيبة، وقد عودتنا على الحوارات القيمة، نتمنى لها ولطاقمها الاستمرار في أداء مهمتها النبيلة. كما أتمنى أن يسود الأمن والأمان مجتمعنا الجزائري، وأن يطمئن الواحد على حياته وماله في كل أرجاء وطننا الحبيب، فقد رزقنا الله جوهرة غالية، غير أننا لم نعطها حقها من الحب الذي هي أهل له، فعلى الكتاب والمثقفين والشعراء والروائيين أن يلتفتوا ولو قليلا إلى جمال الجزائر وتاريخها العريق فهي تستحق ذلك.