لقد تعلّق العقل العربي في السنوات الماضية بالعديد من الأوهام والخرافات، ومن تلك الخرافات، خرافة المقاومة، حيث قُسم المكون العربي إلى محورين، محور الاعتدال وهو الذي يرى بضرورة اعتماد السلام مع إسرائيل كخيار استراتيجي في ظل الظرف الراهن، حيث العالم تتحكم فيه القطبية الأحادية المتمثلة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وبما أن هذه الأخيرة تساند هذا الكيان وتدعمه بالمال والسلاح، فلا خيار لنا نحن العرب إلا اعتماد سياسة التواصل مع الكيان الإسرائيلي والاعتراف به والقبول بالأمر الواقع الذي فرضتها عوامل داخلية وخارجية، منها الانقسام العربي وضعفه، وقوة العدو ودعمه اللامحدود من طرف الدول الكبرى. مقابل ذلك، يوجد محور المقاومة الذي يضم دولا وجماعات من سوريا وحزب الله وحركة حماس والجهاد الفلسطينيتين، ويرى هذا المحور بضرورة اعتماد المقاومة كاستراتيجية لإرجاع الأرض لأصحابها والحقوق لمستحقيها، وقد حظي هذا المحور بتعاطف الشعوب والجماهير لأنه كان يعبر عن تطلعاتها المشروعة، إلا أن هذا المحور فيه من التناقضات ما يجعل الملاحظ يشك في النوايا والمقاصد، من ذلك تحالف نظام علماني يعمل على فصل ما هو ديني عما هو سياسي ودنيوي، بأحزاب إسلامية ونظام أصولي متطرف كالنظام الإيراني هذا من جهة، ومن جهة أخرى عندما ترفع راية المقاومة وتحرير الأرض، وتسمح باحتلال أرضك مدة أربعين عاما، حيث لا تطلق رصاصة واحدة على المحتل فهذا نفاق، وعندما توجه سلاحك ضد شعبك لأنه طلب القليل من الحرية، والقليل من العدالة، والقليل من المساواة فهذا طغيان، وعندما تستعين بالحرس الثوري الإيراني وبعناصر من حزب الله اللبناني، وبميليشيات عصائب الحق وبدر وأبو الفضل العباس العراقية، وبخبراء من روسيا وكوريا الشمالية فهذا غزو واحتلال يجب مقاومته. من بين المصطلحات التي يستعملها الممانعون مصطلح المؤامرة، ففي رأيهم أن ما يحصل في سوريا هو مؤامرة على هذا المحور الذي انتصر على إسرائيل وقال لا لأمريكا، واستهداف سوريا بهذا الشكل هو قصم لظهر المقاومة كما عبر عن ذلك سماحة السيد، وهذا مبررهم منذ بداية الحراك الجماهيري الذي بدأ سلميا، واستمر مدة ستة أشهر، وهذا باعتراف بشار الأسد نفسه، وقد تُرك بشار وحيدا في البداية لأن حلفاءه كانوا على ثقة بأنه سيقضي على الاحتجاجات بسهولة، ولكن لما طال الصراع، وأثبت النظام عجزه في إخماد جذوة الثورة استعان النظام بخبراء روس وإيرانيين من أجل رسم الخطط والاستراتيجيات، هذا في المرحلة الثانية، بعد ذلك أعطى حزب الله نفسه مبررا للتدخل، وهو الدفاع عن مواطنين لبنانيين يعيشون على الأراضي السورية في الحدود اللبنانية السورية، وحماية المقامات المقدسة كمقام السيدة زينب والسيدة سكينة، لتأتي المرحلة الأخيرة التي أعلن فيها حسن نصر الله انخراطه بشكل مباشر وفعلي في القتال الدائر، لأنه لن يسمح على حد قوله للتكفيريين (السنة) بالسيطرة على سوريا ومن ثم على لبنان، والمدهش أن نصر الله يستعمل اللغة نفسها التي استعملتها الإدارة الأمريكية في حروبها على الشرق الأوسط بعد 11 / 9 من بينها محاربة التكفيريين (الإرهابيين)، والتدخل هو ضربة استباقية حتى لا يسيطر التكفيريون على سوريا ومن ثم على لبنان، فما الهدف من هذا؟ ربما حتى يُعطى - أي نصر الله - الغربَ الانطباعَ بأن عدوهم واحد ومعركتهم واحدة، والسؤال الذي يُطرح هنا، هل نصر الله واع لحجم المخاطر التي جلبها ليس على سوريا ولبنان فحسب، بل على المنطقة بكاملها، وذلك بإحياء صراع القرون الأولى للإسلام من جديد واستحضار مفردات الفتنة الكبرى، وكأن العرب لم يكفهم حالة الضعف والوهن والتشرذم الذي يعيشونه، حتى يزيدهم انقساما وتشتتا أكثر. تدخل حزب الله والنفاق الغربي: عندما يقول حسن نصر الله بأن عناصره موجودة في القصير تقاتل بجانب قوات نظام الأسد التكفيريين، وأنّه بكلمة أو بكلمتين يستطيع التعبئة ضد هؤلاء الذين يريدون إسقاط الأسد، وتقول أمريكا وفرنسا وبريطانيا بأنهم لن يسلحوا المعارضة في الوقت الحالي خوفا من وقوع السلاح في يد المتطرفين والإرهابيين، في حين يغدق حلفاء النظام عليه بالسلاح الفتاك والمتطور، وعندما لا يتكلم الغرب عن التدخل المفضوح لإيران وحزب الله..، ويصدّع أذاننا بجبهة النصرة وأخواتها، فلا بد على الملاحظ أن يرسم العديد من علامات الاستفهام، هل يجوز لحزب الله التدخل في سوريا وممارسة القتل الطائفي في حق السوريين؟ ولماذا يسمح لحلفاء النظام تسليحه ودعمه، وتُحاصر الثورة من طرف أصدقائها؟ مرة بحجة عدم توحد المعارضة، وأخرى بحجة الخوف من سيطرة التكفيريين على سوريا المستقبل، إذا سيطرة حزب الله وإيران العدوَّين للغرب فيما يبدو على سوريا لا يثير القلق والخوف، أما الشك في سيطرة جماعة النصرة على سوريا يستوجب الحذر، ونقول الشك لأننا على يقين بأن القاعدة لا تملك الإمكانيات التي من شأنها السيطرة على دولة مثل سوريا، فهي فشلت في أفغانستان فكيف تنجح في بلاد الشام، كما أن القاعدة ما هي إلا تجمع دولي مخابراتي هدفه ليس خدمة الشعوب وتحرير الأوطان بقدر ما هو خدمة استراتيجيات خارجية لهذه الدول، ولا نستبعد أن يكون لإيران حضور قوي في القاعدة بما أنها لها أهداف إستراتيجية في الهيمنة والسيطرة وخاصة في المنطقة العربية. هكذا إذا سايرنا السياق الغربي وقلنا بأن جبهة النصرة هي جماعة متطرفة تضم مقاتلين أجانب، أما الحقيقة فهي غير ذلك، فجبهة النصرة المتشددة هي جماعة سورية، والدليل على ذلك أنها ثارت ضد النداء الذي وجهه الجولاني وأعلن فيه بأنها جزء من دولة العراق الإسلامية، كما أنها تقاتل كغيرها من الجماعات الأخرى الليبرالية والعلمانية لإسقاط النظام السوري الظالم، وبذلك فالمقارنة بين جبهة النصرة وحزب الله من طرف المحللين والكتاب مقارنة غير عادلة ذلك أن "حزب الله هو جزء من المنظومة الأمنية والعسكرية الإيرانية، وهو يقاتل في لبنان وسوريا وجهات أخرى، وهو يجمع مقاتليه على أساس طائفي يقاتل بهم في كل مكان يكلفه به الولي الفقيه"، كما عبر عن ذلك رضوان السيد. لكن، أين العرب مما يجري في سوريا؟ ففاتورة الصراع للأسف زادت وارتفعت بصورة كبيرة حيث بلغ عدد القتلى مئة ألف، والملايين من المشردين واللاجئين والمعتقلين، وبنية تحتية مدمرة، والكل تدخل من إيران إلى حزب الله إلى روسيا، والغائب الأكبر هم العرب، الذين ينتظرون "جينف 2"، ومع أنهم مستهدفون، والنتيجة الأخيرة للثورة بالنصر أو الهزيمة ستؤثر فيهم بالإيجاب أو السلب، إلا أن سياستهم إلى حد الآن تتسم بالغموض، وتعبر عن اللامبالاة من طرف القادة والحكام العرب، وإذا لم يكن للغرب سياسة دولية في إنقاذ الشعب السوري من الإبادة التي يتعرض لها من طرف النظام وحلفائه، لأن الغرب يريد إضعاف سوريا بحيث تصبح دولة فاشلة، لتنام إسرائيل قريرة العين مرتاحة البال، فلا بد على العرب أن يُظهروا القليل من المسؤولية تجاه الشعب السوري، ويدعموا ثورته بالمال والسلاح للوقوف في وجه الغزاة والمحتلين، وبهذا نكشف نفاق الغرب وتواطؤه مع أعداء الشعب السوري. تحالف الأقليات: كيف تفسر مساعدة إسرائيل للنظام السوري في استعادة معبر القنيطرة، قرب الجولان المحتل، من يد الثوار؟ وبماذا تفسر التنسيق الميداني بعد ذلك بين الجيش الإسرائيلي وقوات النظام السوري في هضبة الجولان بحسب الوثيقة التي نشرتها جريدة الحياة اللندنية (9 / 6)؟ ليس هناك من تفسير سوى خوف الكيان الإسرائيلي من البديل الذي تأتي به الثورة المباركة للشعب السوري، ويقوي هذا ما قلناه سابقا بأن نظام الأسد كان يستعمل ورقة المقاومة لتحقيق أهداف خاصة، وهو موجود أساسا لحماية إسرائيل، والسؤال المطروح كيف اجتمعت إيران ونظام الأسد وحكومة المالكي في العراق وحزب الله وإسرائيل على قلب واحد؟ هذا السؤال يقودنا إلى الحديث عن الأقليات، فالأقليات تعيش دائما في خوف ورُهاب من الآخر - الأكثرية - لذلك تسعى إلى تعويض الضعف العددي بزيادة قوتها، وبناء علاقات وتحالفات مع قوى أخرى، سواء أكانت هذه التحالفات مع أقليات أخرى، أم مع قوى عظمى توفر لها الحماية مقابل القيام بعمليات مشبوهة لصالحها. فإسرائيل دوما تبرر أمام العالم الخارجي بأنها تعسكر نفسها، وتزيد من قوتها، لأنها تعيش في وسط ينظر إليها بأنها عدو، ومستهدفة من طرف هذا الآخر العربي الذي يُكن لها الكراهية والحقد، لأنها تمثل أقلية في وسط عربي عرمرم، كذلك الشيعة ينظرون إلى أنفسهم بأنهم أقلية في وسط سني كبير، ويقولون بأنهم تعرضوا لظلم كبير من طرف هذه الأكثرية التي تحكمت في مقاليد الحكم مدة طويلة من الزمن، وإلا كيف تفسر استحضار رموز ومفردات من زمن الفتنة الكبرى، فالتحالف من طرف هؤلاء - إسرائيل والشيعة - فرضته ضرورات المكان والوجود باعتبارهم أقلية، وذلك لكبح جماح الأكثرية العربية (السنية). نعم، إن المقاومة التي يقودها أمثال حسن نصر الله، الذي يتلقى التكليف الشرعي من ولي الفقيه من طهران، وبشار الأسد الذي يحمي حدود إسرائيل، ويتخذ قضية فلسطين كتجارة يربح فيها مرات ويخسر مرة، وإيران التي تدعم حركات المقاومة بالمال والسلاح مقابل نشر التشيع في بلاد العرب، فإن مثل هذه المقاومة هي خرافة لن تحرر أرضا، ولن تعيد حقا، بل تدمر الأوطان وتفككها وتعيد الاستعمار من جديد.