تحوَل جيرار جينيت، كما تودوروف وأمبرتو إيكو وغيرهم من علماء السرد والسردية، في السنين الأخيرة، إلى العناية بمجالات أخرى، مبتعدين تدريجيا عن تلك الصرامة المنهجية التي عرفوا بها في بعض بحوثهم المؤسسة على منظورات اللسانيات البنيوية. وإذا كان كتاب "خطاب الحكاية" هالة أكاديمية شبيهة بفن الشعر لأرسطو، من حيث القيمة والدقة، فإن المؤلف إياه، ولأسباب كثيرة، بدأ يخفت تدريجيا في المقاربات السردية الغربية المعاصرة، ليس بسبب جانبه العلمي، إنما بفعل التحولات المنطقية التي تشهدها المعرفة، وكيفيات النظر إلى المعرفة ومعالجتها، ومنها المنجز السردي كأحد عناصرها، المتخيلة أو الواقعية. ويمكننا استنباط هذا المتغير من كتاب إيكو الموسوم آليات الكتابة السردية، هوامش على اسم الوردة، إضافة إلى مؤلفه الشهير غابة السرد، الذي يعد، من منظورنا نوعا من التراجع عن الوصف الآلي للمنجز، والنزوع نحو إقامة وزن للقراءة والتأويل والسياق، كما يمكن أن نستنتج ذلك من بعض المقاطع والرؤى، وبوضوح تام. كما كان كتاب آليات الكتابة السردية بحثا في الموروث والعلامة والمعجم والثقافة والدلالة، وبطريقة مغايرة للطريقة التي اتبعت في"البنية الغائبة". وقبل ذلك شهدت اهتمامات علماء السرد عدولا بتوجهها نحو التاريخ والفلسفة وسيميائية الثقافة، ومن منظورات مغايرة أيضا. نتذكر، على سبيل التمثيل، جهود الباحث يوري لوثمان. أكان ذلك إيذانا بوصول المنهج إلى أفق مسدود؟ ربما كان للأمر علاقة بمعيارية الدراسات التي غدت متقاربة بسبب انسداد أفق الأدوات ووقوعها في بعض التكرار المتوقع، مع انمحاء التمايز، منهجيا وقيميا، ما يؤثر على النمو والتنويع وطبيعة المقاربات في حد ذاتها. إلا أن هناك عنصرا آخر سيقود إلى مساءلة علم السرد والمناهج البنيوية قاطبة: مسألة المعنى، كما يظهر بجلاء في كتاب "الأدب في خطر" لتزفيتان تودوروف، أحد المؤسسين الأوائل للمنهج السردي في نهاية الستينيات، والباحث الذي يسند له مصطلح علم السرد، وعلم المحكي، كما يبدو في شعرية المحكي، وتحديدا في نحو المحكي: الديكامرون. كتاب الأدب في خطر هو مراجعة للخيار السابق الذي أنتج بعض الدراسات التي أدت إلى ظهور المنهج الجينيتي، كما أن علم السرد الجديد، في إرهاصاته الحالية، هو إقرار ضمني بنوع من الخفوت المنهجي الذي وجب تجاوزه بتطعيم آليات المقاربة السبعينية وموضوعاتها. وإذا كان المنظور الجديد في طور التأسيس، بالنظر إلى حداثته (1997 مع دافيد هرمان وعناصر علم السرد الجديد، وآفاق التحليل السردي الجديد في 1999، وتاريخ نظرية السرد، من البنيوية إلى اليوم لمونيكا فلودرنيك في 2005)، فإنه يعتبر الدراسات السابقة حلقة من حلقاته ومكونا ضروريا لمجموع الاجتهادات الافتراضية الحالية والقادمة، وهي تدخل، في عمومها، في باب النمو الحلزوني للمقاربات التي تنبني على المبدأ الحلقي للمعرفة برمتها. يطرح المنظور الجديد للدراسات السردية، بعد سنين من البحوث والمعاينات والاجتهادات والتطبيقات، السؤال ذاته الذي طرحه السابقون في ما يتعلق بالمادة التي يتم التأسيس عليها: ما المحكي؟ بيد أنه مختلف على عدة أصعدة من ناحية المنطلق، سواء في نظرته الشمولية أو في انشغالاته، مقارنة بالتجربة المنحسرة التي ميزت الرواد، أولئك الذين كانت لهم منطلقات وتصورات أخرى. ومن اهتمامات إعتبار علم السرد الجديد كل مقاربة تهتم بدراسة الخطاب السردي، وليس فقط ما ينضوي تحت نظرية الأدب البنيوية، كما هي متداولة في التقاليد. توسيع حقول الدراسات لتشمل التاريخ والسينما والحديث والصورة والموسيقى والحقوق والاقتصاد السياسي والطب، وكل ما يمكن أن ينتظم سرديا، سواء كان أدبيا أم غير أدبي، كتابيا أم شفهيا، (التوجه ذاته نلحظه في الدرس السيميائي الجديد وتحولاته). ما يعني أننا قد نصل لاحقا إلى بلورة علم سرد يشمل عدة مجموعات تحتية: علم سرد الأعراق، علم السرد النفسي، علم السرد الاجتماعي، علم السرد الإعلامي، علم السرد الديني، علم السرد الخرافي، علم السرد الأسطوري، إلخ. إستعمال وسائل متنوعة في المقاربات، ليس اللسانيات البنيوية وحدها، بل لسانيات التواصل، علم الاجتماع اللساني، علم النفس اللساني، وكل الوسائل التي توفرها العلوم المعرفية والنصية المتداولة. تبني التوجهات المختلفة: الحوارية، البلاغة، المنطق، الفلسفة، الشكلانية، الظواهراتية، الأرسطية، مباحث الاستعارة، علم الأخلاق، الانطباعات المعرفية، الآراء السياسية، التاريخ، الأنسية. أما الأسئلة المؤسسة فلا تركز على الكيفية وحدها، أو على شكل الإنتاج والعلاقات السببية، وغير السببية، بل على مجموعة من العناصر التي تدخل في الكيفية واللمية معا: قابلية المحكي للحكي، التداخلات المعرفية، وظيفة الحكاية (وليس فقط كيفية اشتغالها سرديا)، معنى المحكي (وليس فقط كيفية تمفصل المعنى)، حركية المحكي كعملية إنتاجية (وليس المحكي كنتاج مستقل عن السببية)، علاقة السياق بالمحكي وتأثيراته، أهمية الأدوات التعبيرية، العلاقة بين المحور الأفقي والمحور العمودي.. إلخ. ما يدل على نوع من التوفيقية التي ستكون أكثر ليونة مع المناهج والمعارف والتوجهات النقدية المختلفة، على شاكلة الخيار الذي اتبعته التداولية باستفادتها من حقول متباينة، ومن ثمة تخليها عن الصرامة المنهجية التي سلكتها اللسانيات البنيوية. وإذا كنا لسنا متيقنين من النتيجة التي ستصل إليها مثل هذه المشاريع، التي تبدو لنا غامضة ومضطربة، فإن الرؤيا الجديدة تقر بصعوبة المهمة، ومنها كيفية التعامل مع الجانب التأويلي بمنطق وبموضوعية. يشير الطرح الجديد إلى مسألة التأويل في عدة سياقات، ويقرنه بضرورة توفير مكان للمتلقي، أي أنه يريد أن يفرد للقارئ مجالا أوسع، أكثر حرية من "الضوابط الكبيرة" التي فرضها جيرار جينيت وأتباعه على المهتمين بالشأن السردي لفترة تجاوزت ثلاثة عقود من الزمن، وذلك بطرح أسئلة أبعدها علم السرد في صيغته اللسانية البنيوية. ويفهم من وراء هذا التفكير إعادة إدماج فئة واسعة من القراء والاهتمامات التي فقدت مكانتها في المقاربات السابقة. بيد أن التحليل البديل يبدو مائعا ومترددا بالنظر إلى معضلة التأويل وحدوده. لذا لا نعثر على مقترحات فعلية ودقيقة من شأنها ضبط المعايير التي يقوم عليها الفعل التأويلي الذي تم التأكيد. يذهب دافيد هرمان، والمهتمون بالمقاربة الجديدة، إلى اعتبار المتلقي جزءا من المشروع، ومن ثمة ضرورة معرفة موقفه من الملامح السردية وأهميتها وتبايناتها، ما يؤدي بالضرورة إلى أمرين اثنين: التأويل والموقف، ونقصد بالموقف بعده المركب: الأسلوبي، البنائي، النحوي، إن لم يتعد إلى الموقف الجمالي وغيره، لأن الحديث عن الأهمية يدخل في الموقف، مع ما للموقف من مرجعيات يتعذر ضبطها وتقنينها لعلاقتها بالذات ومتغيراتها. وإذا كانت الآليات السردية مع جينيت تتكئ على الموضوعية، أو على علمنة العملية السردية برمتها، فإن المقترح الجديد بصدد التنازل عن هذه النزعة لفائدة الانتشار، أو من أجل التوسع وإشراك مختلف المقاربات، على تباعدها وعدم اتساقها منهجيا ومصطلحيا. كما يطرح هؤلاء السؤال الحقيقي الذي كان يجب طرحه في البداية: على أي أساس يعتمد القراء لاختيار هذا التأويل دون الآخر؟ الإجابة ليست متوفرة حاليا، على الأقل من الجانب الإجرائي. ومن ثمة فرضية اللجوء إلى الأجوبة المؤسسة تجريبيا. يبدو الأمر ها هنا غاية في التعقيد، لأن التفكير في مخابر، أو في تأسيس مخابر خاصة باستنباط مستويات التأويل أمر لا يخلو من المفارقات، ثم إنه ليس من السهل تقنين المقاربات والتأويلات، وإذا حدث ذلك، على المستوى الفعلي، وليس على المستوى النظري فحسب، فإننا سنتجه حتما نحو شكلنة التأويل، على طريقة فلاديمير بروب في مورفولوجيا الحكاية الشعبية. وسيكون الفرق واضحا لاعتماد بروب على مدوَنة متناغمة ومحدودة، في حين أن التجريب يرتبط بالذوات المؤولة في عددها اللامتناهي، أي بالمرجعيات المتحولة التي يبني عليها القارئ في التعامل مع المادة السردية، خاصة في حالة النصوص الرمزية والسريالية، أو في حالة النصوص المفتوحة بشكل عام. وقد يواجه علم السرد الجديد، في تجريب التأويل، أو في التجريب التأويلي، أو في التأويل التجريبي الافتراضي، مشكلة المقاصد المركبة، مقاصد المؤلف، على تعددها ومضمراتها، ومقاصد المؤول في الوقت ذاته، علما أن المؤول يخضع للمتغيرات، أكثر من خضوعه للمعيار الثابت. مع ذلك فهناك مسعى للتأسيس لعلم سرد تجريبي مفاده: القدرة على إنتاج مرويات وتأويل نصوص كمرويات، كما يرى أصحاب الاجتهاد. لكننا لا ندري تحديدا إلى أي حد سيتقاطع المشروع التأويلي مع المشاريع السابقة. إن كان سيضع إطارا عاما وقانونا صارما، ومن ثم تحوله إلى نظام علمي، أم سيكتفي باقتراح نماذج تقريبية لتحرير القراءة وتوجيهها في الوقت نفسه. لكن المؤكد أن هناك تنازلا، وعودة إلى استغلال العناصر التي تخلت عنها البحوث اللسانية، ومنها البحوث السردية التي هيمنت بداية من نهاية الستينيات، دون الحديث عن الفترات السابقة التي شهدت انكفاء التأويل، أو انمحائه أحيانا. تقفيلة: ليس من السهل أن نتوقع القوانين التي سيؤسس عليها علم السرد الجديد لضبط التأويل، بيد أن هناك ملاحظة يمكن الإشارة إليها، باتخاذ مسافة من الحيطة: هل للمشروع الجديد علاقة بصراع المراكز؟