سجّل التاريخ شهادة الميلاد لاصطلاح الإيتوبيا أو الطوباوية برواية الإيتوبيا أو UTOPIE التي كتبها السير توماس مور 1478 - 1535، والتي عرفت بأنّها من أهمّ المؤلّفات التي تركها، فكانت تقعيدا لفنٍّ لغوي عُرف بالأدب الإيتوبي، فكانت المؤلفات القديمة أيضا موقع إلباس للحكم بالطوباوية مثل جمهورية أفلاطون، وغيرها، وليست المؤلفات اللاحقة لرواية الإيتوبيا، والدلالة تقرّر قوة المصطلح الذي نحته توماس مور، كما كانت تأسيساً وتنظيرا فلسفيا لمأمول الإنسان من السياسة، فالحلم بالسعادة والعيش في كنف الاكتمال نزوع بشري، وجبِّلة في الإنسان، والجدل الذي وضِعت فيه الإيتوبيا، أو بالأحرى وضعت الإيتوبيا فيه الفكر الغربي دليلا على قوة وأصالة الإبداع الذي استبطنته رواية الإيتوبيا في رحم صفحاتها.. ما نودّ الإشارة إليه في هذه الورقة بيان، وعرض قيم المواطنة كهيئة قانونية، وسياسية، وإن كانت التصورات المطروحة في الكتاب، لا ترقى إلى مستوى التنظير السياسي الذي قامت عليه المواطنة كمبدأ، ويمكن إدراجه ضمن التفكير التأسيسي لفلسفة المواطنة. يبدو لنا أن المواطنة هي المطلب الخفي في كتاب يوتوبيا، والمشروع السياسي المثالي الذي عنون به كتابه، الذي يتألف من ثلاث جمل: السياسة المثلى للدولة، ووصف يوتوبيا، حديث رافاييل هيتلوداي، كما يرويه توماس مور مواطن، ورئيس أمن المدينة الشهيرة لندن؛ فالجملة الأولى تحدّد الغاية الأخلاقية من الدولة، فهي أداة ووسيلة لتحقيق وتجسيد القيم الأخلاقية، فالمثالي هو (المنسوب إلى المثال، ويطلق على صورة الشيء الكاملة، أو على ما يحقق هذه الصورة تحقيقا تاما..)، أما الجملة الثانية فهي جملة تؤدي دور الوسيط بين المطلب والطالب، (و رافاييل هيتلوداي ترادف باليونانية ماهر في الهذر والعبارة تبعا للترجمة: (حديث رافاييل هيتلوداي) فهي ترمز للأسلوب المستخدم في التعبير عن الغاية وهو الحكاية في صيغة الحوار أولا، وبصيغة السرد في الكتاب الثاني، فالحديث هو الخطاب والاسم كما يقول ول ديورانت معناه المهارة، والقدرة على الصناعة اللفظية، أما الجملة الثالثة، كما يرويه توماس مور المواطن، فتقديم مور لصفة واسم المواطن، قبل رئيس أمن دائرة لندن يفيد البعد المواطني الذي كان يملكه مور، فهو فعلا نموذج المواطن الصالح، وبالتالي فإن القيم التي يقيم عليها المواطنة هي قيم المجتمع اليوتوبي الذي عاصمته امورات Amaurate المواطن الفاضل لا يملك إلا أن يتصور مجتمعا أفضل ومثاليا عبر الكلام، وإذا كانت المواطنة الحقيقية تتجسد في المشاركة السياسيّة، والحق في صنع القرار وعزل الحاكم إذا انحرف عن المسار المنوط به من قبل الناخبين، فإن هذه الدلالة واضحة وبيّنة في كتاب يوتوبيا لتوماس مور في عدة مواطن من الكتاب، ومنها: (ويشغل الحاكم منصبه طوال الحياة، ما لم يعزل إن أتهّم بالميل للطغيان، أما الرؤساء الأول فينتخبون سنوا ولكنهم لا يستبدلون بغيرهم إلا لسبب قوي....) الحاكم في مدينة (مور) يملك القدرة والصلاحية في البقاء على السلطة مدى الحياة، فمدّة الحكم غير محدّدة دستوريا، نظرا لعدم أهميتها، فليس المهم أن يبقى الحاكم مدة أطول أو مدة أقصر، المهم الالتزام بالقيم الأخلاقية، وتجسيدها بين أفراد الشعب، والسعي إلى الرقّي والارتقاء؛ والشعب يملك عبر ممثّليه الصلاحية في عزل الحاكم، وهذه القيمة تتصدّر السلّم القيمي لمبدأ المواطنة، فالطغيان أو الاستبداد كافٍ لعزله واستبداله، واللطيف في حديث مور أن الميل إلى الاستبداد كافٍ للعزل، ولا ينتظر الشعب ممارسة الطغيان من قبل الحاكم، كذلك اتهام مواطن من الجزيرة للحاكم أيضا كافٍ لعزله، وأعتقد أن مضمون هذه العبارة كاف للتدليل على تضمن الكتاب لفكرة، وقيمة المواطنة، ومن بين القيم السياسيّة والأخلاقية التي تضمنها الكتاب أيضا، المشاركة في القرار، والتسيير عبر الانتخاب، والنص التالي يكشف عن هذه القيمة: (تختار كل ثلاثين أسرة سنويا ممثلا أو رئيسا لها، كان يدعى بلغتهم القديمة سيفوجرانت، أما في اللغة الحديثة فيدعى فيلارك، ويقام على كل عشرة من الفيلارك والأسر التابعة لهم شخص كان يدعى قديما ترانيبور، أما الآن فيسمى بروتوفيلارك أو الرئيس الأول، وتنتخب الهيئة المؤلفة من الرؤساء أو السيفوجرانت، ويبلغ عددها مائتي شخص، بعد أن تقسم على اختيار الرجل الذي تراه أفضل المرشحين وأكثرهم نفعا، بطريق الاقتراع السري، حاكما، على أن يكون أحد أربعة يرشحهم الشعب، بحيث يختار واحد من كل الأحياء الأربعة للمدينة ليرشح للمجلس)، ويبدو أن المشاركة للمواطنين في المسائل السياسيّة تجري سنويا، ولتحقيق العدالة بين سائر المواطنين تختار كل ثلاثين أسرة ممثلا عنها، حتى يساهم الجميع في القرار السياسي عبر الانتخاب والاختيار القائم على العدالة والأخلاقية، وآلية الانتخاب أو التمثيل تأخذ ترتيبات معقدة حتى تصل إلى الحاكم الأول، والمعيار الذي يقوم عليه اختيار الممثلين هو الفضيلة (بعد أن تقسم على اختيار الرجل الذي تراه أفضل المرشحين وأكثرهم نفعا)، فالأخلاق والالتزام بالقيم هو عنوان الممارسة السياسيّة، والبت في قضايا عامة دون علم الممثلين جريمة لا تغتفر، (أمّا مناقشة الأمور المتصلة بالصالح العام خارج مجلس الشعب فتعدّ جريمة من الدرجة الأولى)، فالسلطة والسيادة ليست ملكا للحاكم بل ملكا للشعب، وهي ما سيصطلح عليه لاحقا جان جاك روسو الإرادة العامة التي هي روح المواطنة. الفضاء العام للمواطنين هو فضاء أخلاقي، وطبيعة العلاقات الاجتماعية بينهم مؤسسة على البنية التركيبية لمجتمعهم، فالسلوك الأخلاقي المميز لهم طبيعي وتلقائي، وهذا يؤكده مور بقوله: (فإذا نشأ خلاف بين فردين من أفراد الشعب، وقلّما يحدث ذلك، فإنهم يسوّونه بدون إبطاء)، فالتصادم نادر الحدوث. نلاحظ أن طبيعة السلطة في الأسرة اليوتوبية هي أبوية، فالقرار بيد الآباء الأكبر سنًّا، فاحتفاظ الأب بسلطة القرار والتسيير يحافظ على بقاء وتماسك الأسرة، أما انقسام السلطة في البيت هو ضعف السيادة، يقول مور: (لما كانت المدينة تتكون من أسر، فالأسرة تتكون من أولئك الذين تربط بينهم رابطة الدم، فالفتيات، عندما تكتمل أنوثتهن ويتزوجن، يذهبن إلى بيوت أزواجهن، أما الأبناء الذكور، ثم الأحفاد، فيبقون في الأسرة ويخضعون لأكبر الآباء سنا، إلا إذا شاخ وخرف، وفي هذه الحالة يخلفه من يليه سنا). الخضوع لسلطة الأب الأكبر لا تعود إلى عامل الزمن بل لعامل الحكمة والخبرة في التسيير والإدارة، والاستثناء الذي يورده توماس مور يؤكّد حضور الحكمة والأخلاق في السلطة الاجتماعية، وغيابها يستلزم الإقالة على مستوى السلطة، والتغيير على مستوى الحياة الأسرية. المساواة في المجتمع اليوتوبي سمة عامة وبديهية لا تحتاج إلى برهان، بل العكس هو الذي يحتاج الى البرهنة، فهم يجهلون اللامساواة، والخلاف والبطالة الناتج عن الملكية الفردية والحياة من أجل الذات، والتي تجعل من الغير أداة يصل بها إلى تحقيق السعادة الفردية، فقيم الأنانية هي عنوان المجتمعات غير اليوتوبية بشكل عام، وأسلوب المقابلة هو نوع من الخطاب المشفّر الذي يكتب به توماس مور؛ وهذه الدلالة واضحة في كتاب (يوتوبيا) والنص التالي يتعامل فيه مور مع طبقة النبلاء بأسلوب نقدي لاذع يقول فيه: مخاطبا الكاردينال (إن أغنامكم التي اعتادت أن تكون أليفة معتدلة الطعام.. أصبحت شرهة مفترسة، تلتهم الرجال أنفسهم وتدمر حقولا ومنازل ومدنا بأكملها وتلتهم سكانها، ففي جميع تلك الأجزاء من المملكة التي تنتج أرفع أنواع الصوف، وأغلاها، لا يكتفي نبلاؤكم بالمداخيل والأرباح السنوية، التي كانت تدرها عليهم أراضي آبائهم وأجدادهم.. فلا يتركون أرضا للزراعة، ويقيمون الأسوار حول كل شبر من الأرض ويحولونها إلى مراعٍ... ولا يتركون مكانا سوى الكنيسة التي يحولونها إلى حظيرة للأغنام). النبلاء أو الأشراف طبقة اجتماعية انتهازية، وملكيتها في الأصل غير شرعية، كوّنها هؤلاء بدماء العمال والفقراء، فبعد أن شبّههم مور في أول العبارة بأنهم أغنام الملك، أصبحوا فيما بعد يحولون المواطنين الآخرين إلى أغنام، فالكنيسة هي الملجأ الوحيد الذي يتبقى للفقراء والمساكين فالقضاء على الملكية الفردية هو القاعدة نحو المساواة وبالتالي نحو العدالة وعلى حد تعبير جان توشار المساواة الإيتوبية، تجعل الجميع يعمل من أجل الجميع، ولا يمتلك أحد شيئا خاصا به، إن الجماعة تؤمّن للكل الرخاء، فاليد العاملة متوفرة والإنتاج الزراعي والحرفي منظم جيدا والراحة، يمكن استخدامها لتنوير العقل. ومن خصوصيات هذه المساواة، الانضباط، حيث ساعات العمل محددة والطعام أيضا مشترك، وفيها يخضع كل مواطن بدون إكراه لأن المجموعة تقدم له أقصى الرفاهية، يقول توشار: (إن القوانين، بغياب النزاعات الناشئة عن الملكية الخاصة، هي بسيطة وقليلة العدد، ودور الدولة يقتصر تقريبا، فقط على إدارة الأمور وعلى توجيه الاقتصاد). المساواة بين المواطنين قيمة من قيم المواطنة، فالمواطنون سواء أمام القانون لا فضل لأحد على أحد، فكل القيم الأخلاقية والجميلة التي تتضمنها المواطنة، تجد جذورها وبذورها في كتاب اليوتوبيا. من القيم الأخلاقية التي تميِّز مبدأ المواطنة في المجتمع المدني الحديث والمعاصر، قيمة التسامح والتعايش بين الأديان والذي (يشير إلى الامتناع عن التدخل في أعمال الأشخاص الآخرين وفي آرائهم، بينما تبدو لنا هذه الآراء أو الأعمال كريهة أو منفرة أو تستحق الشجب أخلاقيا). فالتسامح أهم القيم التي حظيت بالاهتمام الواسع في الدراسات الفكرية، وعلى صعيد المراكز الإستراتيجية والدراسات المستقبلية، لأن حضور العنف والإرهاب، يستلزم غياب التسامح والتعايش، وكتاب يوتوبيا، يسعى إلى تكريس المنظومة الأخلاقية والسعي نحو تحقيقها في الواقع، فتعدد العقائد في المجتمع اليوتوبي مسألة عادية ومألوفة، وغير هذا هو غير المألوف، وما يميز النسبة العظمى من أفراد المجتمع هي التوحيد، يقول مور: (.. فإن جميع ما عداهم من اليوتوبيين، بالرغم من اختلاف معتقداتهم، يتفقون معهم في هذا الشأن، وهو الإيمان بوجود كائن أعلى واحد، خالق الكون كله، ومدبره بحكمته، ويدعونه جميعا بلغة بلادهم (ميثرا) إلا أن نظرتهم تختلف من شخص لآخر..)، فالاختلاف في العقائد لا يطال الأصول العقيدية بل الفروع فقط، فالنظرة هي أصل التفاوت في العقيدة، فكل معتقد يصبح صحيحا، ويجب احترامه، ولا يجوز التطاول على معتقدات الغير حتى ولو كانت بالنسبة إلينا مثيرة للرفض أو المقت، فاحترام المواطنين لا يقوم فقط على تقدير الشخص كفرد، بل التقدير يؤسس على الكرامة التي تشمل كل ما يرتبط بها من أفكار ورؤى، وملكية.. ويشير توماس مور إلى أن التسامح بين الأديان لا ينبغي أن يكون متعلقا بالممارسة الفردية أو الجماعية، فالبناء المؤسساتي ضروري لحماية معتقدات المواطنين، والنصّ الذي يؤكّد هذه الالتفاتة أو الحكمة المورية (نسبة إلى مور) هو: (فقد بلغ سمع الملك يوتوبوس، قبل وصوله إلى يوتوبيا، أن السكان لا يكفّون عن الخصام فيما بينهم... لذا قرّر منذ البداية، بعد أن أحرز النصر، أن يكفل القانون لكل شخص حرية اعتناق الدين الذي يريده، ويسمح له بدعوة الآخرين إلى دينه، بشرط أن يؤيد الدعوة بالمنطق وبهدوء ووداعة، وألا يستخدم العنف ويمنع عن السب، فإذا ما عبّر عن آرائه بعنف وحماس متطرف، عوقب بالنفي أو بأن يصبح عبدا)، وبيان النص صريح في دلالة التسامح، والدعوة إلى ضبط القيمة في شكل قاعدة قانونية مثل قيمة العدالة، فلا وجود للعدل في غياب القانون أو السلطة. تربية وتكوين المواطن في جزيرة اليوتوبيا مسألة ضرورية في بناء المجتمع عموما، فالتنشئة الأخلاقية ضرورية، إضافة إلى التكوين المعرفي والسلوكي، ومهمة التربية تندرج ضمن السلك الكهنوتي والنص التالي يكشف عن هذه المبادئ: (والكهنة هم المكلفون بتعليم الأطفال، ويعتبرون الاهتمام بأخلاقهم وفضائلهم لا يقل أهمية عن الاهتمام بتقدمهم العلمي، ويعملون منذ البداية على ملء أذهان الأطفال، وما زالوا يتّسمون بالرقة والمرونة، بالأفكار الصالحة والنافعة أيضا للحفاظ على الدولة، فإذا ما اتخذ هذه الأفكار لها جذورا في أذهان الأطفال، بقيت معهم طوال حياتهم وعادت بالنفع العظيم في المحافظة على حالة الدولة، فالدولة لا تنهار إلا نتيجة للرذائل التي تنبع من الأفكار الخاطئة)، المهمة التربوية إذن من مهام رجال الدين، وعلى رأس الاهتمامات التربوية هي التوعية الأخلاقية والتربية على الفضيلة: (فمعيار الشرف في المجتمع ما يؤديه الفرد من خدمات لهذا المجتمع، ولا يستند على نصيبه من الثراء أو حظه من الحسب والقوة، فالعمل الصالح سبيل إدراك السعادة، والهناء..) من الأوليات في فلسفة التربية العمل على بناء القاعدة المعرفية التي تؤهّله للمواطنة الصالحة، وطريقة التواصل بين المعلمين والمتعلمين هي الحب والرقة، وتجنب القسوة والعنف في العمل التربوي. جامعة سعيدة