يشير المحللون ما يحدث اليوم في مصر إلى السيناريو الجزائري، وذلك بعد فوز الإسلاميين وتدخل العسكر بدفع وتحالف مع القوى العلمانية وشبه العلمانية ومجموعات المصالح المرتبطة بحقبة ما قبل حركة التغيير، ويبدو في الظاهر أن ثمة تشابه كبير بين اللحظتين، اللحظة الجزائرية عشية انتصار الإسلاميين بالانتخابات التشريعية عام 1991، ولحظة خروج معارضي حكم مرسي المتهم وجماعة الإخوان المسلمين بأخونة الدولة والنظام المصريين وبالنزوع نحو سياسة الاستحواذ والاحتكار والاقصاء، إلا أن هذا التشابه، قد يكون في الظاهر والمظهر العام، إلا أن الاختلاف بين اللحظتين يبقى كبيرا وكلا اللحظتين تحتفظان بتميزهما وفرادتهما.. فما يحدث اليوم بالنسبة للحالة المصرية يعتبر أكثر أهمية وحساسية وذلك بالإشارة إلى خصوصية السياق العام الحالي وشدة خطورته وحساسيته، فشرعية منبثقة برغم إنحرافاته وأخطائه من إرادة شعبية عريضة جاءت مباشرة بعد الإطاحة بنظام حسني مبارك، وهذه الشرعية قد استغرقت سنة واحدة فقط من عهدة حكمه، وكان الاعتراض من خصومه الذين لعبوا دور المحرض، لكن في الوقت ذاته سعوا إلى الاستفادة من كل الأخطاء التي ارتكبها الإخوان في ممارسة الحكم وفي مجال توزيع الثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية، وهذا لا يعني أن من سيخلفون مرسي قد يكونون في أحسن حال منه، لأن الإرث الذي خلفته حقبة مبارك الطويلة بائس ومعقد وهش.. وبالرغم من أن مرسي والإخوان قد كانوا مستقيمين من حيث الوفاء للشروط الأمريكية والإسرائيلية والأوروبية إلا أنهم لم يتمكنوا من الاحتفاظ بالسلطة، عندما اختار العسكر (المقال كتب قبل الإعلان عن بيان المؤسسة العسكرية) أن يلعبوا لغير صالح مؤسسة الرئاسة باسم الانحياز للشعب؟! لكن من هو الشعب ؟! هل هو تلك الجموع التي خرجت إلى الشوارع ونادت برحيل مرسي الرئيس المنتخب؟! وماذا عن القوى الأخرى التي ربما لن تحظى باهتمام وسائل الإعلام بنفس القدر الذي حظيت به الجموع المعارضة للرئيس؟! وإذا ما تحقق (وهذا ما يبدو واضحا) إبعاد مرسي من على هرم السلطة عن طريق تدخل العسكر باسم الشعب والجموع الغاضبة هل يعني ذلك، أن القوى المدنية والقوى السياسية بأطيافها المختلفة والمتنوعة والمعارضة لحكم الإسلاميين قد أصبحت هي القوى الفاعلة، أم أنها فقط كانت الذريعة لعودة العسكر إلى الحكم الذي لم يفارقوه يوما، وذلك منذ إطاحة جمال عبد الناصر ورفاقه من الضباط الأحرار بالملك فاروق وصولا إلى عهد مبارك الذي انتهى تلك النهاية التراجيكوميدية بعد أن اعتقد أنه تحول فعلا إلى فرعون مصر الجديد؟! ثم ألا يجد من تصفهم وسائل الإعلام بالثوار والمتمردين أنهم من جديد كانوا أصحاب سذاجة سياسية مجددا، وذلك بعد أن كانوا سببا في وصول الإسلاميين إلى الحكم بعد منافستهم العتيدة مع شفيق، وجدوا أنفسهم يلعبون لصالح العسكر والسياسة المخضرمين الذين كانوا ذات يوم شركاء في حكم أو نظام مبارك والسادات؟! ثم هل فعلا سيقف العسكر إلى جانب الحرية والديمقراطية وهم الذين كانوا حماة عقب التسلط في فترات لكل من جمال عبد الناصر والسادات ومبارك؟! ثم هل ستتحقق العدالة الاجتماعية التي تطالب بها الفئات العريضة من الشعب المصري في ظل الحكم الفعلي للعسكر بواجهة مدنية وهم الذين تورطوا لوقت طويل في صفقات الفساد المتجذر في المجتمع المصري؟! هل فعلا استنفذت كل فرص الحوار والتوافق والتسوية من أجل حل سياسي بين القوى المتعارضة لتدور مصر دورتها الكبيرة وتعود إلى نقطة الصفر، وهي نقطة أن يكون المنقذ الأخير، هو العسكر؟! وذلك مثلما حدث عندما اشتدت الصراعات والنزاعات بين الأحزاب والقوى السياسية في عهد فاروق، وكان الحل الذي بدا آنذاك مثاليا وتاريخيا، هو حل تدخل العسكر عن طريق الانقلاب العسكري، وكانت بالتالي النتائج سيئة ومخيبة للآمال.. وكان التطرف الإسلامي هو أحد نتائج حكم العسكر، وذلك ليس في مصر وحسب، بل وفي معظم البلاد العربية في تلك الدول أو الأنظمة التي وصفت بالقومية والوطنية التقدمية.. إذا ما تحقق حسم العسكر الذي استغل هبّة الشارع المناوئ لمرسي، فإننا أمام سيناريو خطير أو مشهد خطير يتمثل في بلد واحد، وشعبين.. ولكل شعب مشروعه الاجتماعي والسياسي المضاد لمشروع الشعب الآخر.. وذلك يعني أن مصر أصبحت في قلب بروفة الحرب الأهلية التي قد تبدأ بأشكال متقطعة ومتناثرة لتغدو أكثر قسوة ورعبا وعبثية قد تعصف بكل اللاعبين الحاليين، ليحل محلهم لاعبون جدد.. اللاعبون الذين تنتجهم الحرب وضغائن الثأر وحسابات الحقبة الغامضة.. وعندئذ سترتسم ملامح العصر العربي الجديد، عصر الحروب الأهلية المعقدة الذي بدأ بالجزائر مرورا بالعراق، واليوم بسوريا ليحط رحاله بمصر.. وهنا إذا ما حدث ذلك، سيجد العرب أنفسهم بمختلف مشاربهم ومصالحهم وانتماءاتهم كما أشرنا سابقا إلى ذلك يطأون بأقدامهم، حقبة النهاية، وقد أطلقت عليها، حقبة نهاية العرب (طبعا، وهذا ما لا نتمناه).. إن الفصائل المتشددة من الإخوان ستجد الآن ضالتها التي طالما تلقت بسبب الدعوة إليها الكثير من اللوم والعتاب وهي (الجهاد) من وجهة نظرها، والإرهاب من وجهة مخالفيها.. لكن حتى الفصائل الناعمة التي راهنت على الخطاب والممارسة السلميين للعملية السياسية قد تجد نفسها في لحظة قنوطها الجديد أقرب من حيث الاستجابة إلى الفصائل المتشددة.. وإذا ما شعر الإسلاميون أنهم بالفعل أخرجوا من اللعبة السياسية فإنهم هذه المرة قد يصلون إلى نتيجة مفادها أنه ليس عندهم ما يخسرونه.. لكن أي شكل، وأي أسلوب قد يتخذه الاعتراض الإسلامي الراديكالي الجديد؟! هذا ما قد نتعرض له في الأيام القادمة القريبة على ضوء ما ستفرزه الساحة المصرية خاصة وأننا أمام ثلاث حقائق، الأولى.. إما أننا نعيش لحظة نهاية الإسلام السياسي الذي بدأ من مصر، وسيلقى حتفه على أرض مصر، وإما أمام نهاية أسطورة العسكر كمخلصين للأمة في اللحظة الحرجة والذي بدأ من مصر، وقد تكشف هذه الأسطورة عن خرافتها على أرض مصر، وإما أننا لابد من المرور عبر نفق مظلم ولحظة قاسية لميلاد وعي شعبي مدني وديمقراطي حقيقي هاضم للتوافق والتعايش..