حاول أخ لم أتشرف بعد بمعرفته ولا أعرف لأي بلد ينتمي، أن يقوم بتشريح حوار لي نشرته الصحيفة في نهاية الشهر الماضي، وكنت استعرضت فيه الأحداث التي تعرفها مصر، وأسعدني ذلك لأنني أنادي دائما بالحوار بين المثقفين، بشرط أن يكونوا مثقفين، لا يتسترون وراء الثقافة للدعاية الانتخابية الشخصية أو ما شابهها. لكنني أعتقد أن الكاتب فاته أن التشريح يتطلب أمانة مطلقة وحيادية كاملة ليبتعد التقرير عن كل تزوير أو اختلاق. وجاء التشريح تحت عنوان مثير ه- محيي الدين عميمور يفتي بدعم الإخوان المسلمين -وفوجئت بأنه كان يريدني أن أنطلق من منطلقات يراها هو، ويقتنع بها هو، ناصحا إياي بأنه كان علي أن أسترشد بكذا، أو أن أعتبر كذا كمرجعية لما أقوله، بل وبدا وكأنه يستعدي عليّ القراء وهو يطالبني بالاسترشاد بتجربة المصالحة الوطنية في الجزائر، وكأنني في حاجة لمن يذكرني بها، وكل هذا لمجرد أن يبرز تناقضي مع تجربة جزائرية، أقحمَها في الحوار بدون داع أو مبرر، إلا استجداء عواطف القارئ الجزائري على ما يبدو، وهكذا نسب إليّ في العنوان صفة لم أدعيها، حيث أنني بعيد كل البعد عن -مهنة -الإفتاء، وأنا أكتفي بتحليل الأحداث على ضوء الوقائع والمعطيات، ولا أنتحل دفاعا عن زيد أو أصعّد هجوما على عمرو. ومن هنا كان رفضي لتصرفات بعض فئات المعارضة المصرية، التي برعت في استهداف الأشخاص لا المواقف، وأصبحت تسير على ضوء مبدأ ...نلعب وإلا نفسّد. ولقد كان من حق الكاتب أن يمجد التجربة الناصرية، التي أصبحت أحيانا تجارة من لا بضاعة له ولا رأسمال عنده، لكن المعروف أنني ممن يعرفون التجربة الناصرية حق المعرفة، سلبيات وإيجابيات. وكان من حقه أن يحمل الإخوان المسلمين كل الآثام، فهذا ليس شأني، ولعلي أضيف، تفنيدا لما ادعاه ، أنني ممن تناولوا بالنقد تجربة الإخوان المسلمين، ولم أخف تناقضي معها منذ الخمسينيات، لكنني سرت دائما على هدى قوله تعالى : ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، ومن هنا جاء تفهمي لمسيرة الرئيس مرسي، بل وإشفاقي عليه من ثقل الأمانة التي يحملها، ولعله كان يذكر نفسه دائما بأنه كان ظلوما جهولا. وكما حاولت المعارضة في 2013 استنساخ انتفاضة يناير 2011 حاول البعض أن يجعل من حمدين صباحي استنساخا لعبد الناصر، وهي إساءة للزعيم المصري الراحل، تذكرني ببيت شعر يقارن بين السيف والعصا. وسأكتفي بنقاط سريعة أستعرض فيها بعض ما أرى أهميته، ردّا على مقال بدا أقرب إلى بيان انتخابي، ذكرني بخطاب يلقيه سفيرٌ في بلد الاعتماد لمجرد أن يرضى عنه في بلاده من بعثوا به. والذي يتفق عليه كل المراقبين المحايدين أن زطلقاءس نظام الرئيس مبارك فرضوا وجودهم مؤخرا على تظاهرات الشارع المصري، واخترقوا جموع المتظاهرين السلمية للانتقام من الشعب المصري الذي أسقط مبارك، وهو ما قلته بوضوح، وبالتالي فمن التزوير، لكيلا أستعمل صفة أكثر حدّة، أن ينسب إليّ الكاتب قولا من نوع أن - معارضي الرئيس مبارك ينفذون مخططا للانتقام من الشارع المصري -ويتساءل : هل الثمانية عشر مليونا من المصريين -أصوات الجولة الأولى لبقية المرشحين- ينفذون مخططا للانتقام من الشعب المصري؟ وأنا لم أقل ذلك، بل حصرت إرادة الانتقام في مرتزقة النظام السابق، وهو واضح للعيان. ولقد بدأ التشويش على الرئيس المنتخب، وبدون احترام لهيبة الدولة، منذ تقدمه على منافسه في الانتخابات الرئاسية، لكن الرجل أخذ يعمل بهدوء للعبور بمصر إلى بر الأمان، ومن المؤكد أنه ارتكب الكثير من الأخطاء، وربما كان من أهمها تهميشه لكثير من معارضيه، خوفا من أن يجد حصان طروادة داخل حمام منزله. وجن جنون كل من لم يجدوا مقعدا جانبيا في جهاز الحكم، وتم استنفار فلول النظام السابق، الذين أعطوا الجنرال أحمد شفيق 42 في المائة من أصوات الناخبين في الانتخابات الرئاسية، وانضم لهم مرتزقة (آسفين يا ريس)، وجماعات من البلطجية مدفوعي الأجر والشباب العاطل، مدعومين بستة قنوات فضائية وعشرات الصحفيين الذين عرفنا أمثالهم في أزمة الكرة مع مصر، وتحول ميدان التحرير من رمز للثورة إلى ساحة للتحرش الجنسي، وعرفت مصر جماعات الشباب الملثمة التي رشقت الشرطة بالحجارة وزجاجات المولوتوف، ولم تستنكر المعارضة هذه الجرائم بل حاولت تبريرها بأنها تعبير عن غضب الشباب من عدم استجابة السلطة للشروط التي وضعتها المعارضة. ويدعي الكاتب، ليؤكد تحيزي، أن -انتقاداتي للإخوان تبدو خجولة -وأعترف للقارئ، وهو الحكم، أنني اكتفيت بالقول في حواري، بكل أدب، أن : الإخوان تعرضوا لما تعرضوا له في عهد عبد الناصر نتيجة لبعض تجاوزاتهم وأخطائهم، وأن تصرفاتهم تميزت، منذ حصولهم على الأغلبية في مجلس النواب، بالكثير من الغطرسة والحماقة التي عرفنا مثلها يوما، وأدنتُ، حرفيا، الدعوة التي ارتفعت من بعض النكرات المتأسلمة لقتل المعارضين لنظام الرئيس مرسي، وكذلك الدعوات الحمقاء لهدم تمثال أبو الهول، ووضع أقنعة على وجوه تماثيل الحضارة الفرعونية، التي لم يمسسها، كما أكدت ذلك في حواري، عمرو بن العاص عند فتح مصر، كما نددت في حواري بعشرات التصرفات التي -تتسم بالغباء، وتعتمد الديماغوجية التي جعلت صورة الإعلام الإسلامي هي التهريج الذي تقوم به قنوات تتمسح في الدعوة الإسلامية، وتمارس الإعلام بشكل مقرف واستفزازي.- لكن الكاتب، وبنفس الأسلوب الذي طبع حديثه، كان يريد مني أن أكون صوتا لجماعته، بتكرار الادعاءات بعمالة الإخوان لأمريكا وتواطئهم مع إسرائيل، وبيع الرئيس بلاده لحركة حماس، وعزمه التنازل عن قناة السويس، وكلها من الأقاويل التي ترددها بعض عناصر المعارضة لمجرد الإساءة الحمقاء لنظام الرئيس مرسي، الذي اعترفتُ بعجزه عن استقطاب قيادات إعلامية فاعلة، لكنني تفهمت، كأي محلل سياسي محايد، تعقيد الوضعية التي تولى فيها السلطة، وحجم التحديات التي يواجهها، ولم أقع في الفخ الذي نصبته المعارضة، بالادعاء أن مرسي هو مجرد دمية في يد المرشد العام للإخوان المسلمين، في حين قلت حرفيا أن الرئيس حاول التخلص من ضغط الجماعة التي ينتمي لها، وأعترف هنا أن هذا القول، الذي يؤكد قوة شخصية مرسي، يزعج أبواق المعارضة، التي تحولت من هتاف -يسقط حكم العسكر -إلى هتاف -يسقط حكم المرشد -لترفع الآن شعار -أهلا حكم العسكر- وهو ما يؤكده موقف جورج إسحق بالأمس. والواقع أنني حمدت الله على أن الكاتب لم يستنجد بالأمن للقبض على أخيكم، بصفتي إخوانجيا شريرا، يقوم بالدعاية للجبهة الإسلامية المحظورة، لكن تزويره تجاوز حدود المحتمل والمعقول. وعلى وجه المثال، كنت كررت بأن الشرعية الثورية ستظل قاعدة الشرعية الدستورية، لكنه، وهو يورد ما قلته، أضاف بين فاصلتين شرحا يفسر ما قلته قائلا -أي شرعية الإخوان- وهو ما لم يرد على لساني ولا جال في خاطري، لأنني أرى وأكرر بأن شرعية الثورة هي كل، يشمل الإخوان وغير الإخوان. ويندفع الكاتب في محاضرة مطولة يعطيني بها درسا عن أخطاء الرئيس السادات، وأنا صاحب المواقف المعروفة والمنشورة ضد سياسة الرئيس المصري إثر زيارته المشؤومة للقدس، ومن هنا ظننت، وبعض الظن فقط هو الإثم، أن أخانا يوجه رسالته إلى متلقين في القاهرة لا إلى قراء في الجزائر. ويتناول أخونا في دفاعه عن جبهة الإنقاذ قضية صياغة الدستور المصري مركزا على مغالطة لفظية وقع فيها كثير من العوام، وهي اشتراط التوافق الوطني، الذي لا شك أنه ضرورة وطنية بشرط ألا تكون على حساب الديموقراطية، ذلك أن إجماع الناس على أمر سياسي معين ليس دائما في حكم الممكن، وبالتالي فلا بد أن تكون هناك أكثرية وأقلية، وأغنية التوافق ترددها جماعة الإنقاذ لكي تفرض الأقلية رأيها على الأغلبية، وهي أقلية تنادي بتشكيل حكومة ائتلافية أو وطنية، في حين أن هذه لا يمكن أن تكون إلا نتيجة لمجلس وطني منتخب، تتعدد فيه الاتجاهات الحزبية بما يعطيها الحق في أن تكون ممثلة في الحكومة. غير أن فشل الإنقاذ في إقناع جموع المصريين بصواب طرحها، وتكاثر التناقضات تحت قبة لم يجمعها إلا كره الرئيس مرسي، دفعها إلى استنفار الشارع، والذي حدث أنها عجزت على التحكم في حجم وحدود حركته الاحتجاجية، حيث أن أي جماعة سياسية تستطيع التحكم في مناضليها، لكنها تعجز عن التحكم في تظاهرات الشارع التي يستثيرها جنون الحشود (psychose de la masses) وتخترقها عناصر النظام السابق. وكان واضحا أن الإنقاذ تحس بأنها عاجزة عن ضمان أقلية فاعلة في المجلس القادم، ناهيك عن انتزاع أغلبية مؤثرة، وهكذا حاولت تجييش الشارع للالتفاف حول الإرادة الحقيقية التي تعبر عنها صناديق الاقتراع، ومن هنا تتضح خلفية الادعاءات التي يرددها بعض أقطاب الإنقاذ من أن الديموقراطية ليست هي صناديق الاقتراع، وكأن هناك طريقا آخرا لتحقيق الديموقراطية خارج الصندوق. وتبدو جلية النظرة الاستعلائية للجماهير، فالكاتب يسير في نفس التيار الذي يضم من طالبوا بحرمان الأميين والبسطاء من حق التصويت، ويجزم بأن بنية الإخوان هي الأكثر هشاشة، بل هي الأكثر هجانة عن غيرها، ويقول حرفيا بأن -أغلبية المنتمين إليها من الأميين، بل وأكثريتهم من العاطلين عن العمل، وكأنهم، بثقافتهم وبوضعيتهم التربوية المتدنية ? نعم . ..المتدنية- والموروثة، يوجهون تنظيم للإخوان، وبالتالي مسار قيادته- ولأن إدانة الإخوان المسلمين هي هدف الكاتب فهو لا يتورع عن -التخلاط- ويتساءل غاضبا: هل الله ورسوله وأنبياؤه يريدون سحل المنافسين لحكم الدكتور محمد مرسي، ولا يعطينا الكاتب المحترم اسما قياديا واحدا من جماعة الإخوان طالب بهذا، وهو يوحي ضمنيا بأن مرسي أو الإخوان يمنعون المسلمين من إلقاء تهنئة العيد على المسيحيين، وهي دعوات حمقاء لا تلزم إلا قائليها، ولم تصدر عن الرئيس المصري أو عن كبار معاونيه. من هنا أرى أن شعبية مرسي تدعمت بفضل ادعاءات خصومه وتهجماتهم الظالمة، حيث بدأ الشارع يحس بحجم التجني في ادعاءات المعارضة، التي تهين هرما وطنيا بقيمة السفير إبراهيم يسري، سفير مصر الأسبق في الجزائر وبطل معركة إيقاف تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل، لمجرد أن السفير رفض الانسياق وراء ادعاءات جبهة الإنقاذ، وفضل النشاط في إطار جبهة الضمير. ولأنني أحترم التجربة الناصرية كنت أريد ممن يتحدث باسم الناصرية أن يحترم من يقرؤون مرافعته الطويلة، التي استعرض فيها، لسبب يعرفه هو، إنجازات المرحلة الناصرية التي نعرفها جيدا، ولسنا في حاجة لمن يذكرنا بها. وكان عليه، وهو يقول بأن مصر والحركة السياسية الفاعلة اليوم قد أعادت الاعتبار للتراث الناصري، مشيرا، لتأكيد ذلك، إلى رفع صور عبد الناصر في التظاهرات، محاولا بذلك أن يقدمني كمعاد للفكر القومي وللتيار الناصري، في حين قلتُ أنا حرفيا بأن الشارع المصري ما زال يحن لعهد عبد الناصر، برغم أنه، رحمه الله، كان يشكو من مقالاتي في مجلة الجيش لكل من كان يستقبلهم من الجزائريين، وهو ما يعرفه كثيرون. والحقيقة التي تصفع اليوم كثيرين ممن يتمسحون بذكرى عبد الناصر هي أنهم، وعلى طول العقود الماضية، لم يستطيعوا الارتفاع إلى مستواه، وكانوا دائما أقل بكثير من حجمه، وأصغر من أن يرفعوا لواءه، ولم ينجحوا، تنظيميا، إلا في الاستفادة من بعض الفتات، حتى أن بعض خصومهم يردد بأن علاقة بعض الناصريين بجمال عبد الناصر هي كعلاقة المتأسلمين بالإسلام. وكان محمد حسنين هيكل على ألف حق عندما رفض المتاجرة بالناصرية، وندد بمن يريدون، حسب تعبيره، أن يكونوا كهنة في معبد يحمل اسم عبد الناصر. ولقد سبق أن قلت بأن حمدين صباحي، وهو مناضل فاضل وبرلماني عريق يشهد مراسل وكالة أنباء الشرق الأوسط في الجزائر أنني كنت أنتظر أن يجلس هو في قصر الاتحادية، قلت أنه أخطأ عندما لم يستطع هضم فشله في الانتخابات الرئاسية، ولم يتعلم من جيسكار ديستان ثم من سيغولين رويال وجون كيري، حيث كان عليه أن ينسى هزيمته، وألا يخضع لضغوط أنصاره، فيتكامل مع مرسي لمواجهة فلول النظام البائد ومؤامراتها وأموالها، وليمكن تحقيق المصالحة التاريخية بين الإسلاميين واليسار، وفي مقدمته الناصريون. ولعلي أجدد القول للناصريين والإسلاميين في وقت واحد بأن عليهم أن يمارسوا النقد الذاتي، وأن يدركوا بأن الصراع بين التيار القومي والتيار الديني هو سر بلاء هذه الأمة الضائعة، وأمامنا المثل التركي الناجح الذي بهر العالم كله، بفضل اعتماده تكامل القومية مع الدين.