(وصل..) قلت مبنى مصالح الضرائب إلخ، إلخ، ما بين ثانوية عبد القادر عزة ومقر ثكنة الدرك الوطني.. على الشمال الطريق المؤدي إلى حارة مونبليزير حيث مدرسة الفتح التي أسسها في الأربعينيات أتباع جمعية العلماء المسلمين، وكانت بمثابة القلعة الغريبة في المدينة لنشر ثقافة الإصلاحيين... فمدينتنا كانت دون جدال معقلا لا يضاهى لحركة المرابطين وتيار الطرقية والصوفية المجيد.. نقّل نظرك حيث شئت في أنحاء المدينة، القباب في كل مكان، الأضرحة في كل مكان، والزوايا مبثوثة ومنتشرة في كل نواحي المدينة... سيدي عبد القادر في الڤرابة وڤومبيطا، سيدي محمد بن علي، وسيدي المختار وسيدي الزواوي وسيدي عمر وسيدي معاشو ضواحي بلدة بوني وبورانس.. قرب منزلنا في ڤومبيطا، في شارع كريدر الضيق، الملتوي كصل، يوجد مبنى ضريح صغير لسيدي لخضر.. من هو سيدي لخضر؟! لا أحد يعرف، لا تاريخ مكتوب، فقط حكايات، حكايات، حكايات وروايات مليئة بالظلال والروائح القديمة.. كنت صغيرا، وكانت أمي المهدية تعطيني شمعة عندما يسقط الليل، واتجه رفقة أخي مصطفى الذي يصغرني بعامين إلى مبنى ضريح سيدي لخضر الصغير ونشعل في تلك المغارة شمعتنا، ونترك بعض الصرف من النقود وعندما نعود ومصطفى إلى البيت نكون مسكونين برائحة مبنى الضريح حيث ينام طيف الولي المجهول الصالح سيدي لخضر الصغير، العطرة والزكية.. في الاتجاه المعاكس للطريق المؤدي لمونبليزير سوق القبة السماوية المنبطح لدى مدخل المدينة العتيقة، حيث الطحطاحة، وهي البلاصة الواسعة المفتوحة المحاطة بعدد لا يحصى من المقاهي التي منذ أن تفتح في الصباح الباكر وهي عامرة بالأصوات والوجوه والروائح.. مقهى الصومام ومقهى الهلال ومقهى ولد الزين ومقهى الشيوخ، ثم تلك الحدورة التي لا يمكن أن تؤدي بك إلا إلى مكانين شهيرين.. مكان المرشي الصغير، وهو سوق الخضر والسمك غير البعيد عن سينما لا لومبرا حيث كانت تعرض الأفلام الهندية والمصرية.. على الجدران صور ضخمة لأم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، وفريد الأطرش، ومحمد عبد الوهاب والراقصة الشهيرة كاريوكا واسماعيل ياسين.. ومكان آخر، وهو مكان محفوف باللذة والرغبة والفضول والمخاطر.. بل كل المخاطر.. فيلاج اللفت، حيث البورديل الكبير التابع للدولة، والبيوت الخاصة غير الشرعية التي يتناول المرتادون إليها اللذة مع بائعات الهوى... يا إلهي هل تريد هذه المدينة اللاهبة، غير الآبهة إلا بنفسها أن تسمعني، أن تقاسمني فرحتي..؟! كانت المدينة في تلك اللحظة التي سجلتها مرارا في تاريخي الشخصي كلها لي.. أجل، كنت أنا المالك الوحيد للمدينة التي سيطر عليها في زمن من الأزمنة بنو هلال، وجيوب بن عامر وحميان، والسبانيول، واللفيف الأوروبي الذي اكتسح مدينتي من كل مكان.. وأقاموا يومها قلعتهم العتيدة في قلب المدينة، وفصلوا حينذاك بين عالمين، عالم العرب والزنوج واليهود وعالم الوافدين الجدد إلى سيدي بلعباس من مالط، وسبانيول وفرنسيين وألمان وإيطاليين... مدينة العرب ومدينة الآخرين، أولئك الغزاة، القادمون من وراء البحار... لم تعد المدينة ملك الذين حملوا السلاح، وسموا بالمجاهدين عند البعض، وبالفلاڤة عند البعض الآخر.. بل أضحت ملكي أنا.. ملكي بدون منازع، ما أسعدني من إنسان على وجه هذه البسيطة... هل كان ذلك الهمس، مجرد هذيان كنت أردده على مسمعي بينما لم يكن الناس عابئين... بقيت أسير، وأذرع الخطى كالمجنون، مررت بالجسر المطل على الوادي الكبير الذي كان يركض دون أن يلوي علي شيئا... السيارات تمر من هنا، وهناك وتمضي إلى كل الاتجاهات وأنا إلى أين أمضي، وأروي كل القصة التي لازالت تتنفس في أعماقي، وترقص كالبنت المجنونة في سراديبي، وتلمع كالنجمة التائهة في خيالي...؟! هل سأمضي إلى محمد المسيردي؟! لولاه ما كان حدث الذي حدث.. ترى ما الذي كتبته إليها؟! أيها المعلم، أنت تافه، أنت معقد، أنت قذر، أنت ابن كلبة وكلبة.. بل أنت كلب وكلبة معا.. أنت مجرد نباح بذيء... كدت أن أكره مادتك.. أنبذ لغتك، أنت مجنس حقير.. أنا لا أصدقك.. كس أمك إن كنت معارضا.. أنت بذيء، وإلا كيف تستولي على رسالتي إليها.. أنا لا أتأسف عليك إن دهستك سيارة وأنت خارج تحمل على وجهك نظارتك الحقيرة... سآتي راكضا بينما أنت ممدد على الطريق، غارقا في دمك، وعندئذ أبصق عليك.. أبصق في وجهك الخردة.. تفو، تفو..