ندوة علمية بالعاصمة حول أهمية الخبرة العلمية في مكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية    بوريل: مذكرات الجنائية الدولية ملزمة ويجب أن تحترم    توقرت.. 15 عارضا في معرض التمور بتماسين    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة : عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    قريبا.. إدراج أول مؤسسة ناشئة في بورصة الجزائر    رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    اجتماع تنسيقي لأعضاء الوفد البرلماني لمجلس الأمة تحضيرا للمشاركة في الندوة ال48 للتنسيقية الأوروبية للجان التضامن مع الشعب الصحراوي    تيميمون..إحياء الذكرى ال67 لمعركة حاسي غمبو بالعرق الغربي الكبير    الفريق أول شنقريحة يشرف على مراسم التنصيب الرسمي لقائد الناحية العسكرية الثالثة    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    انطلاق الدورة ال38 للجنة نقاط الاتصال للآلية الإفريقية للتقييم من قبل النظراء بالجزائر    الجزائر ترحب "أيما ترحيب" بإصدار محكمة الجنايات الدولية لمذكرتي اعتقال في حق مسؤولين في الكيان الصهيوني    بوغالي يترأس اجتماعا لهيئة التنسيق    سوناطراك تجري محادثات مع جون كوكريل    عطاف يتلقى اتصالا من عراقجي    مكتسبات كبيرة للجزائر في مجال حقوق الطفل    حوادث المرور: وفاة 11 شخصا وإصابة 418 آخرين بجروح بالمناطق الحضرية خلال أسبوع    أدرار: إجراء أزيد من 860 فحص طبي لفائدة مرضى من عدة ولايات بالجنوب    توقيف 4 أشخاص متورطين في قضية سرقة    هذه حقيقة دفع رسم المرور عبر الطريق السيّار    الجزائر العاصمة.. وجهة لا يمكن تفويتها    توقيف 55 تاجر مخدرات خلال أسبوع    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    السيد ربيقة يستقبل الأمين العام للمنظمة الوطنية للمجاهدين    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 44056 شهيدا و 104268 جريحا    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    غزة: 66 شهيدا و100 جريح في قصف الاحتلال مربعا سكنيا ببيت لاهيا شمال القطاع    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    الجزائر تتابع بقلق عميق الأزمة في ليبيا    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    التسويق الإقليمي لفرص الاستثمار والقدرات المحلية    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شير (2)
نشر في الجزائر نيوز يوم 29 - 04 - 2013


وأحد، أحد، لم يرها تحلق..
لم تكن وحدها تحلق في السماء، في تلك السماء البعيدة، رأيت كذلك الطيور المغناجة، وكانت هي وسط سرب الطيور المغناجة، وكانت الفراشات تتناسل إلى ما لانهاية وهي تحلق باتجاه تلك السماء البعيدة.. وجلست القرفصاء، كنت عاريا أرى، أما الشموس الراقصة المطلة من أعلى أبراج تلك السماء البعيدة كانت تضحك، وضحكاتها كانت كاللجين المضيء، وكان اللجين المضيء مثل دموعي المنهمرة المتهاطلة من عيوني، وكان العواء يصاعد من أعماقي، يولول كما الصيحة الغريبة؟؟ المضرجة بالأنين، (جدتي، جدتي) لا أحد يسمع، لا أحد يدري، لا أحد يرى..
لأول مرة أخذتني إلى الحمام، كنت أعوي وأنا أرى تلك الأجساد النسوية تشرق بالتبر، غارقة في الماء والصابون الثلجي، والشعر الأسود كالليل الداجي يمنح الحمام لونا مدهشا ومخيفا، يضعن الفوطات المزركشة، والغاسول في الرأس، ينبطحن على صدورهن العاريات والأثداء تتراقص كالأمواج القمحية.. وكانت جدتي تكاد تسقط على ظهرها وأنا أحمي كاوكاوتي الصغير خشية عليها من عيون ونظرات تلك العاريات النزقة.. تضعني بين فخذيها وتضع الغاسول فوق رأسي والصابون الثلجي في جسدي..
راحت الأصوات تنعق بينما كانت جدتي وسط الطيور ترقص كما الفراشة الفارة من الظلام إلى الأضواء الحارقة باتجاه تلك السماء البعيدة.
حملوا الجثة وغسلوها..
داخل الغرفة السوداء الكبيرة غسلوها..
وضعوها في صندوق مفتوح مقمطة بكفن بلون الصابون الثلجي وذهبوا بها إلى الجامع الكبير..
لا أحد عبأ بها وهي تحلق
عيونهم كلها تعلقت بالجثة، بينما لم يرها أحد وهي تحلق ضاحكة مبتسمة ومنتشية، وضعوا الجثة على متن سيارة خضراء وراحت السيارة الخضراء تجوب الشوارع المتربة والملتوية كأفعى والعامرة بالمساكن الطوبية والقصديرية والأعمدة الكهربائية المهترئة والحقول والأشجار الباسقة والغدران الراكدة..
توقفت السيارة أمام المقبرة الوحيدة، وراحت الأيدي تتشابك وهي تحمل الصندوق إلى المثوى الأخير
تنافس حاملو الصندوق في رمي التراب على الجثة القابعة داخل الحفرة..
يا إلهي، هل حدث ذلك فعلا، ووضعوها في حفرة..؟!
لا، لم يكن ذلك صحيحا. ابتسمت الممرضة، وقالت وهي تبتسم (أصدقك، لم يكن ذلك صحيحا)
تذكرت الآن، لم يكن ما رويته سوى خليط من التخيل والأوهام، لكنني أتذكره، هو، أجل أتذكر أن الشهر كان ديسمبر.. وأتذكر ذلك الصباح، أظن أنني استيقظت على الساعة السادسة وعشرين دقيقة صباحا، تاك، تاك، تاك، كانت الساعة الجدارية تتأوه، اجتاحتني الأصوات، ثمة نشيج بني اللون (من أين يأتي النشيج؟) كانت الحجرة شديدة البرودة والأسنان تصطك والجسد يرتجف وأنا في أقصى العراء.
عورتي شاحبة ومتصلبة، أحب النوم عاريا وأحب الدوران في الحجرة عاريا وأحب الركض على شاطىء البحر عاريا وأحب النوم على السرير مع حبيبتي المفترضة والمتخيلة عاريا ويوم قبلتها وحدث ذلك للمرة الأولى في حياتي نزعت كل ملابسي وهي اعتقد أنها راحت تصرخ عندما رأت عورتي ولقد شعرت لحظتها بالرعب من عرائي وأتخيلها كالأرنب المذعورة تقفز وتنط بينما كنت كالوحش الهائج الكاسر انقض على صدرها بحيث أدخلت يدي في أغوار صدرها وهي لم ترد أن أمزق مسند الثديين ولم تكن ترغب بالمرة أن أراها عارية وسرت الحمى في شراييني بل وسرت بكل عنف وجنون وشعرت شعورا لا مثيل له بالتيار الجارف يقذفني وعندئذ اكتشفتني تيارا جارفا ينزف ترابا وحجرا وحصى وصلصالا، وغردت الطيور الزرقاء في حقول رأسي وكانت الطيور تلهث وتعوي كأنها ذئبة صغيرة مغلوبة على أمرها وكأنني لحظتها مجرد ذئب ساغب مغلوب على أمره وكان لساني يهذي أحبك، أحبك وجذبتها من رجليها واستولت علي رائحتها ورأيت الرائحة بكل ألوانها في المرآة الصدئة وكانت رائحتها مثلنا عارية، اسمك؟! خديجة. وعندما كنت أحدث أصدقائي عن خديجة كانوا يتغامزون ويضحكون ويقهقهون وأنا أتلوى من الألم، لماذا هم لا يصدقونني؟! أكشر عن أنيابي، يقهقهون ويتغامزون. أبصق في وجه السماء وفي وجوههم، أبقى وحيدا على قارعة الطريق ويختفون
يسقط الليل ويتساقط المطر..
هل كانت خديجة حقيقة؟!
هل كانت خديجة من لحم ودم؟!
والآن؟!
أين أنت يا خديجة؟!
قلت لكل من يصدقني، أن خديجة لم تعد الآن على قيد الحياة، لكنها تنام في أعماق ذاكرتي المسحوقة، دهسها قطار أرعن، قطار كان يمر كل صباح باكر بالقرب من بيتهم، كتلة من لحم، كومة من لحم بارد أضحت خديجة. كانت كتلة اللحم عارية وضجت الدنيا بالنشيج والعويل والنواح، انظر إلى الباب الموصد (من أين يأتي النشيج؟) لون الباب، قد يكون أزرق، أليس كذلك؟! وما همني إن لم يكن أزرقا ربما أصفر، ربما أخضر، ربما أسود، ربما بدون لون.
وما همني أن يكون اللون لونا؟! ومع ذلك فلقد كانت الزرقة شاحبة كأنها زرقة الموت، ألصقت أذني بالباب بينما هذا النشيج الوقح يمزقني وقلبي بدأ يدق وكذلك سمعت الدقات من داخلي وراحت الدقات تضج في رأسي وتعاظم دقها. مطرقة على الرأس ومطرقة على القلب نفسه، المطرقة. تذكرت في ذلك الزمن الموحش المملوء بالطحالب فريديريك نيتشه، وجهه المثير وشاربه الغريب..
المطرقة، المطرقة
المطرقة تتكلم
«لمَ هذه القسوة؟ قال الفحم الحجري مخاطبا حجر الماس،
أليست بيننا قرابة ونسب؟!..
ولمَ هذا اللين؟ أسألكم بدوري، أين إخوتي، أو لستم إخوة لي؟
لمَ كل هذا اللين، وهذه الطواعية، وهذا الانصياع؟! لم كل هذا التنكر والنكران في قلوبكم؟! ولا شيء سوى هذا النزر الضئيل من صرامة القدر في عيونكم؟
وإن كنتم لا تريدون أن تكونوا قدرا وعزائم لا تنثني
فكيف يمكنكم أن تكونوا شركاء نصر- معي ذات يوم إذن؟
وإذا كانت قسوتكم لا تريد أن تبرق وتقطع وتفصل، فكيف سيكون لكم أن تكونوا شركاء ابداع معي ذات يوم إذن؟"
كان فريديريك يرافقني في ثانوية سي الحواس.
سأل أستاذ الفلسفة ربيع، من منكم يقدم فريدريك نيتشه؟!
وقفت، صارخا، المطرقة، المطرقة..
ضحكوا.. لكن الأستاذ لم يضحك..
ما أفظع المطرقة؟!
فريديريك نيتشه. الوجه المتجهم والشارب الرهيب والقلب الضعيف والروح الغريب (أريد نيتشه) صرخت في وجه الممرضة.
ظلت ترنو إلي بحنان. الطاقم ينظر إلي شزرا. صرخ أحدهم، اتركوه، ستزول عنه نوبته. ثم خرجوا
المطرقة، المطرقة
يقف فريديريك نيتشه في أعلى الجبل مثل زرادشت وهو ينظر إلي حاملا مطرقته، يشهرها وكأنها السلاح القاتل يهوي على كل الرؤوس منهم رأسي..
صرخت وأنا أراهم يهوون على الرؤوس.. نظر إلي، زمجر في وجهي
الأمير، اقتل. اقتل. شعرت بالقشعريرة تسري في كل مفاصلي، كنت كالريشة في مهب الريح. اقتل، اقتل..
كان ينظر إلي، يصرخ، يعوي، يئن.. اقتل، اقتل.
وهويت على رأسه. هويت على رأسه، هويت على رأسه. لم أكن رأيته. لم أكن أعرفه. اقتل، اقتل
هويت على رأسه. بالمطرقة هويت على رأسه.
انبجس الدم. دم أسود. دم قان. كانوا يصرخون. الرعب يرقص في عيونهم، صرخ الأمير
اقتل. اقتل. ورحنا نطير بالرؤوس. بالرؤوس..
لذة القتل.
اكتشفتها. عمري خمس نسوات
في المطرقة لذة القتل.
كان الوقت صيفا. كان الجو حرًّا. كان الجو حرًّا شديدا.
كنت في الحوش وحدي قرب غرفة جدتي التي كانت تحب القطط وتعنى بتربية القطط. حملت قطة صغيرة وكان روحها ينظر إلي ببشاعة واكتشفت ذلك من خلال موائها الذي يشع بحدة من عينيها.
أجل كان صوتها، صوت المواء مغروسا في عينيها الخضراوين وكان المواء مزعجا ومرعبا وأخذت مطرقة والدي ونزلت على رأسها.
ويصرخ الأمير بي، اقتل، اقتل.
نزلت ليلا، وقتلناهم جميعا..
وكان المواء يتدفق بعنف مفزع مع الدم من رأسها.
صرخت جدتي في وجهي ماذا فعلت؟!!
قلت مواؤها. قالت هل جننت؟! لقد قتلت. قتلت القطة.
وشعرت بفرح غامر، فرح المواء والمطرقة.
كان فريدريك نيتشه يرافقني، يحاصرني يأخذني إلى غابته المجهولة وجبله المخيف. كنت أمشي خلفه حاملا مطرقتي باحثا كالمجنون الشره عن الأوثان. سأطيح بكل الأوثان كنت أصرخ بيني وبين نفسي، بينما كان فريدريك يمشي تحت ظلال الأشجار وفي أعماق الأزقة القذرة خلف ثانوية سي الحواس كالنبي المنبوذ..
صرخ جميل الذي كان يجلس بجنبي في القسم، فريديريك نيتشه يا أستاذ كافر. أكره الكافر. أكره قاتل الله، يصمت الأستاذ، يتعالى الضجيج وسط ركام الفوضى الخلاقة.. يتركني جميل وحدي مع فريدريك نيشته.. أنا نيتشه قاتل القطط..
وقاتل القطط الآدمية..
ما الحياة؟!
مجرد قطة ذات عينين خضراوين.
ورأيت الجن الأخضر يرقص أمام عيني..
غضب أبي، اكفهر وجهه، تطاير الشرر من عينيه.
وانقض علي بالسوط..
وأنا كنت أبكي بينما الجن يرقص أمام عيني
مجرد قطة ذات عينين خضراوين، تلك هي الحياة؟!
كان أبي متذمرا من الحياة ويصفها بابنة الكلب..
الحياة ابنة كلب؟!
مجرد قطة ذات عينين خضراوين، بقيت دائما أصر على ذلك..
جرني، وجدتي لم تكن موافقة أن يجرني هكذا والدي من قدمي إلى البيت المظلم العامر بالفئران والظلام والروائح العتيقة الحبلى بالنتانة.. شعرت بالرعب يسري كالدم الخاثر في عروقي، والبكاء العويلي راح يتلاشى مثلما تلاشى العالم المرئي من عيني وأنا أشعر بالخدر يركض في مجاري رأسي، بينما ذلك الرجل الضخم ينظر إلي بعينين زائغتين، وبينما السيارة البيضاء، الإسعاف تولول كامراة شمطاء..
حبسني والدي مدة أيام لا أذكرها بكاملها.
لم أر النور مدة أيام لا أذكرها بكاملها..
وموأت كالقطة ذات العينين الخضراوين في قلب ذلك الدماس مدة أيام لا أذكرها بكاملها..
وأذكر أن والدي جرّني، وقال، القتل حرام، القتل حرام، القتل حرام..
وجدتي كانت تمر قرب باب الغرفة المقفل..
أرنو إلى خطواتها المتدثرتين بضوء شاحب..
أرنو إلى صوتها المتسلل إلي في بطن العتمة المنتشرة كالهواء..
أرنو إلى أقدامها الغارقة في الخطوات المحنأة بالهسيس..
وكانت خطواتها كما المواء..
وكانت الغرفة العارية متدثرة بالدجى والدماس..
وكانت عيناها الخضراوان مثبتتين كاللعنة القاتلة في منتصف الباب..
وبينما كنت مستلقيا على الأرض أبكي، الأرض العارية أبكي اقترب مني روحها وشعرت لأول مرة في حياتي بشيء كالفزع وكان روحها يسعى بشكله الطاغي إلى الالتفاف حولي وأحسست أنه يريد بشكله الطاغي الانقضاض علي والانتقام مني، وفي لحظة من تلك اللحظات أضحيت ذاتي قطة ذات عينين خضراوين وشرعت أموء والظلام ينهمر كالدموع الغزيرة، كالأمطار الغزيرة شديدة الحلكة.. وبعد الأيام التي قعدتها، مدة الأيام التي قعدتها في أحضان الظلام لم أعد أذكرها، خرجت إلى النور. مثل العلم إلى النور. مثل الوحي إلى النور. مثل الدعوة الجديدة إلى النور. مثل الكلمة الوليدة إلى النور، مثل الظلام الدفين إلى النور. مثل السر المكنون إلى النور، والعالم من حولي؟!
عبارة عن قطط صغيرة متضائلة الصغر ذات عيون خضراء حادة وقاسية ومليئة بالعنف. حملني والدي إلى المستشفى. كنت نحيفا. كنت أرتعش. كنت أصرخ من شدة الألم. قضيت أسبوعا بكامله في المستشفى. وبعد وقت طويل وطويل جدا اعترف والدي (عندما كنت صغيرا، ربما أنت لا تتذكر ذلك، لأنك كنت صغيرا، صغيرا. كان لك ولعا بقتل القطط الصغيرة حتى ظننا أنك انسكنت بلعنة القطط. لكن حمدا لله، حمدا لله أنك شُفيت بإذن الله) هل كان ذلك صحيحا؟! هل كان قتلي للقطة ذات العينين الخضراوين حقيقة أم مجرد خيال؟! والدتي قالت فيما بعد أن ذلك مجرد توهم، قد يكون ذلك صحيحا وقد لا يكون. لكن على أية حال لا يمكنني بأي حال من الأحوال أن أنساها، ليس القطة الصغيرة ذات العينين الخضراوين بل فتاة البورديل ذات العينين الخضراوين. كانت شبيهة يا الله بذات القطة المفترض أن هشّمت رأسها بالمطرقة،. لكنني هل فكرت بالنزول لحظة عرائنا الأبدية الباهرة بالإجهاز على رأسها الصغير بالمطرقة؟! كنت في بداية الشباب. كنت ألبس سروالا أسود وتريكو أصفر وجلست خلف ابن عمتي مسحورا فوق الدراجة الحمراء، التصقت به ووضعت يدي متشابكتين فوق بطنه ولم يكن بطنه منتفخا. وكانت الدراجة تحدث ضجيجا كبيرا ودخانا كثيرا ونزلنا من الحي إلى قلب المدينة ثم اجتزنا قلب المدينة ووصلنا إلى حي الشارع الأخضر حيث البورديل بالقرب من البورديل نهر ذو رائحة كريهة، وأصوات ضفادع كريهة، لم أحب في حياتي الضفادع.. كانت تبحلق وتصدر تلك الأصوات الكريهة وترتفع تلك الأصوات الكريهة إلى السماء بحيث تصبح السماء شبيهة بتلك الروائح الكريهة. توقف ابن عمتي أكثر من مرة على شاطىء النهر الكريه وداس بقدميه تلك الضفادع وكنت أضحك وأصفق وابن عمتي يضحك وكانت ضحكاته تتعالى وتختلط مع تلك الأصوات والروائح الكريهة وكان النهر مليئا بالأحجار والقاذورات والأشياء الكريهة وكانت الساحة العارية الممتدة على يمين النهر الراكد والحزين ببشاعة عامرة بعربات الكارو والباعة يصرخون والشمس تسقط خيوطها من السماء على الرؤوس كمرض السل الكريه وكان التراب في كل مكان محاطا بالقاذورات والزبالات والذباب ورائحة السردين المثيرة للقطط الشمطاء الكريهة وسألني ابن عمتي إن كنت جوعانا وأنا قلت له أريد أن آكل كرنطيطا فوضع دراجته بجانب محل حقير للمشروبات الكحولية وقادني من يدي واتجهنا إلى براكة المغربي بائع الكرنطيطا، وكان الناس بروائحهم النتنة الكريهة يتزاحمون وأصواتهم المتعالية تتزاحم كذلك والأيدي المتشابكة تتزاحم أيضا وابن عمتي يخترق كل تلك الأجساد الشبيهة بالكتل اللحمية المدنسة بالعرق والغبار.. وأعطاني كاسكروط كرنطيطا ساخنا ومليئا بالهريسة الحارة الحمراء ورحنا نمشي ونخطو باتجاه البورديل الضخم ذي الطوابق المرتفعة وكان العسكر يدخلون ويخرجون من البورديل ذي الطوابق الشاهقة العديدة وكانت النساء تتجول عاريات من أعلى الطوابق وأسفل الطوابق وبحذاء الدرب الضيق المحاذي للبورديل ذي الطوابق ذات اللون البني الميت، ومر علينا رجل سكران يضع على رأسه عمامة صفراء مائلة ويحمل بيده اليمنى زجاجة كحول ممزوج بالماء وهو يغني ويترنح كالريشة يتلاعب بها الريح وكان يرتدي بلو شنغاي، نظر إلينا وأشار إلى عورته فاتجه إليه ابن عمتي وأراه هو أيضا عورته ثم بصق في وجهه لكن الرجل السكران ضحك ضحكة ميتة ثم واصل سيره باتجاه النهر المليء بالضفادع ذات الأصوات الكريهة..
ثم رأيت مجموعة من الكلاب والكلبات تسير جماعة وهي تنظر إلينا وإلى الرجل السكران، وفي لحظة هجمت على تلك الشكارات النيلونية المليئة بالقاذورات وراحت تلتهم وتعبث، وفجأة انفردت كلبة داجية اللون بكلب هزيل إلى أسفل النهر وتركته يحتك ثم راح يركبها وأنا قلت لابن عمتي (انظر، انظر) وكنا لحظتها نلتهم كاسكروط الكرنطيطا المليئة بالهريسة وكنا نعرق ونشعر بالحرارة وكان المشهد جميلا ولذيذا وهما يقومان بتلك الحركة اللذيذة أمام مرأى الناس جميعا، وكان صوتهما يثير كل تلك الأشياء النائمة بأعماقنا، ولكن يا للأسف سيارات ضخمة اقتربت منهما ذات روائح كريهة أخفت عنا المنظر الرائع المثير وعندئذ أطلق ابن عمتي من فمه كفرية مجنونة لكن أصحاب العربات الشاحنة لم يسمعوا تلك الكفرية المجنونة المنطلقة كالرصاصة العربيدة من فم ابن عمتي، وقال لي ابن عمتي هل شبعت؟! وأنا قلت له (أجل شبعت) وهو قال لي (لندخل إذن إلى البورديل) وأنا قلت له (وماذا سنفعل في البورديل؟) وهو قال لي (نفعل ما يفعله الرجال بالنساء) وأنا قلت له (أنا خائف) وهو قال لي (لا تخف، لا تخف، أنا هنا) وأنا قلت له (خائف من أبي، ماذا لو عرف أننا جئنا إلى هنا، إلى البورديل) وهو قال لي (لا أحد يعلم أنك جئت وأنني جئت إلى هنا إلى البورديل) وتقدمنا باتجاه الباب الكبير ذي اللون الأخضر للبورديل وتوجهنا إلى الشباك حيث كان الناس في طابور كبير ليدفعوا الدراهم ويأخذوا البون.. وكانت وجوه الطابور صامتة وغامضة ومليئة بالغبار والأسى والكآبة..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.