لماذا ترد كل هذه الصور المتهاطلة إلى ذهني فجأة يا إلهي؟! اقترب من حي بيران ذي البيوت المبنية بالآجر الأحمر، ووادي ماكرة، دائما حاضر كظل الإله.. يمر هادئا ومجللا بالصمت العميق.. الأعمدة الكهربائية الخشبية ذات اللون الحائل، وتلك الخيوط التي تتراقص فوقها السنونوات.. ثم ها هي مدرسة مارسو للبنين والبنات.. تحول اسمها في سنوات السبعين إلى الأمير عبد القادر.. جارنا بحي ڤومبيطا درس طويلا في مدينة مارسو، الأمير عبد القادر.. ثم أصبح عندما شاب رأسه مديرا.. ثم تقاعد، ثم تحول في سنوات عمره الأخيرة مراسلا لجريدة يومية تصدر باللغة الفرنسية في مدينة وهران.. وفي ذات صباح عندما اتجه إلى السوق رفقة إحدى حفيداته وكانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا، نزل شابان من حافلة خاصة مهترئة كانت غاصة على فمها بالركاب.. أحدهما لا يتجاوز الثامنة عشر من العمر، كان يرتدي جاكيطة سوداء، ويضع كاسكيت أزرق، ويرتدي بنطالا أسود، وسنيكسا بيضاء.. زميله كان أبيض اللون، معقوف الأنف، وذا عينين جاحظتين.. وعلى وجهه علامة قديمة.. كان يرتدي هو الآخر زيا مماثلا.. اقتربا منه، ناداه أحدهما باسمه.. ثم أطلق الثاني ثلاث رصاصات، واحدة في الرأس، والأخرتين في الصدر.. سقط مضرجا في دمه، ثم اختفى الشابان بهدوء واندسا في وسط تلك الجموع التي أعطت أرجلها للريح.. صراخ هنا وهناك.. عويل.. ضجيج سيارات، ولولة متأخرة لسيارات الإسعاف.. ثم رجال الشرطة، والحرس البلدي، ورجال الدرك... ماذا فعل حتى يقتلوه؟! كان مسالما.. وبعيدا عن السياسة.. لا أحد كان ينتظر أن تكون نهاية جارنا، الرجل المسالم.. الرجل الذي كاد أن يكون رسولا.. الرجل الذي لا يؤذي ذبابة، بتلك الصورة.. صرخت زوجته وكادت أن تفقد عقلها عندما أُنبئت بمصرعه... شعر المعلمون والمدراء بالخوف فأحسوا أن الموت بتلك الصورة الفظيعة والمجنونة بدأ يحوم حولهم... تدفق الناس على منزل جارنا... امتلأ المنزل بالمفتشين والزملاء المتقاعدين.. وكانوا يبدون كأولئك الذين خرجوا دون أن يدروا أو يشعروا من دائرة الزمن الحي، الزمن الذي يجري الآن... بعضهم كان يدخن ويشرب القهوة ويستعيد الزمن السعيد الذي ولّى واندثر... كانوا يتحدثون إلى بعضهم بصوت منكسر ومنخفض وجريح وكأنهم كانوا يتهامسون... ما الذي يحدث؟! كيف وصلنا إلى هكذا زمن.. الجار يقتل جاره، والأخ يطلق الرصاص على أخيه، والصديق سابقا يذبح صديقه والصغير يقضي على الكبير؟! هل هذا هو الإسلام؟! هذا ليس إسلامنا ؟! نحن لم نتعلم أن يكون الدين هكذا.. الدين محبة، الدين سلم، الدين النصيحة... وظلوا يرددون مثل هذا الكلام طوال الليل، طوال الليل.. كان جارنا يحب النظافة والنظام ويدافع عن الأخلاق الحميدة... كان يرتدي بدلتين طوال السنة، واحدة رمادية والأخرى كاكية.. وكان له ثلاثة أبناء، وبنت.. لم تكن شقته بعيدة عن منزلنا، بين منزلنا وشقته الكائنة بالطابق الثاني بعمارة مدرسة الكولونيل لطفي مسافة تقدر بخمسة عشرة دقيقة.. ابنه البكر لطفي يتجاوزني بعامين، الطيب يصغرني بعام، مختار بثلاث سنوات، أما مريم فكانت تكبرني بشهرين أو ثلاثة على أكثر تقدير.. درس جارنا في المغرب ومكث طويلا بجامع القرويين، عاد مع السنوات الأولى للاستقلال، لم يقعد طويلا بتلمسان، كانت زوجته المغربية صديقة لخالتي بختة، وكلتاهما كانتا منتميتين إلى الطريقة الهبرية.. مساء كل جمعة كانت فقيرات الهبرية يحيين جلساتهن الاحتفالية، كنت أذهب رفقة أمي، وخالتي أحيانا إلى بيت شيخة فقيرات الهبرية بشارع شاكو، شرق حينا ڤومبيطا... وكلما تذكرت رواحي رفقة أمي أو خالتي إلى دار شيخة الفقيرات، المدعوة "المقدمة" تجتاحني تلك الرغبة الجامحة في استجماع صورة اللقاء الاحتفالي وأنا مغمض العينين، أنظر ها هو ذاك الزمن القابع في أقصى نقطة من بيت الذاكرة الفسيح ذي الأروقة العديدة والمسالك الوعرة المعقدة المسكونة بالظلال ذات الزرقة الشاحبة والأضواء الداكنة الكليلة، ها هو ذاك الزمن يبدو ممتدا في أفق بيت الذاكرة ذات النوافذ المشرعة على عالم كثيف من الأطياف والأشباح والأحلام الغاملة ومتعدد الرنات والأصوات والأصداء... يبدو المنزل شاسعا، الجدار الخارجي مطلي بالأبيض والأزرق الفاتح، الطروطوار كالصل الطويل بلونه الرمادي المثير.. والباب الخشبي يحمل رقم 22 ويد فاطمة الفضية المبللة بالأزرق الفاتر تتخللها عين نجلاء وكأنها تنطوي على كل سر العالم.. متى كان ذلك؟! منذ سبع وأربعين سنة؟! نعم، كان ذلك وكأنه البارحة، وكأنه الأمس القريب، تلك هي المرة الأولى التي أذهب فيها إلى دار شيخة الفقيرات، الحاجة يامينة المدعوة "المقدمة" رفقة أمي.. وكانت أمي في ريعان الشباب، الوجه صبوح، والعينان غارقتان في الكحل، ووشم صغير ما بين الحاجبين.. تلبس بلوزة نيلية مزركشة، وتلتحف بالمڤرون، صنع عائلة العشعاشي.. كان الحوش الفواح برائحة القطران والبخور والجاوي ومزيج آخر من الروائح يغزو كل منافذ الجسد.. يغزو البصر والشم والنظر وعامر بالنساء والأطفال والصبايا..آه، لتلك الرعشة المهولة التي انتابتني عندما انطلق الحفل.. كم كن؟! خمسة عشرة امرأة؟! عشرون؟! ثلاثون؟! خمسون؟! كان عددهن كبيرا ومهيبا، يرتدين البياض، يجلسن في جلال وخشوع، يشكلن دائرة مثيرة داخل الباحة الكبيرة، داخل الحوش المحاط بالشجر الصغير والبراميل الخشبية ذات اللون الأزرق السماوي والمزهريات والأصائص والصناديق ذات الألوان الفاتحة المتعددة.. كن يرتدين عباءات نسوية بيضاء ويضعن على رؤوسهن فولارات شفافة، وبعضهن يحملن البنادير وينقرن عليها بشكل متسق ومتناغم، ثم ارتفعت الأصوات صداحة ومهيبة ورنانة...