وعاد الحلم من جديد، ذلك الحلم الذي تشكل قبل عدة سنوات.. الرحلة إلى هناك حيث مهبط الوحي، مسقط رأس النبي محمد (ص) أرض المعارك التاريخية الكبرى.. بدر الكبرى وأحد.. أرض شعراء المعلقات.. أرض الحجر الأسود، لكن أيضا مسقط رأس أسامة بن لادن والسعوديين الخمسة عشر الذين فجروا طائراتهم في سماء أمريكا ذات 11 سبتمبر من العام 2001.. حلم تعود جذوره إلى لحظة الطفولة الأولى.. أتذكر، كنا لا نزال في نفس المنزل القديم في حي قومبيطا بسيدي بلعباس... كنت لا أزال في بداياتي الأولى أحفظ القرآن.. وأصغي إلى حكايات الإسلام على يدي سي قدور في الجامع الصغير.. دب شيء ما، كالفرح المباغت في منزل والدي، عندما قامت جدتي من أمي مباركة براشد برحلتها إلى مكة... اتجهت إلى بيت الله وأرض الرسول رفقة عشرة نسوة من حينا ڤومبيطا.. كانت جدتي مباركة تبدو يومها فرحة، مبتهجة كطفلة نزقة.. كانت ترتدي بلوزة بيضاء، وفيشو أبيض، وفولارة بيضاء مزركشة بحبيبات صفراء من الصقلي تغطي بها رأسها.. لم تكن جدتي مباركة بالفارعة الطول، أو القصيرة القامة.. كانت متوسطتها، ذات لون وضاء يجعل من بشرتها مشرقة وعامرة بالحياة والنشاط.. كل أفراد عائلاتنا توافدوا على منزلنا بحي ڤومبيطا.. خالي جلول، خالي محمد، ابن خالتي غانم، خالاتي كلهن، بختة التي جاءت رفقة زوجها بن خدة وبناتها وأبنائها من مدينة غليزان.. خالتي خيرة التي قدمت مع زوجها البوشيخي وأبنائها، بلعيد وقادة ويحيى من حي الكامبوا الذي يبعد عن ڤومبيطا بحوالي خمسة كيلومترات. خالتي رزيقة رفقة زوجها محمد سيدي وعماتي زينت وحليمة التي قدمت من وهران ويامينة وعدد لا يحصى من الجيران والجارات، مثل عائلة داية وعائلة بوشتة وعائلة باصو وعائلة ڤوباي وعائلة حر وعائلة حمدينو وغيرهم كثير.. امتلأت باحة المنزل بالنساء اللواتي رحن يبركشن الكسكسي ويهيئن الحريرة المشبعة بالتوابل.. وكذلك الأطفال الذين ملأوا الجو مرحا وصخبا.. وألبسوني يومها رفقة إخوتي لباسا جديدا... بينما قعدت جدتي في البيت العلوي الصاخب بالزائرات وأصواتهن وحكاياتهن.. وكانت زوجة خالي عروبة رفقة خالتي رزيقة يزغردن وسط فرقة الفقيرات المنتميات إلى الطريقة الهبرية اللواتي أقمن حفلا شعائريا لا يُنسى... ويومها سمعتهم كلهم يتحدثون عن مكة، وسألت أحد أبناء خالتي، ماذا يوجد بمكة؟! وأين توجد مكة.. وأتذكر أنه قال لي.. إنها بعيدة.. بعيدة جدا.. هي قريبة حيث الله.. وتساءلت حينها، وأين يوجد الله؟! نظر ابن خالتي إلى السماء العالية، وقال مشيرا بأصبعه.."هناك.." وأنا قلت، “إذن جدتي ستذهب إلى هناك.. إلى السماء؟!" نظر إلي وكأنه لا يدري كيف يجيبني... ثم قال، مكة.. السعودية، هناك.. خلف السماء السابعة.. حيث الله.. والرسول، وشباك النبي ولالة حليمة.. تساءلت، “لالة حليمة؟ من هي لالة حليمة؟... قال ابن خالتي.. لا أعرف... لكن اسمها لالة حليمة، هي ليست بعيدة عن شباك النبي.. ثم قال لي.. خلاص.. كفى.. كفى.. ودعاني لنركض هناك خلف بيتنا، حيث الوادي الصغير المسيج بأشجار الليمون والتفاح والخوخ.. جلسنا لوحدنا.. أنا وابن خالتي... وعندما سقطت الشمس في قلب مياه الوادي الصغير عدنا إلى المنزل... وفي المنزل رأيت سي قدور وطلبة قرآن آخرين يجلسون في شكل دائري يرتشفون القهوة العطرة برائحة القرنفل يتحدثون قليلا ويتلون القرآن قليلا بصوت موسيقي رنان... بكت والدتي كثيرا وطويلا عندما توجهت جدتي إلى مطار وهران باتجاه مكة.. ثم بكت طويلا وهي تحتضن جدتي عندما عادت من مكة... فتحت جدتي التي كانت في غاية الإرهاق والتعب حقيبة كبيرة ذات لون أصفر.. وأخرجت منها أقمشة وألبسة وزجاجات ماء زمزم وألعاب للأطفال... وكدت أموت من الفرح عندما أهدتني جدتي مسدسا جلديا أسود وشاشة زرقاء صغيرة رأيت مكة وصور مكة من خلالها... وصور المدينة من خلالها... وصور تلك المناظر البهيجة من خلالها... لم يبق سوى يوم واحد على مغادرتي الجزائر باتجاه مدينة الرياض كأول محطة لزيارتي إلى السعودية.. نحن في 17 من شهر جانفي... يومها كنت على موعد عشاء في مطعم خيمتنا الجميل الكائن ضواحي شارع محمد الخامس بالعاصمة مع صديقيَّ يزيد وأحمد.. أخبرتهما مسبقا أنني سوف لن أمكث طويلا معهما بحكم سفري في اليوم التالي إلى الرياض... كانت الساعة تشير إلى التاسعة مساء عندما وصلت إلى مطعم خيمتنا.. لم يكن المطعم عامرا.. كان يرين فيه جوا هادئا ومريحا... هنا وهناك كان يتناثر بعض الأصدقاء من المثقفين والكوادر في الإدارة المركزية وبعض رجال الأعمال... يزيد في الأربعينيات من عمره، يشتغل في البتروكيمياويات بحاسي مسعود، قضى في السنوات السوداء التسعينية معظم وقته في الصحافة.. كان يكتب باللغتين، لكنه كان يفضل الكتابة باللغة الفرنسية.. لم يتزوج إلى يومنا هذا، بعد أن فقد في منتصف التسعينيات خطيبته في تفجيرات مقر الشرطة ببولفار العقيد عميروش.. “حياة" خطيبته كانت أصيلة مدينة المدية، لم تعد إليها منذ أن اغتيل والدها الذي كان قاضيا بمحكمة الجزائر العاصمة.. كانت “حياة" ذات طموح كبير، وكانت تحلم بالهجرة إلى كندا، حيث تقيم أختها الكبرى.. منذ سنة تخرجها في بداية التسعينيات من معهد اللغات الأجنبية.. تفرغت إلى تدريس اللغة الفرنسية بأحد المعاهد الخاصة.. كانت تكتب من حين إلى آخر قصصا قصيرة وقصائد... وكانت تبعث بقصصها إلى جرائد وطنية، لكنها لم ترَ النور.. تغيرت الدنيا في وجه يزيد منذ أن فقد “حياة".. كان يقول “كانت حياة كل الحياة.."، تخرج يزيد من معهد بومرداس التقني، لكن كان يجد في نفسه رغبة لا تقاوم لأن يكون صحفيا يجوب القرى والمناطق الغارقة في النسيان والمدن الضائعة في يعابيب الصمت واللامبالاة.. انخرط يزيد في تيار اليسار منذ المنتصف الثاني من الثمانينيات، لكنه لم يتحول إلى شيوعي.. كان ميالا إلى كل ما هو إنساني وتقدمي ومعادٍ لكل ما هو تزمت وأصولية.. كانت كتاباته الأولى على أعمدة جريدة الجيري ريبوبليكان (الجزائر الجمهورية)، ثم انتقل إلى أسبوعية كانت متشددة ضد الإسلاميين وضد سياسة الشاذلي بن جديد الذي كانت تتهمه بالتواطؤ مع فرنسا ميتران للقضاء على النظام الجمهوري بالجزائر وحل بدله نظام إسلامي يمثله الراديكاليون من جبهة الإنقاذ... تعرض يزيد إلى ثلاث محاولات اغتيال من قبل مسلحي الجماعة الإسلامية المسلحة، لكنه كما كان يقول، إنه كالقط، له سبع أرواح... أكثر من مرة اشتغل إلى جنب القوات الخاصة المنتمية للاستخبارات العسكرية.. ولقد تمكن بفضل علاقاته مع أفراد القوات الخاصة من استجواب عدد من المقبوض عليهم من المنتمين إلى الجماعات الإسلامية المسلحة.. كان مؤمنا أشد الإيمان أن المجموعات الإسلامية التي كان يرفض تسميتها كذلك.. فهو يصفها بكل بساطة، “أنها جماعات إرهابية وإجرامية.." فقط “تتستر بعباءة الدين" لم تكن لترى النور لولا وجود دولة مثل السعودية التي لم تكف عن خلق مثل هذه الغيلان منذ وقت بعيد.. قال لي يزيد، وأنا أحدثه عن مشروع رحلتي إلى السعودية، “كيف تذهب إلى هذا البلد" الذي كان في الأصل مصدر كل الشرور والبلايا التي ابتلينا بها يا احميدة..." قلت له.. “هذا اختزال يا يزيد، المسألة أعقد مما تتصور.. السعودية نفسها عاشت محنة جماعات الإسلام المسلح..." أجاب “طبعا.. كانت النتيجة منتظرة.. فلقد انقلب السحر على الساحر.. قل لي، بربك من فتح الباب أمام آلاف الشبان الجزائريين، بل والعرب أيضا للانخراط في ذلك الجنون المرعب، قصدت ما يسمى بالجهاد الأفغاني؟! ألم يرمِ السعوديون بأبنائنا في أتون تلك الحرب التي باضت لنا كل تلك الغيلان التي رأينا منها الويلات.. الآن، وبعد كل الذي حدث.. من نشر لتلك الإيديولوجيا الجهادية المدمرة، ومن بروز مستجدات جديدة، خاصة بعد الذهاب بعيدا للعائلات الحاكمة على الطريق الأمريكي، وجدت السعودية نفسها أمام حالات من التناقض الصريح وتطور الصراع الذي بات يهددها هي نفسها من قبل هؤلاء الجهاديين الذين خلقتهم خلقا إلى جانب الاستخبارات الأمريكية ليكونوا أدوات بين أيدي الإستراتيج الأمريكان...". ظل أحمد طيلة الوقت ساكتا، ثم تفرع الحديث إلى أحاديث دون نقطة أو فاصلة... ظل أحمد يدخن السجارة تلو الأخرى... ومن حين إلى آخر، يتناول كأس النبيذ الأحمر... كانت الموسيقى تتهادى بشكل أخاذ وجذاب وتضفي على جو مطعم خيمتنا نوعا من السكون الحالم والشاعرية.. في بداية التسعينيات غادر أحمد الجزائر إلى باريس مثله، مثل الكثير من الجامعيين الجزائريين.. ترك زوجته لدى عائلتها بعنابة، وكان يمني النفس أن يجد عملا هناك... لكن تلك السنوات كانت بالنسبة إليه كما الكابوس بل كانت كابوسا حقيقيا.. كان الإحساس بالغربة مريرا.. عاش لحظات التشرد والقلق والإهانة.. لم يعد وجه باريس بالنسبة إليه كما كان وقت تردده على بعض الأصدقاء في السنوات الهنيئة.. أصبح وجها قاسيا، بشعا ومليئا بالنفاق والعنصرية الخفية.. في تلك السنوات الحالكة أعاد اكتشاف الجزائر من جديد برغم كل ذلك الجنون الذي كان يسكنها حتى الأعماق، برغم الدم الغزير وبرغم كل تلك التداعيات المرعبة للسلوكات والقيم والخطابات التي طالما تربى في ظلها طيلة سنوات طويلة... عاد في نهاية التسعينيات، كانت الجزائر قد تبدلت.. تبدل أناسها.. تبدلت شوارعها... تبدلت ملامحها.. وأيضا زوجته تبدلت.. لم تعد تلك المرأة التي تركها... كانت إنسانا آخر.. لكن هو أيضا كان إنسانا آخر... افترقا.. وعاد من جديد رجلا أعزب يبحث عن حياة جديدة وشخص آخر يشاركه حياته... كان يحتفظ بأمل كبير عندما عاد بوتفليقة هو الآخر إلى الجزائر بعد عشرين سنة قطعها في بيداء سياسية تراوحت بين سويسرا والخليج... كان في نظره الرجل المخلص لهذه الجزائر التي دخلت دون سابق إنذار في دوامة من العنف والصخب والدم... وكان منذ اللحظات الأولى يقف إلى جانب عبد العزيز بوتفليقة... كان يشعر بحقد وكراهية ضد العسكر والإسلاميين معا... لكن ذلك الأمل الكبير سرعان ما راح يذوي ويخبو.. لا شيء كبير في نظر أحمد قد تغير باستثناء عودة السلم... وهذه العودة للسلم يقول أحمد... ستبقى تعاني من هشاشة فظيعة في ظل تلك الأفاق الرمادية شبه المسدودة.. يزيد أيضا لم يعد يؤمن بالحكم ولا بالمعارضة ولا بالصحافة ولا بالمثقفين ولا بالمجتمع المدني.. انتقل إلى حاسي مسعود.. ولم يعد يأتي إلى العاصمة إلا نادرا حتى يرى الأصدقاء ويستمتع بوقته في التردد على المطاعم والبارات... كان الليل قد أرخى سدوله عندما وصلت إلى البيت.. كنت أشعر بالإرهاق والقلق.. وكان هذا القلق غامضا وداكنا يعتريني منذ سنوات كلما هممت بالسفر... رتبت حقيبتي وأغراضي.. تبادلت أطراف الحديث مع زوجتي، ناشدتني أن أنام لكن ذلك دون جدوى... رحت أتابع الأخبار على القنوات الإخبارية وأتصفح في الوقت ذاته كتابي المفضل الذي لم يفارقني منذ أكثر من ثلاثين سنة.. أعود إليه كلما فكرت بالسفر... ابن بطوطة؟! يا له من شخص؟! يا له من رحالة؟! هذا الرجل المثير يسكنني.. تسكنني كلماته التي ظلت تسري في مجاري ذاكرتي، تسكنني حكاياته العجيبة، تسكنني مغامراته وتلك البطولة المتواضعة والخفية التي أفنى في سبيلها لاكتشاف العالم، والأماكن والناس والثقافات كل عمره... راح الوسن يداعبني.. كانت لي رغبة جامحة لأن ألقي بكل نفسي في أحضان النوم... راحت السطور تتراقص أمام أعيني.. والصور، صور التلفزيون أيضا تتراقص... صور ملطخة بالرصاص والقذائف والدم.. دم السوريين الذي استباحه دكتاتور دمشق بشار الأسد... فتائل الثورة الشريدة في مصر، الإخوان في مهب الريح.. غضب هنا، وهناك.. تشدد، تعنت، أصوات تتعالى.. سراق الثورة.. مصر إلى أين؟! ما وراء الخبر، إعادة.. بانوراما في العربية إعادة.. الحصاد المغاربي، ما بعد الثورة في ليبيا.. قبائل، مصالح واقتتال الإخوة الأعداء... وابن بطوطة يرتدي ثيابه، يفكر بالحج، يفكر بالرحيل، يفكر بالسفر الطويل المفعم بالأخطار والمغامرات والمجازفات والخطوب... يتهادى العالم أمامي، أشعر أني أغرق.. تتعدد الخيوط والألوان وتضمحل الأصوات.. حلم طويل، طويل تشابكت فيه الحروف بالصور والخيالات.. كانت الأحرف تحاصرني، والقصص تأخذني كطفل في أحضانها... ترمي بي في يم صاخب ومتلاطم وعميق.. ابن بطوطة؟! رحالة يسكن الذاكرة كلحظة الخلود.. ابن بطوطة؟! صحفي، ذو عين بصيرة، متأملة.. ابن بطوطة؟! كبير المحققين في عصره، وعصرنا أيضا..؟!