Aix en Provence يوم 14 أفريل 2007، عندما قصدت ياسمينة خضرة لمقابلته في وسط مدينةAix en Provence الشهيرة والجذابة في فرنسا لإتمام الحوار الصحفي المخصص له كان يدور بذهني ذلك السيل الجارف من كلماته المندفعة وذلك اللهيب المضطرم في كل فكرة أو عبارة تفوّه بها وكأنها منحدرة من أعماق أحشائه.أنا سعيد اليوم بدعوة الجزائريين، بإلحاح، إلى المزيد من الاكتشاف لهذا الكاتب الفذ، ساحر الكلمات، الذي يؤكد أنه يتنفس من كل جوارحه جزائريته التي لا تتبدّل. إن ياسمينة خضرة لا يحبذ كثيرا أن يُذكر ماضيه العسكري في كل مرة، بل يعتبره حاجزا يعيق تقدير أعماله على أساس أدبي محض. فليكن له ما أراد، إذاً! ومع ذلك، ما هزّني في كلامه عندما أخذ يذكر ماضيه، هو ذلك الوصف الرائع، والصادق حقا، الذي أعطاه في معرض حديثه عن تلك الصلة الفريدة من نوعها، المفعمة بالعاطفة القائمة على صرامة تقتضي في آن واحد الاستقامة الأخلاقية والامتياز الفكري، أعني تلك العلاقة المتميزة التي كان الراحل هواري بومدين يقيمها بأشبال الثورة، وكان ياسمينة خضرة واحدا منهم. كان معظم هؤلاء الأشبال منحدرين من عائلات كادحة تسكن مناطق نائية من الوطن، كي لا نقول من عائلات معدومة، أراد بومدين، بكل قناعة، أن يعدّهم كي يكونوا خلفا على مستوى هرم القيادة العسكرية. يا لها من مفارقة! فعوض أن نجد الشبل، محمد مولسهول، اليوم في مصاف كبار القادة العسكريين في الجزائر المستقلة ها هو يصعد إلى قمة الشهرة والمجد في عالم أكثر انغلاقا، ألا وهو عالم الأدب! وإذ أفضل استعمال نفس العبارة التي استعملها ياسمينة خضرة، أرى هواري بومدين ب»شاربه الأشقر ونظرته الحزينة وابتسامته البعيدة«، مستغربا من ذلك المآل الذي آلت إليه الأمور لكن غير مستنكر، على الإطلاق، أن أرى العبقرية وهي تتحدى القدر وتتجه بصاحبها نحو وجهة لم تكن متوقعة أبدا. وبعد أن عاش نوعا من المنفى الداخلي وهو أكثر ضروب المنفى فتكا أسعف الحظ ياسمينة خضرة وجاءته تلك الجنية فطعّمته ملكة الكتابة بموهبة خارقة وقريحة لا تعرف الحدود. هكذا استطاع أن يجد الدواء الشافي لما كان يعانيه من ضجر؛ هذا العلاج الذي، كما يقول، يسمح له بمقاومة الاستنزاف الناجم عن خيبات الأمل. إنه يقترح، بطريقة تكاد تكون بريئة، على أمثاله من أبناء بلده الاستفادة من هذه التجربة. كما نجده يوصي بطريقة لا تخلو من الصدق مع قسط من البساطة بإتاحة الفرصة لتفتق العبقرية الجزائرية حيث يصرح: »هناك مثقفون جزائريون حقيقيون، مستنيرون وأصحاب تفكير حر، أي جزائريين واعيين لخصوصيات البلد وثرواته وما يزخر به من إمكانات. إنهم مثقفون بأتم معنى الكلمة وأنبلها«. مع هذا، فان التحفظ الذي يمكن أن يبديه المرء حول هذه المسألة لا يقلل في شيء من ذلك الإعجاب الذي قد يحس به تجاه الكاتب الذي يعلمنا كيف نتقي اليأس مادام المجد غير ممنوع على الجزائريين. لكن، لنعد ربما إلى ما هو أهم في هذا المقام، أي إلى الأعمال الأدبية لياسمينة خضرة لنتعرف على الكيفية التي يستوحي بها الموضوعات التي تتخلل رواياته. الأمر واضح، بدون لفّ أو دوران، إن العنف يشكل لب روايات ياسمينة خضرة. متطرقا إلى مسألة بطريقة بيداغوجية، نجده يعتدل ويقول: »إني لآخذ بيد المرء الغربي لأوصله إلى حيث بدأ سوء التفاهم... إلى أقرب نقطة من ذلك الإنسان الذي يقرر ذات يوم أن يفجر نفسه وسط أبرياء«. ويعتبر ياسمينة خضرة أنه قد أدى المهمة إذ يوضح »لن تكون هناك مواصلة لهذه الثلاثية المخصصة لسوء التفاهم بين الشرق والغرب«. لننظر الآن في تقنية الكتابة عند ياسمينة خضرة حيث نجد توهج الكلمة في تنافس مع جمالية النص المتقطعة المندفعة مثل السيل الملتهب بحسب الحالة النفسية السائدة والتي تسحر القارئ من بداية النص إلى نهايته فإذا أعاد قراءة الرواية مرات عديدة يكشف دائما حقيقة جديدة. أيحق لنا أن نلوم الكاتب على اهتمامه بموضوعات تشد اهتمام الغربيين عوض مواطنيه؟ إنه يرد على هذا اللوم ببرودة دم حيث يقول مدافعا عن موقفه: »لم أرد إعطاء اسم عربي للعنف لأنه ظاهرة إنسانية«. إننا لنرى كيف أن ياسمينة خضرة يحاول شاهرا سلاحه نكاد نقول الدفاع عن مواقفه بكل ما أوتي من قوة. ونجده ينجح في ذلك بامتياز حتى وإن اضطر في ذلك إلى استعمال عبارات قلّ نظيرها من حيث الحدة. إنه يرفض رفضا باتا تقديم أي تنازل لأي كان. لا لرسميي الجزائر الذين يتجاهلهم ولا للمتملّقين من أبناء جلدته ممن يقلدون آليا فرنسا »الأم الحنون« ولا المترددين على الصالونات الباريسية والذين يسمحون لأنفسهم بالحكم الجريء على الناس. مهما يكن، إن مصدر إلهامه ليس في السياسة وإنما خارج السياسة. لا نلمس لديه، على أية حال، أي طموح سياسي بحيث يصرح »الالتزام يحيل على النضال؛ وهذه فكرة أراها في تناقض تام مع فكري الحر«. إنه يدرك تماما حدود تأثيره، معتبرا أن »الكاتب إنما يقوم بما هو قادر عليه، وبعد صدور عمله على رفوف المكتبات، يبقى وحيدا ينتظر قدوم القراء صوبه«. كما يعتبر ألا حساب له يقدمه لأي كان ما عدا لجمهور القراء الذين مافتئوا يتهافتون على كتبه عبر العالم، مكرسين بذلك مكانته الأممية وما كان له، لولا ذلك الجمهور، أن يفرض نفسه في كل من فرنسا وبلده الأصلي. وإني، وبعد قراءتي لياسمينة خضرة ولقائي له، أستطيع أن أفهم الآن ما كان يقصده حينما قال في إحدى ردوده: »لقد صرت ما راودني الحلم به: أن أكون كاتبا«. لا ريب أنه اليوم من أسعد الناس! والآن، لنترك ياسمينة خضرة يتحدث... كلاما أكثر غزارة وحدة من أي وقت مضى، في حوار لاشك أن التاريخ سيسجله لما فيه من صدق وعنف في الكلمة. والدتي كانت تأخذ شظف الحياة بنوع من الفلسفة... هكذا تعلمت النظر إلى الوجود دائما بقسط من التجرد. * م. شفيق مصباح: لنبدأ، إن سمحت، بمسيرتك الأدبية. تؤكد أنك بدأت الكتابة وعمرك لا يتجاوز التسع سنوات: ترى، ما هو الأثر الذي كان للوسط العائلي في موهبتك الأدبية؟ - ياسمينة خضرة: صراحة لا أثر على الإطلاق! لم تكن عائلي مولعة بالكتاب، ولا أتذكر قط رؤية كتاب ببيتنا حينما كنت صغيرا. كان والدي عسكريا ولم تتعد قراءاته المقالات السياسية الصادرة على صفحات الجرائد. أما والدتي، فقد كانت أمية. الوحيد الذي كان مولعا بقراءة الروايات هو عمي إدريس الذي يعود له الفضل في تعودي على قراءة الروايات البوليسية. ومع ذلك، فقد كان هناك شيء متميز ما يحوم في ذلك الجو العائلي. كان أفراد عائلتي يتحدثون بنوع من الرقة بحيث غالبا ما كان اللوم عندهم يستند إلى أقوال مأثورة تفاديا لخدش المشاعر. كانوا يفضلون استعمال الاستعارة في تنبيه المخطئ عوض مواجهته بلهجة مباشرة. ذلك هو المكان الذي التقيت فيه الكلمة لأول مرة. والدتي، من جهتها، كانت تأخذ شظف الحياة بنوع من الفلسفة، إذ كانت تحسن المعاناة من دون تحميل مسؤولية هذه المعاناة لغيرها. هكذا تعلمت النظر إلى الوجود دائما بقسط من التجرد. وفي ما بعد، عندما بدأت الكتابة، مكنني هذا التجرد من أن أكون يقظا بحيث لا تكون ردّات فعلي بحسب حالات غضبي وإنما بحسب حالات غضب غيري. إني أحاول دائما أن أبقى على صحوتي، صبورا ومنتبها لما يدور من حولي. أليس في ذلك تجاوز للعواطف من أجل التمكين للحوار المثمر؟ * أراك تشير بنوع من الغبطة إلى انتمائك إلى نسب عائلي من الشعراء في مقدمتهم سيدي عبد الرحمان مولسهول الذي كان يشع بمعرفته على مدينة تلمسان: هل هذه الإشارة محض خيال أم هي حقيقة تاريخية؟. - لماذا تقول خيال؟ إن السؤال لغريب كما لو كان كل ما من شأنه تجاوز الصغائر عندنا يعتبر من صنع الأوهام. لقد طرح واسيني الأعرج عليّ نفس السؤال في ما يخص لقائي لهواري بومدين لمعرفة ما إذا كان اللقاء حقيقة أو خيالا. مَن مِن تلامذة مدرسة الأشبال بالقليعة لم يلتق هواري بومدين؟ لقد كان الرئيس يتابع باهتمام مسيرة مدرستنا التي كان يعتبرها مشتلة الجزائر ويعقد آمالا كبيرة على »أشبال الثورة«، يأتيهم في كل مرة زائرا ليتفقد أحوالهم حتى في مرافقهم ويراهم بل يرعاهم وهم يكبرون. نعم كثيرا ما كان يفاجئنا حتى في مراقدنا للحديث إلينا ولمعرفة رأينا في ما يخص نوعية التعليم الذي كنا نتلقاه. كما أنه لم يغب إلا نادرا عن كل احتفال بنهاية السنة الدراسية مشرفا، شخصيا، على توزيع الجوائز للمتفوقين. وقد أسعفني الحظ ذات يوم عندما فوجئت بوجودي أمامه أتبادل معه كلمات سريعة مكتشفا شاربه الأشقر ونظرته الحزينة وابتسامته البعيدة. لاشك أنه كان سيسعد لو تأتي له اليوم أن يرى ذلك الشبل، السيّئ الهندام والذي كان ينظم الشعر تحت سقف باحة المدرسة، وقد استطاع التقدم خطوات إلى الأمام. أعتقد أنه صار من الضروري التوقف عن رفض كل تلك القصص التي تغذي آمالنا. صحيح، إن مجرى حياتنا اليومية ليبعث على السخط لكنه ليس قدرا محتوما نظل نجتره. بل ربما إن إصرارنا على ألا نرى إلا ما يبعث على السخط هو الذي جعلنا لا نحس بمظاهر الجمال من حولنا. وفي تلك المآسي الحافل بها تاريخنا كشعب، كنا دائما نمر مرور الكرام على تلك اللحظات الكبرى منه دون أن نأخذ ما يكفي من الوقت للتأمل فيها. إن الجزائريين أهل جمال بالطبيعة وأهل كرم بالطبيعة، لكن خيبات آمالهم كانت دائما تشوه تصرفاتهم إلى درجة فقدانهم لهويتهم الأصلية. هكذا تجدهم يرتابون من كل ما لا يجعلهم يشكون في ذواتهم. إننا غالبا ما ننسى أن الشعب الجزائري كان دائما موجودا عبر مراحل التاريخ ورغم التقلبات الأيديولوجية التي عرفها. كما لم تستطع قوى الاحتلال الأجنبية المتلاحقة عبر التاريخ أن تغيّر طبيعتنا. لقد استطاعت هذه القوى أن تضرب الحصار علينا وتخضعنا وتحتقر إمكاناتنا فترة من الزمن، لكننا عرفنا، في كل مرة، كيف ننتصر لأنفسنا على هذه الأوضاع بفضل إصرارنا على أن نبقى على طبيعتنا. فلماذا، إذاً، يجب علينا اليوم أن نتقاعس ونحن قاب قوسين أو أدني من الوصول إلى تحقيق الذات بصورة نهائية، أي فرض أنفسنا كما نحن لا كما يريد غيرنا أن نكون؟ إن القبيلة التي أنتمي إليها تمثل، نوعا ما، قصة هذا التعلم الطويل لأصالة الذات، ولتلك المقاومة لحالة التعرية الثقافية الناجمة عن الإفلاس أو محاولات المسخ الثقافي. لقد أسعفني الحظ في معرفة تاريخ قومي بحيث أعرف من أنا ومن أين أتيت. إن آل »دوي مينية« لملحمة، يعرفهم بوعمامة كما يعرفهم أولاد سيدي الشيخ وتعرفهم إيزابيل إيبرهارتهIsabelle EBERHART ويعرفهم شارل فوكو Charles FOUCAUD ، لنا شعراؤنا ولنا مقاتلونا من أمثال ولد بلخير، الشاعر الفذ والمقاتل الصنديد وكذا ولد بوزيد الذي زرع الرعب في أوساط العدو وقتل جنرالا فرنسيا في العشرينيات بعد أن نصب له كمينا على الطريق المؤدية إلى تاغيت. من الأحسن للمرء أن يعرف تاريخ قومه وأهله فيتحسس بأنامله نبضات أصالته. ليس هناك أية أصالة يمكن أن تقاوم النسيان من دون ذاكرة. هذه الذاكرة الأدباء، الشعراء، الفنانون، العلماء هم الذين يبقون عليها حيّة. قبيلتي كان لها رجالاتها. إن محمد مولسهول، كان أول شيخ استطاع أن يجمع شمل القبائل التي ظلت إلى ذلك الحين متطاحنة من أجل أمور تافهة. في عهده، ابتداء من 1492، لم يقع تسجيل أي غارة. كما أن محمد مولسهول هذا قد أسس مدرسة كبرى سنة 1496 لكني لا أستطيع أن أقول لك أين بالضبط، ربما بإيغلي أو كرزاز، فالمخطوط القديم الذي اطلعت عليه لم يشر إلى المكان. أما سيدي عبد الرحمان مولسهول، فقد جاء في مرحلة متأخرة، أي نحو أواخر القرن السابع عشر. كان له أتباع بالصحراء لكنه لم يقم بتلمسان خلافا لما يوحي به سؤالك، غير أنه أقام بمدينة مكناس مدة طويلة. بعده جاء سيدي أحمد مولسهول، وكان علاّمة رحالة وصل إلى غاية تومبوكتو Tombouctou من أجل تعليم الناس. يوجد ضريحه بجبل الصياد تحديدا، في مكان يقع اليوم ما بين سبدو والغور جنوبي مدينة تلمسان. جدي المعروف بمولسهول مولسهول (أي لقبا وإسما) كان شاعرا هو كذلك غير أنه لم يكن يكتب. وعندما أهانه الجيش الفرنسي وقضى على حظوته بالقضاء على حلفائه وصار فقيرا لا أثر له في الناس، عاش كسائر الجزائريين يعاني شظف العيش والنكران إلى أن وافته المنية ذات يوم من سنة 1957. وكلما تم تقديمي كعسكري سابق سبب لي هذا التقديم تقليصا لساحة مناوراتي. * لنعد، إن سمحت، إلى تلك الفترة الشاقة التي ميّزت طفولتك وفتوتك في وسط عسكري كوسط مغلق بطبيعته. إن الحياة العسكرية، كما هو معروف، يطبعها الحرمان لكنها، في الوقت ذاته، توفر الفرصة لحياة جماعية تحتل فيها قيم التضامن والصحبة الصدارة على حساب القواعد المكتوبة وأنا أتحدث هنا عن دراية. هل أثرت هذه الحياة سلبا أم إيجابا على ملكتك الأدبية ومن ثمة على تفتق موهبتك في هذا المجال؟ - أود ألا أسهب في الإجابة على هذا السؤال. ليس من طبيعة الحياة العسكرية أن تشجع الفكر الحر. إن الفنون والآداب، بالنسبة إليها، هي من اهتمامات الإمّعات وذوي العاهات. لقد بنيت ذاتي بمفردي، كما أن حالة التهميش التي كنت أعانيها في صفوف الجيش جعلتني أبني عالمي الخاص بي وبمنأى عن فضول الناس. ولا أدل على ذلك من أن صيتي عندما بدأ يذاع في كل مكان، واصلت قيادتي العسكرية عدم اكتراثها بي وكأني لاشيء. الكتابة تبقى دائما فعلا يتم في كنف الوحدة وفي بعض الأحيان ضربا من ضروب المقاومة. وكلما تم تقديمي كعسكري سابق سبب لي هذا التقديم تقليصا لساحة مناوراتي. هناك المئات من القراء من قال لي إنه قبل اكتشافه لي صدفة لم يكن يفهم ما يمكن أن يفعله مجرد عسكري في حقل الأدب، وظلوا سنوات عديدة لا يحسون بالحاجة إلى قراءة ما أكتب رغم معرفتهم لي بحكم الشهرة ولم يتزعزع موقفهم مني إلا بفضل تناقل الأخبار إليهم من شخص إلى آخر. أعتقد أنه لولا هذه الإشارة إلى ماضي العسكري لكانت حظوتي أوسع. هذا الماضي الذي لا أتنكر له وأنا فخور به في بعض من جوانبه هو الذي يساعد خصومي على حجب عملي كروائي. لقد كنت قاب قوسين أو أدنى من الفوز بجائزة دولية شهيرة سنة 2006 لولا تدخل جهات أجنبية من الوسط الباريسي الذين قالوا من الأحسن الانتظار قليلا لأنني لم أكن، في نظرهم، »واضحا« بما فيه الكفاية فزرعوا الشك في الأذهان؛ مما جعل لجنة التحكيم تسقط اسمي من دون أي تردد. كل ذلك لألفت انتباهك إلى ما يمكن أن يؤدي إليه الماضي العسكري للمرء من اختصار وأفكار شائعة وتخاذل وسوء نية. منذ أيام فقط، اعترفت لي ناشرتي، السيدة راضية عابد، أنها كانت تظن أنني من الأمن العسكري. هل تستطيع تقدير مدى الهذيان السائد حاليا في البلاد؟ وعندما تتم الإشارة إلى ماضي العسكري، هناك من لا يهمه معرفة المكان الذي كنت فيه فعلا: هل في الوحدات القتالية، على الحدود، في الجبال، في الدبابات أو المروحيات، بين الجند، في المخابئ النتنة أو كنت مكتفيا بالعيش على حب الوطن والماء العذب كما يقال. إني لأتساءل لعل البعض يجدون متعة في وضعي في المكان الذي يفيدهم! ومع الوقت، يصبح الأمر مدعاة للسخرية تماما، لاسيما عندما لا يربط بعض الناس هويتي بما أكتب، أي بما أعتبره، حقيقة، حمضي النووي. هناك من يزعم أنه ممن يحسنون القراءة، لكن، ترى، لماذا سرعان ما يفقد هذه القدرة بمجرد تصفح كتبي؟ أليس في ذلك نوع من سوء النية الفكرية؟ أنا لا أغش وشفافيتي مثل شفافية كتبي. أنا قائم بذاتي، حر ونزيه، ولا أنتمي إلى أية عصبة أو شبكة أو فئة مهنية ما. كما أنني لا ألقى الدعم لا من بلدي ولا من حركة الفرنكوفونية التي لا تكن لي الود على أية حال ولا من أية جهة أخرى مهما كانت. أنا أسبح ضد التيار رغم أنفي، غير أنني أتقدم بخطى ثابتة على الرغم من مجافاة أهل الفكر الغربيين وأهلي لي. إني، كل سنة، أحقق تقدما. عند وصولي إلى فرنسا، كانت كتبي قد ترجمت إلى ما لا يقل عن عشرة بلدان. وبعد أربع سنوات من العزلة القاسية عشتها بفرنسا، ارتفع هذا العدد إلى 17 ليبلغ في السنة الأخيرة 24 ثم في هذه السنة إلى 30. لماذا؟ بكل بساطة، لأن هناك دائما عدالة في هذه الدنيا. لا نستطيع أن نحجب الشمس بغربال و»ما يبقى في الواد غير حجارو« كما يقول المثل الشعبي. شخص غيري ربما كان سيفقد صوابه. أما أنا فلا أُقهر وأظل صامدا، هادئا وواثقا من نفسي. وإذا كانت لديك رغبة في احترامي، فلا تربط أبدا صفتي كروائي بماضي العسكري كضابط. إن الأولى حدثت من تلقاء ذاتها فعانت الثانية منها أيّما معاناة. مؤسسة الفرنكوفونية لا تندرج في سياق تطلعات اللغة الفرنسية ولا في السعي لترقيتها... إنها تمقت العقول الحرة والمواهب الأصيلة. * من المعلوم أنك واجهت صعوبات جمة عند مغادرتك للجيش. فمن جهة، الأوساط الأدبية الفرنسية الخاضعة لقوى المال التي نعرف علاقاتها جيدا أبدت نحوك رفضا شبه مطلق للاعتراف لك بصفة الكاتب؛ ومن جهة ثانية، كادت بعض الدوائر السياسية أن تفرض عليك التوبة بسبب انتمائك السابق إلى صفوف الجيش الجزائري. كيف استطعت أن تتغلب على هذه العراقيل؟ وهل ترك ذلك أثارا في نفسك وفي نظرتك إلى العالم بطبيعة الحال؟ - بفضل إصراري على البقاء كما أنا، أي ذلك الجزائري الذي أحب. إن الأوساط الأدبية لا تنكر عليّ صفة الكاتب وإنما تلومني لأنني عسكري سابق. كما ترى، إنها طريقة ذكية وفعالة في جعلي شخصا لئيما وتجعلهم، هم، ضميرا يحكم. في الواقع، هذه الأوساط هي التي تعشش فيها العنصرية الحقيقية. بالنسبة إليّ، لوبان Le Pen ليس شخصا عنصريا وكل ما في الأمر أنه يكره الأجانب كرها شديدا. أما العنصري، فهو غير مضطر إلى كره الأجانب إذ يكفيه أن يشعر بتفوقه عليهم ولا يجد حرجا في أن يكون في متناول بصقاته من يعتقد أنه أدنى منه شأنا. هناك مفكرون من البيض مقتنعون أن الفنون والآداب لا تليق إلا بمقامهم دون غيرهم. ولما كانوا نرجسيين، تجدهم يرفضون النظر إلى أبعد من أنوفهم. وعندما يقال لهم إن العالم لا يتوقف عند حدودهم، تثور حفيظتهم. بالنسبة إليهم، كل شعرائنا وعلمائنا ما هم إلا للتسلية وللإمتاع الفولكلوري. في جامعة السوربون، مثلا، لا تدرس أعمالنا بصفتنا كُتَّابا، وإنما كمجرد فضوليات. وغالبا ما يقع التناول، على قدم المساواة، لنص لكاتب ياسين ونص آخر لشخص مصاب بالانطواء (autiste). بالنسبة إليهم، يتعلق الأمر بنفس الشيء. ألا تلاحظ أنهم كل مرة يدعوننا فيها إلى الحديث عن كتبنا يسألوننا ما إذا لم تكن الكتابة عندنا في سبيل العلاج. كل ذلك للإشارة إلى أننا بالنسبة إليهم مجرد حالات مرضية تثير الشفقة. إنهم مقتنعون أن العبقرية عندنا لا تأتي إلا من باب الشعوذة، أي من وحي الجن. ذلك هو ما يراه فينا أصلا هؤلاء أصحاب المؤخرات الملمَّعة. وإذا وقع وأن كتب أحدنا كتابا ذا قيمة ألْفَيْتَهم يندهشون له من دون أن يعجبوا به أبدا. أكيد أنهم يشكون في أننا محتالون وأننا سرقنا من عبقريتهم، وإذا أصررنا على أصالة أعمالنا سألونا إن لم نكن، في الواقع، فرنسيين. من يدري؟ لعل مائة واثنين وثلاثين سنة من الاحتلال نتج عنها قسط من التهجين. وإذا تجرأ »بونيول« bougnoule ، لاسيما عسكري سابق مثلي، على شق عصى الطاعة إذ صارت أعماله أكثر ترجمة وصار هو أكبر شهرة منهم سارعوا إلى إقامة المشنقة له. لنعد لحظة إلى حركة الفرنكوفونية مثلا. هذه المؤسسة لا تندرج في سياق تطلعات اللغة الفرنسية ولا في السعي لترقيتها وإنما في سياق مواصلة فرض الهيمنة والوصاية على الشعوب المستعمَرة سابقا. إنها تمقت العقول الحرة والمواهب الأصيلة. يكفيك، للتأكد من ذلك، أن تلقي نظرة سريعة على حال أتباعها كيف هم اليوم. إن حالهم لأسوأ. وما يحز في النفس فعلا هو سذاجتنا والطريقة التي نتصرف بها إزاء هذه الحركة بحيث لا ندرك أبدا الرهانات التي تراهن عليها والطرق الملتوية التي تستعملها. فإذا انطلت الحيلة على بعض من مثقفينا فلا حول لهم ولا قوة، ومن حسن الحظ أن هناك العديد من كتابنا وفنانينا من يقاوم الإغراءات محاولين بناء عالمهم الخاص بحسب الإمكانات المتاحة لهم. لقد التقيت الكثير من هذا الصنف من مثقفينا وأعجبت بشجاعتهم ويقظتهم. غير أن الإقصاء مفنٍ بحيث تجدهم يتساءلون إلى متى وهم يقاومون ويشعرون أنهم خُدِعُوا من طرف النظام الظلامي الذي يعيث في الجزائر فسادا. إن حكامنا، هؤلاء الحمير المبردعة، هؤلاء المافيا، يمقتون مقتا شديدا كل ما له صلة بالضمير والذكاء ويشعرون بالخطر الداهم كلما برزت موهبة. لذلك تجدهم يسارعون إلى تكميم الأفواه كلما سمعوا أصواتا مؤذنة بنهايتهم. إنهم يدفعون إلى المنفى من استطاع إليه سبيلا ويبقون على غيرهم على هامش الوجود. هذا هو السبب الذي جعل بعض مثقفينا يبيعون ذممهم إلى من يمنح أكثر من أجل أن يبول هذا الأخير علينا جميعا. لو كانت السلطة واعية وأعلم أن ذلك من المحال لارتقت إلى مستوى نخبتها ولسارعت هذه الأخيرة إلى الإسهام في إخراج البلاد من أزمتها. في ما يخصني، أدرك هذا الضعف وكنت، منذ البداية، واضحا مع نفسي: لن أتنكّر أبدا لأي جانب من جوانب أصالتي كجزائري. ولأنني أرفض التلاعب بي، يسعى البعض لتشويه صورتي. كما تعلم ربما، فإن البرلمان الدولي للكُتَّاب هو الذي كفلني وأسرتي في سبتمبر 2000 وأرسلني إلى المكسيك وتعهد بالتكفل بي مدة سنتين ريثما أسوّي وضعيتي. لكن هل تتصور أنه غداة وقوفي ضد الحملة الإعلامية التي كانت تُشنّ آنذاك ضد الجيش الجزائري، قام هذا البرلمان المزعوم بقطع سبل العيش عليّ على التوّ فوجدت نفسي هائما بفرنسا من دون فلس وبصحبتي زوجة وثلاثة أطفال على كاهلي. أليس ذلك من أسوإ أنواع الغدر؟ لقد ذهب البرلمان المذكور إلى حد مطالبة ناشري الإيطالي، Feltrinelli، بالتوقف عن أية ترجمة لأعمالي، وهو ما أذعن له. لعله اليوم نادم على فعلته! إن الجزائريين يجهلون كل تلك المعاناة القاسية التي عشتها بسبب تمسكي بشرفي كجزائري. في 2002، وبينما كنت أروج لروايتي "Les Hirondelles de Kaboul" بمكتبة La fnac في مونبيليي Montpellier، حضرت منظمة العفو الدولية بلافتات مشينة للتشويش على تدخلي. لقد كُتب على إحدى تلك اللافتات »لا تنس! إن الجيش الجزائري أياديه ملطخة بالدماء«. بل لقد بلغ بهم الأمر حد توزيع قصيدة شعرية، بالقاعة، تهجوني وكانت قصيدة كتبها جزائري طبعا؛ علما أنني لم أتواجد هناك أمام الجمهور إلا من أجل الحديث عن الرواية. لكن لم يشفع لي ذلك ولم يجرؤ أحد على الوقوف ضد ما كان يحدث ويقول للمتهجمين »كفى!« فحتى السلطة الجزائرية، التي كانت على علم بحالتي، فضلت تركي فريسة لأعدائي ظانة أن موعد نهايتي قد حان. وماذا عن إخوتي الجزائريين؟ لقد كانوا في غاية السرور وهم يشاهدون صلبي أمام الملإ. لم أر هناك أي كاتب أو فنان أو ممثل قام ليصرخ »كفى!«. أسوأ من ذلك، كان هناك، لاسيما بفرنسا وحتى بألمانيا، من بذل الجهد ليسهم في عزلتي ولعني. غير أن النتيجة هي ماثلة أمامنا اليوم: إنني دائما موجود، أكثر إبداعا من أي وقت مضى ولم تمنعني نذالة البعض وخذلان قومي من النصر في نهاية المطاف. إنني هاهنا دائما صامدا بكل شرف. لم أغتب سواي ولم أتحامل على أي شخص. بالعكس، كثيرا ما دافعت عن مواهب أكيدة لكن أصحابها كثيرا ما كانوا من النوع الرخيص. وبعد انقشاع الظلمة، بدأ الناس يفيقون ويتساءلون ويريدون أن يكوِّنوا لأنفسهم فكرتهم الخاصة عنّي. حينئذ، توقفوا عن تصديق الإشاعات والافتراءات ليكتشفوا حقيقة ذلك الكاتب المكروه والشخص الملعون فأدركوا أنهم أخطأوا التقدير وعملوا على تصحيحه فلم يبق من الظلم الذي عانيته في السابق إلا آثاره وإن كانت دائمة. بطبيعة الحال، المعركة تظل مستمرة مادام هناك بعض جيوب المقاومة حتى وإن كان الناس جميعا على علم بالسبب الذي جعل البعض لا يواصلون عنادهم إلا شماتة لأنهم يدركون ألا وزن لهم فتجدهم يقللون من شأن الأمور. أما في ما يخصني، فأنا على أحسن ما يرام ولي قراء يشجعونني ونقاد يؤيدونني. تلك هي الحياة، ينبغي أن يكون فيها من كل شيء نصيب كي يكون العالم عالما: فيه مخلوقات طيبة وأخرى قذرة، فيه ناس منهم المنصف ومنهم الجائر، منهم العملاق ومنهم القزم، فيهم جزائريون رائعون وآخرون دنيئون. أنا أعرف ملّتي وأعرف من هو من أهلي. »إنك لترى في بعض الناس الصورة لجرحهم المقيَّح وإذا حاولت إبراءهم من جرحهم شوهت خلقتهم«. * لنترك جانبا، إن سمحت، هذه الاعتبارات التي كان لها أثر متفاوت في مسيرتك الأدبية. هل تعتقد أن المرء يصبح كاتبا بحكم خيار مدروس مسبقا أم بحكم ملكة فطرية؟ - إنه تحدٍّ في الواقع. هذا التحدي واجهته وأنا صغير لرفض القدر الذي كان من نصيبي. اليوم، أنا أدعي هذا القدر بصوت عال. قد أقول للجزائريين الذين هم في مثل وضعي إنهم لو وثقوا في أنفسهم بكل قوة لأجبروا الشك على الركوع. ترى، من كان يراهن عليّ كثيرا عندما بدأت مغامرة الكتابة؟ لا أحد. لا رفاقي في الوحدة العسكرية ولا أقاربي. لقد كنت، في نظر الجميع، ذلك الأبله الذي فضل الضرب كالمجنون على آلته القديمة عوض أن يذهب للتمتع بنسيم البحر العليل. بل إن هناك من كان يشفق عليّ. وفي الجيش، كان البعض من زملائي يتضاحكون عليّ كما شاءوا. أتذكر جيدا أنه غداة إعلان Bernard Pivot، في سبتمبر 2000، نهاية برنامجه الشهير "Bouillon de culture"، كان الكثير في نادي الضباط يضحكون في وجهي. وقد قال لي البعض منهم: »للأسف، كنّا نود أن نراك ضيفا في حصة بيفو« وكانوا يسخرون منّي في حضرتي وظللت أواجههم بابتسامة. ثم، أربعة شهور من بعد، طلعت عليهم فعلا ضيفا لبرنارد بيفو. أتصور أنني غلقت لهم الأفواه ولعلهم لم يصدقوا بعد ما وقع. * ما رأيك في فكرة المثقف الملتزم؟ هل تصلح في تصوير واقع المثقف في العالم العربي على العموم وفي الجزائر على وجه الخصوص؟ - أعتقد أن جنس المثقفين هو في طريق الانقراض. لا أحد يريدهم. القنوات التلفزيونية تفضل قطعانها هي، أي متشدقين أميّين لكن متحمسين لأداء الوظيفة من دون حياء. القنوات الإذاعية تفضل تقديم قواربها لإنقاذ ذوي العاهات. كما تكتفي الصحف بتبادل الفضل والمجاملات. أما المثقفون الحقيقيون، فيعتبرون أشخاصا غير مرغوب فيهم. إن العالم لم يعد في حاجة إلى الذكاء وصار عالما للهو والصخب. ما نراه اليوم تحت الأضواء لا يتعدى مجرد ركام من الحمقى والبهلوانيين. فحتى الدوائر الفكرية التي اعتدنا احترامها بدأت لا تعير الاهتمام إلا للمفترين وذوي العقول الفاشلة. هكذا يمكن أن يستمر الغموض المنشود ليتجه العالم مباشرة نحو الحائط. أرى في الأمر شكلا من أشكال ضعف الشيخوخة. البشرية هي اليوم بصدد فقدان صوابها، فلم تعد ترى بوضوح وفتنتها الأوهام البراقة حتى صارت تهذي. ومع ذلك، فإذا كان الغرب حريصا على فرض مشعوذيه على حساب ذوي العقول النيّرة، فإن الشرق يقتل مثقفيه بطريقة أو بأخرى. في هذه المعركة، سنكون الخاسرين مرة أخرى. عندما تسمح عائلتنا المثقفة لنفسها بالسحب نحو الأسفل ما كان من المفروض أن يرقى بها إلى مستوى احترام الآخرين، فمعنى ذلك أنها لا ترضى العيش إلا بالقرب من المستنقع أكتفي بذلك كي لا أتجاوز حدود الأدب. يمكننا أن نعالج بعض الاتجاهات لكن ليس كل الاتجاهات للأسف. أوردت في كتابي »L'imposture des mots« هذه العبارة: »إنك لترى في بعض الناس الصورة لجرحهم المقيَّح وإذا حاولت إبراءهم من جرحهم شوهت خلقتهم". لذلك أقول إنه من الواجب احترام انتظام الأشياء وطبائع المخلوقات. من الواضح أن العقول المعوجّة عندما تتحجّر تأبي الإصلاح وإلا انكسرت. ربما، سيأتي يوم تهب فيه ريح تنفض الغبار من على عقليتنا البالية فنستطيع إدراك كم كانت هذه الأخيرة السبب الرئيسي في ضياعنا. حينئذ، سنرتقي، في آخر هبة لنا، إلى مستوى النضج المطلوب. إلى حد الآن، لازلنا نتلهّى بأوضاعنا الحقيرة، ربما من دون أن نستطيع فعل شيء غير هذا التلهي. ثم إننا إذا كنا راضين عن هذه الأوضاع فلِمَ تبديلها؟ الأغبياء فقط لا يريدون تغيير آرائهم، وهذا الغباء يبدو، اليوم، أنه يواتينا تماما. إني لأتأسف، فقط، على كون الكثير من الجزائريين يحاولون الخروج من هذا الوضع لكن من دون التوفر على ما تستدعيه مثل هذه الإرادة الخيّرة من إمكانات. إنهم رهائن للرداءة السائدة في مجتمعنا وهم يعانون هذه الرداءة مرتين، أكثر ممن هم راضون بها. * أنت تؤكد أن »الكاتب يستطيع تغيير الكثير من الأشياء. مثلا في ما يخص تقدير وضع ما أو بروز الوعي عند الشعب«. هذه صيغة لطيفة للدلالة على أن الروائي قادر على التأثير في المجتمع. أليس كذلك؟ - ديننا يقول "إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم". الله ذاته يفضل أن يأتي التغيير من الناس أنفسهم. الكاتب لا يفرض أي شيء ولا يقرر أي شيء. إنه يتفاعل مع سوء الأوضاع ويقترح مقاربة شخصية للتعامل معها. البعض يتبنّاها بينما يرفضها البعض الآخر. لست متأكدا من أن هناك التزاما مبرمجا من هذا القبيل. إن الناس يقصدون الوجهة التي يظنون أنها محل الحقيقة. إنه موقف عقلاني مدروس ويخضع لخيار نابع من قناعة. في بعض الأحيان، يمكن أن يؤدي صدق قناعة ما مشفوعة بحاجة مخلصة إلى التحرر بمفكر، فيلسوف، أو روائي ما إلى تعبئة جماهير واسعة للالتفاف حول مثل معيّن. لكن حينما تغيب القناعة وتكون الانشغالات منصبة على أمور أخرى، ويصيب الهوان القلوب والعقول لا يبقى هناك أي ما من شأنه إحداث المعجزة. كي يستطيع المرء ينبغي أن يريد أولا. الكاتب يقوم بما هو قادر عليه، وبعد صدور عمله على رفوف المكتبات، يبقى وحيدا ينتظر قدوم القراء صوبه. * بحكم تجربتك الخاصة، هل تستطيع أن تتصور عملا أدبيا مجردا من المادة السياسية؟ أيمكن لعمل فكري أن يبقى دون صلة له بالواقع المعيش من طرف المجتمع؟. - إن الخيال هو بمثابة العلاج للواقع. إنه جمالية الأشياء المبتذلة، وربما خلاصها. عندما يتناول الخيال مجتمعا أو سياسة ما، فإنه يجعل منه أو منها محل اهتمام متصل. يتميز الخيال بذلك السحر الذي يمكنه من الوقوف وراء المرآة كي يتسنى له، كما يشاء وبذكاء، ملاحظة ما يقع على وجه المرآة. موقف من هذا القبيل يجعل الخيال غير محمي من خطر التلطخ. هكذا يصير أداة للتفكير فيضع نفسه عرضة للخطر. بطبيعة الحال، يمكن للخيال، في هذه الحالة، أن يذوب في الموضوع الذي يتناوله ويصبح موقفا سياسيا. لذلك تجدني حريصا على ألا أقع في مثل هذا الفخ، مؤكدا في كل مرة أنني روائي لا مناصر لهذه السياسة أو تلك. إني أختبئ وراء أشخاص رواياتي تاركا لها الحرية في سرد قصصها، بفضل التجرد الذي سبق ذكره. هذا بالذات ما حدث مع ثلاثيتي في"le malentendu des malentendants" . بهذه الصيغة، يبقى القارئ هو وحده الحكم. إني أضع في متناوله أكبر عدد ممكن من العناصر كي يتمكن من تكوين فكرة خاصة به ويكون حرا في اتخاذ القرار الذي يراه مناسبا. أظن أن الاهتمام الذي تحظى به أعمالي نابع من هنا. رواياتي تتحدث عن الأخبار لكنها تتفادى الشهادات وتبقى أعمالا أدبية محضة متميزة بخصوصيتها من حيث الأسلوب، الكتابة، الإيقاع، والجو العام. غالبا ما يحدثني قراء رواياتي، بصفة خاصة، عن اللغة التي أستعملها، صحة الأشخاص التي أعتمدها وصدق ما أقول. إنهم يكتشفون في رواياتي عالما لم يعرفوه فيتعلقون به. وخلافا لما يذهب إليه بعض إخواني ممن يظنون أنهم قادرون على الحط من شأن أعمالي بوضعها في سياق ما يسمونه ب»كتابة الاستعجال« (وهذه ميزة أخرى من ميزات المصابين بعقدة نفسية) فإن رواياتي تحمل روحا، وجدانا، ومخيلة من نوع خاص. هذا ما يفسر تلك الحظوة التي كانت من نصيبها باليابان كما بالهند، إفريقيا، البلدان الأسكندينافية، الأمريكيتين، وأوربا الشرقية. لعل البعض يرى في ذلك ضربا من جنون العظمة. لكن الواقع غير ذلك تماما ومن كذّب فما عليه إلا اللجوء إلى الانترنيت حيث يكفي الباحث أن يفتح شبكة Google ويبحث عن الاسم ليجد، في لمح البصر، كل المواقع التي تتحدث عن أعمالي. وإذا شاء، سيجد في متناوله بعض المواقع المعادية، صهيونية وعربية، التي تمطرني بوابل رائع من الرصاص فيه ما قد يشفي غليل إخواني الذين أحبهم وهم لا يحبونني. كلا، أنا لست مصابا بجنون العظمة وكل ما في الأمر أني صادق في ما أقول. إني أتحدث عن نفسي كما أتحدث عن أجنبي، من دون انفعال ولا تواضع زائف. لا أترك أبدا شخصا آخر يتحدث باسمي وأرد صراحة على البعض من أبناء وطني المحبوبين ممن يسمحون لأنفسهم كما يشاءون بترتيب أعمال غيرهم والحكم على موهبة ما من حيث جودتها أو عدمها. إنني، بمعنى ما، أحاول أن أنقذهم وأذكرهم بأنفسهم وأدعوهم إلى عدم الثقة فوق اللزوم في ما يهذون به وأجعلهم يدركون أن مخاطبيهم ليسوا أغبياء بالضرورة. إن الناس الذين يقرأون لنا غالبا ما يكونون أكثر منا ذكاء وفطنة. لنتعلم، إذاً، الانتباه إلى ما نقول ونصدر من أحكام ونتبنى من أطروحات نقدمها أحيانا على أنها أبحاث، وهي في الواقع عبارة عن نافثات لهب ورصاص قاتل. وبما أنني رجل صريح، فإني أدعو، بإلحاح، هؤلاء الحساد إلى كتابة روايات رائعة تبعث فينا البهجة. من السهل على المرء أن ينتقد، لكن ألا يحسن بالمنتقد أن يحاول الإتيان بما هو أجمل؟ هيّا، تشجعوا، بيّنوا لنا مدى عبقريتكم. إني أقسم أمام الله وأمام جميع الجزائريين أنني سأكون أول من يدافع في سبيل هؤلاء وسأبذل قصارى جهدي، أينما كانت لي حظوة ولو ضئيلة، لمساعدتهم من أجل أن يشعوا علينا حتى ولو تفوقوا عليّ وخطفوا مني حظوتي إلى الأبد. هناك مثقفون جزائريون حقيقيون، مستنيرون وأصحاب تفكير حر. إنهم مثقفون بأتم معنى الكلمة وأنبلها. * ألا تعتقد أن النخبة الجزائرية، وبصرف النظر عن مختلف الإكراهات المفروضة من طرف النظام، هي اليوم في حالة انسحاب من الحلبة بعدما رفضت أداء دورها كقوة موجِّهة للمجتمع؟ - لاتزال الجزائر محتلة من الناحية الذهنية. إنها لا تستطيع التخلص من التأثيرات الخارجية. المعربون لهم قبلتهم المتمثلة في التيار البعثي والأصولية الآسيوية، ويتصرفون كما لو كانوا حرّاس المعبد والواقع أنهم لا يحرسون أي شيء. إنهم يرفضون جزأرة هويتهم حتى يفكروا كجزائريين، مواصلين اعتبار العروبة على أنها جوهر الأمة، متناسين أمازيغيتنا، وعناصرنا المحلية بما في ذلك لغتنا الدارجة. إن عمهاً من هذا القبيل لا يسمح لنا برؤية ما يحيط بنا من جميل. أما المفرنسون، فتنتظم حياتهم على الإيقاعات الباريسية. إنهم يعيشون على محاكاة تلك المؤخرات الملمَّعة هناك، ويتبنون أطروحاتهم ويخرجون ألسنتهم كلما برز مغفَّل هنا أو هناك. هل الجزائريون غير قادرين على أن يعيشوا من دون أسياد؟ ومع ذلك، هناك مثقفون جزائريون حقيقيون، مستنيرون وأصحاب تفكير حر، أي جزائريين واعين لخصوصيات البلد وثرواته وما يزخر به من إمكانات. إنهم مثقفون بأتم معنى الكلمة وأنبلها، وقد التقيتهم في أماكن شتى، واجدا لديهم ما انبهرت به وما يجعلني أطمئن للمستقبل. إنهم جامعيون، باحثون، أصحاب علم ومعرفة، فنانون، لكنهم مبعَدون من حلبة النقاش. هؤلاء الجزائريون لا نراهم أبدا على شاشة التلفزيون ولا يُستشارون في أمر ما أو، على الأقل، يعترف لهم بوصفهم كذلك. في الجزائر، النقاش متروك للمتشدقين وأصحاب الرؤيا، للمتملقين والتافهين. السراي لا يريد إلا دوام المُلك، والمُلك لا يفضل إلا دوام السراي. أما المواهب الحقيقية، فتظل محجوبة والإمكانات الفعلية مكمَّمة. المثقفون النادرون الذين يجرؤون على رفض هذا الواقع ويبدون سخطهم بشأنه سرعان ما يتم تسجيل أسمائهم في قائمة النسيان فلا نعود نرى لهم أثرا. أما غيرهم ممن تقام لهم المنابر وتسلط عليهم الأضواء، فإنما هم هناك ليبيّنوا للعالم كم كانت تضحيات شهدائنا من أجل لا شيء وما قدمناه من نفس ونفيس سدًى وكم كانت آمالنا وتطلعاتنا مجرد أضغاث أحلام. ومع ذلك، يكفي أن يبعدهم المرء بضعة سنتيمترات عن مراكزهم لكي يتيهوا فلا ترى لهم رسما خارج هذه الجزائر البائسة. إنهم مجرد أشباح أشبه ما تكون بالأخيلة الصينية، ومجرد طفيليين. السؤال الحقيقي الواجب طرحه في هذا الصدد هو كالآتي: ما الذي يمنعنا من أن نفرض وجودنا؟ نحن أصحاب شأن، ولنا حجج قوية، ونؤمن أن لنا واجبات، ولنا ما يكفي من الشجاعة. ربما ينقصنا أمر أساسي: ألا وهو الإرادة. من حين إلى آخر، ألتقي البعض من مثقفينا، ألمس لديهم، بكل وضوح، قوة كامنة تكاد تنفجر. أنا أفهم أنهم أشبه ما يكونون بالسنتور centaure، الحيوان الأسطوري، أو بتلك الآلهة في أساطير الأولين أو هم أقرب إلى رايات حرب منكسة. هذه المخلوقات الرائعة قادرة على أن تجعل من الجزائر بلد الأحلام. أنا أعرف ذلك وقرأته في عيونهم. لهم أرواح سامية وقلوب نبيلة، إلا أنهم معزولون على كثرة عددهم، مشتتون بفعل أخطائنا وفقداننا للصواب، متروكون على الهامش بسبب ما حل بنا من عمهٍ. ومع ذلك، يكفي أن نقوم بأشياء بسيطة لجعلهم سعداء ونحن جميعا سعداء معهم. يكفي أن ننتبه إلى الأمر فقط. * لنفترض أنك تشعر بالالتزام إزاء خدمة وطنك، هل تعتبر أن حرفة الكاتب كفيلة، بمفردها، بتمكينك من أداء هذا الواجب؟ - لا معنى لذلك تماما. إني أحب بلدي، مثل أي جزائري يحترم نفسه، ولا أبيعه بثمن بخس وأدافع عنه كلما كان أهلا للدفاع عنه. أنا لست في خدمة وطني، وهذا الوطن لم يعترف بي أبدا. إني في خدمة الفكرة التي أحملها في ذهني عن هذا الوطن وكذا في خدمة قرائي سواء كانوا فرنسيين، فنلنديين، أندونيسيين، أو من سكان المريخ، أو كانوا سودا أو بيضا، صُفرا أو حُمرا. هؤلاء هم عائلتي الحقيقية وهو الذين يعطون معنى لحياتي ككاتب. إنهم هم الذين يشجعونني ويدعونني إلى الثقة في الجزائر والجزائريين، وفي ثلوج تيكجدة وقمم الأتاكور، وفي عروق تين أغرهور، وفي أطفال بلادي ونسائه، وفي كل ما يجعلني أحلم. إن واجبي الحقيقي هو أن أكون أهلا لشرف قراءة كتبي وللثقة الموضوعة في من خلال التأييد الذي أحظى به. من دون قرائي، لست إلا مناجيا يغمره الصمت وظلام الليل، ومجرد شكوى تطلق في صحاري صروف الدهر. * كيف يبدو لك، باختصار، المشهد الأدبي في الجزائر؟ هل نحن بصدد مشاهدة بعث للأدب في بلادنا أم تداع له؟ - لا أدري! هناك كتاب جيّدون قرأت لهم وتمتعت بالقراءة لهم. الموهبة موجودة لا الإستراتيجية التي ترافقها. أعتقد أن الناشرين ووسائل الإعلام مطالبون بالتحرك بعض الشيء. لكن هل يريدون ذلك فعلا؟ أشك في الأمر. كل ما يمكن أن أقوله لكتابنا هو أن يصمدوا. سيأتي يوم يستطيعون فيه تحقيق مكان لهم تحت ضياء الشمس ويشعون علينا. وإذا كان في الأمر حثّ لهم، سأضرب لهم مثلا بحالتي: كنت قد نشرت ثماني روايات في الجزائر من دون أن أحرك ولو شعرة. أنا لا أطلب من هؤلاء الكتاب أن ينتظروا ريثما ينشرون ثماني روايات وإنما أقول لهم خذوا الوقت الكافي عندما تكونون بصدد كتابة رواية ترفعكم إلى السماء. أدرك أن التفكير صعب في بلد منكوب ثقافيا. لقد مررت من هنا. لكن لا خيار آخر لهم وما عليهم إلا أن يحذروا من تشويه الأوضاع السائدة لإلهاماتهم. أؤكد لك أنني انبهرت ببعض الأقلام من طراز بن فضيل، ماتي، غرين، العياشي، أيت سيدهم، أيوب وغيرهم &