صدر الأسبوع الماضي قاموس "معجم العامية الدزيرية بلسان جزائري مبين" (422 ص)، للزميل الكاتب الصحفي مهدي براشد، عن دار فيسيرا. الكتاب يستنطق تفاصيل الحياة العاصمية في العهد الاستعماري وقبله، ويرصد التحولات الاجتماعية والثقافية التي مست المدينة عن طريق النحت اللغوي الذي يعكسه اللسان، "الأثر" التقى "براشد" في هذه الدردشة التي نشير إلى تضمنها الكثير من الألفاظ العامية التي فرضها نوع النقاش وموضوع الكتاب. من يعرف "مهدي براشد" في الصحافة الوطنية، يعرف جيدا تعلقه وتمكنه الكبير في اللغة العربية، لماذا أول عمل موثق لك يأتي حول العامية "العاصمية"؟ سنة 1985 دخلت معهد اللغة والأدب العربي، ودخلته بقناعة، ليس لأن المعدل لم يأهلني لاختيار آخر، وما لاحظته آنذاك، أن جل من سبقوني أو كانوا في دفعتي من المناطق الداخلية، ينظرون إلى شخص منحدر من القصبة أو باب الوادي "عاصمي" باستغراب، لأنه في فكرهم -المأخوذ من الخطاب الرسمي-العاصمة فرنكوفونية وأبناؤها لا يعرفون العربية، رغم أن الكثير من الأساتذة والكتاب وأعلام اللغة في الجزائر إما ولدوا في العاصمة أو بزغ نجمهم بها، ابن شنب، سيدي عبد الرحمان الجيلالي.. وغيرهما. هذا الواقع الذي اصطدمت به جعلني دائما أتساءل هل فعلا العاصمة فرنكوفونية؟ دائما أتذكر صغري عندما كان المعلم يصحح ألسنتنا، وفي الحقيقة كان يرجعنا إلى اللسان الذي لقن به لغتنا في المنزل، مثلا لا تقل "ممسحة" وقل "طلاسة"، هذه اللفظة كانت والدتي تستعملها وأنا في عمر الثلاث سنوات "يا طفل بلاك اطلس حوايجك"، والكثير من الألفاظ والمصطلحات المشابهة. هل تريد القول إن كل تلك الحميمية التي تجمعك باللغة العربية مصدرها العامية؟ نعم، دون شك، أنا أحببت اللغة العربية لأنها كانت لغة الأم. منذ زمن ونحن نعتقد أن الكثير من الألفاظ ليست عربية، وهذا غير صحيح، فألفاظ ك "قردون" أو "طابونة"... هي عربية صرفة. تقول في مقدمة قاموسك، إن الخطاب الرسمي هو الذي رسخ الاعتقاد السائد بأن "لسان العاصمة مفرنس"، كيف ذلك؟ أولا الأمر غريب، لأن السلطة بعد الاستقلال أرادت أن تعرب لسانا معربا أصلا. (أقاطعه) ربما السلطة أرادت تعريب المدرسة أو المناهج وليس اللسان؟ ماذا يعني تعريب المدرسة؟ هذا الطفل الذي يدخل إلى المدرسة هل يدخل بلسان غير عربي! المشكلة في عملية التعريب أنها تمت باستبدال العامية الجزائرية، التي هي عبارة عن قاموس عربي تكسر فيه البنية الصرفية والنحوية، بعامية أخرى إما من مصر أو من سوريا وأقل منهما فلسطين. هل أضر الاحتكاك بالشرق بلغتنا العربية؟ نعم، أولا نحن المغاربة وعينا باللغة العربية أحسن من وعي المشارقة بها. وثانيا قاموسنا اللغوي ننحته من قاموس لسان العرب لابن منظور، وهذا الرجل إفريقي وليس مشرقيا. لم أته كثيرا، التكنولوجيا الحديثة ساعدتني، فلسان العرب موجود إلكترونيا اليوم، ولو كان ابن شنب في زمننا هذا، لاعتمد عليها، ولما كان أخطأ في الكثير من الألفاظ التي ينسبها إلى الفارسية أو التركية رغم أنها عربية. تتهم العلامة ابن شنب، الذي سبق زمانه في النحت اللغوي ومعانيه، بالقصور، وأنت اعتمدت عليه بشكل واضح في عملك؟ لا ليس قصورا، ولكن أن تقول "طابونة" كلمة تركية في حين أنها عربية من "طبن الخبز" أي وضعه في موقد تحت الجمر، فهذا يعني وجود خطأ، لكن مع هذا يبقى ابن شنب مرجعا هاما، فقلائل هم الذين يخصصون رسالة كاملة لشرح لفظة، فعندما نذهب إلى المجلة الإفريقية، وهي مجلة رائعة جدا، الجزائريون لم يستفيدوا منها جيدا بعد، لأنها تعرضت إلى كل النواحي الثقافية والاجتماعية التي تخصنا سواء أثناء الاستعمار أو قبله- قلت خصص رسالة كاملة لكلمة "شاش"، لكنه ككل باحث معرض لعدم الإصابة أحيانا. لنعد إلى مسألة الخطاب الرسمي واللسان العاصمي المفرنس؟ نعم، صفة "مفرنس" لم تكن صفة للتدليل على لسان المدينة وإنما كانت مغلفة باتهام، فبعد الاستقلال أصبحت هذه الكلمة تطلق للتدليل على المعادي ل "الفرنكوفيلي"، وارتبط الأمر بخطاب "هؤلاء من الطابور الخامس وحزب فرنسا" إلى غير ذلك، وهذا ليس حقيقيا، لأنني انتبهت إلى لسان جدتي ووالدي الذي كان يتقن الفرنسية لكنه لم يتحدث بها قط، سواء داخل البيت أو في السوق ولا حتى المقهى، كان يستعملها عندما يتطلب الأمر ذلك. لساننا كان عربيا صرفا فيه بعض المفردات التركية التي تعبر عن أشياء حضارية، "تمدن" جلبه الأتراك معهم. ألا ترى وجود تناقض في الحديث عن "لسان عربي صرف" في الوقت الذي تعترف فيه بوجود ألفاظ أمازيغية، يونانية، إسبانية، أندلسية، إيطالية، فارسية، تركية، إلى جانب الفرنسية، في اللسان العاصمي؟ لا، لا يوجد تناقض، لأنه لا توجد لغة صرفة بشكل مطلق، بدليل أننا عندما نذهب إلى لسان العرب سنجد الكثير من الألفاظ التي يقول عنها اللغويون إنها ألفاظ فارسية معربة، ألفاظ مولدة، هذا أولا. ثانيا عندما تقترض لفظة من أية لغة أخرى ثم تطوعها للسانك تدخل قاموسك، لماذا لا أحد يقول إن كلمات "ديوان"، "قرطاس"، "بستان"، "نرجس"... ليست عربية وإنما كلمات فارسية، دخلت القاموس العربي ومع الزمن أصبحت جزءا منه. إذن أنت تتفق مع علماء الاجتماع الذين يقولون إن "اللسان مؤسسة اجتماعية"؟ مؤكد، مدار الكلام الإبلاغ والإبانة. نفيت وجود تأثير قوي للغة الفرنسية على اللسان الجزائري أو العاصمي على الأقل؟ أتحدث عن نسبة الفرنسية في العامية العاصمية إلى غاية الاستقلال، كم تقدر؟ من يجرؤ على القول إن الجزائري إذا جلس إلى المائدة كان يقول "طابلة" وليس "ميدة"؟ وكل الأشياء المتعلقة بالطعام كانت منحوتة من ألفاظ عربية فصيحة. وما الذي حدث لهذا اللسان بعد الاستقلال؟ الأمر الأول المثقف في العاصمة يحمل مسؤولية كبيرة، وأقصد هنا الذي كان يحسن العربية الفصحى أو الفرنسية، لأنهم نظروا إلى هذه العامية بازدراء وأدخلها إلى بيته على أنها تعبر عن مستوى اجتماعي معين، لأن المشكل في أنهما -المعرب والمفرنس- يقعان في حرج مع نفسيهما عندما يواجهان المجتمع، فلا أحد يستعمل عربية فصحى صرفة أو فرنسية صرفة في السوق مثلا، وهنا برز السبب الرئيسي الذي أحدث القطيعة بين المثقف والمجتمع. قبل العام 1916 ظهر علماء اجتماع في أوربا تحدثوا عن طبقية معينة تحدثها اللغة في المجتمعات، هل تعتقد أن هذا ما حدث؟ مؤكد، في كثير من الأحيان المقولات التي تصدر عن المجتمع تعطي حقائق أكبر بكثير من الحقائق التي يعطيها المثقف، لأن المثقف لا يجب أن يتحدث ويفكر بلغة أعلى من اللغة التي يتحدث بها مجتمعه. كتابك جاء في أكثر من 400 صفحة، ونعرف جميعا أنه أخذ سنوات طويلة من الجهد، لكن مع هذا تقول إنه "من العجالة المنقصة أن يصدر الآن"، كيف ذلك؟ أولا، لأن المادة التي مازالت بين يدي ربما تقدر بضعفي ما صدر في القاموس. ثانيا، عندما أقول "من العجالة" لأن المسألة تتعلق بتخريج هذه الألفاظ وصياغتها وإعادة قراءتها مرة ثانية، وأكثر من ذلك البحث في دلالاتها، كل هذه الأمور غير موجودة بالشكل الكافي للفظة وتطورها واستعمالاتها بنسبة 60 إلى 70 في المائة، ولكن يمكن أن يكون هناك عمل أكثر عمقا في هذا المجال. ثالثا هناك بعض الألفاظ التي إلى يومنا لم أجد جذورا لها، لأنه علينا الاعتراف بعدم الإلمام بكل اللغات التي لها صلة بعاميتنا، فالأمر بحاجة إلى مخبر يشتغل باستمرار على المسألة. رغم هذا ما شجعني لإصدار القاموس أن هناك من أقنعني بأن القاموس يبدأ ولا ينتهي. اللسان العامي العاصمي والجزائري بشكل عام، اليوم، يعيش أزمة، الكثير من العنف، الكثير من البذاءة.. ما صدر في قاموسك هي ألفاظ عرفها الشارع في الثمانينيات والتسعينيات، وهي مخففة مقارنة باللغة التي يعرفها الشارع اليوم والتي اجتنبتها إلى حد كبير؟ قديما كانت هناك لغة معيار نستنزف منها لتشكيل قاموسنا وعباراتنا، هذه اللغة كانت تتمثل في قصائد الملحون، الحكم، حكايات الجدات والنحت من القران الكريم، لكن اليوم نجد أن الذي يريد أن يكتب أغنية أو يشكل مثلا ينحت من لغة الشارع، في السابق كان الذي يمكن أن يكون فصيحا عندنا هو الذي يحاول دائما أن يقترب من اللغة/المعيار، الشعر الملحون، والأمثال والبقالات، لذلك كانت لغتنا راقية لاقترابها من معيار راق، الآن العكس، لغة الشارع هي المعيار والفنان يلجأ إليها، وهذا حتى في الأمثال. لكن علينا الاعتراف بأن الأسرة الجزائرية، اليوم، تصالحت مع لغة الشارع، وأصبحنا نتحدث بها في البيت؟ أولا، لأن العائلة الكلاسيكية اندثرت، الجد والجدة والأب والأم والأحفاد... وعوضهتا العائلة المصغرة الأب والأم وكلاهما يعمل والطفل يربى بين أيد غريبة بأشكال مختلفة، وفي أحسن الأحوال عند مربية شابة تأتي إلى المنزل، وعلى مدار ساعات اليوم تتحدث مع صديقها عبر الهاتف النقال، فما الذي يسمعه هذا الطفل؟ الواقع المعيش كان أحد الأسباب في عدم انتقال لغة المنزل من الأولياء إلى الأبناء، ووقعت القطيعة. هذا إلى جانب تعاظم البذاءة في الشارع. إذن اللسان يعكس الأزمة العامة التي مست السلوكات اليومية وأخلاق الجزائري؟ لو كانت لدينا مخابر بحث، لكنا تفطنا منذ وقت طويل عبر نزوع اللسان نحو بعض الألفاظ إلى توجه المجتمع إلى عنف كبير، لأن مصطلح مثل "التشيبة" ظهر قبل تنامي الرشوة في المجتمع بفترة طويلة، فما الذي يجعل لفظة تعبر عن قطعة حديدية كان عمال الميناء يأخذونها أيام الاستعمار كقطعة مرور إلى السفينة للعمل اليومي، تغيب ثم تعود مع شبيبة ألفين ولعبة "البيار"، ثم تتحول إلى مفهوم آخر تماما، تطبيع فكرة "المقابل" في التعاملات اليومية على أنها حق. أشرت في كتابك إلى أن اللسان العاصمي عرف تحولا بسبب الهجرات التي مست المدينة من سكان الداخل، لكن الملاحظ أن شجرة الأسرة لدى معظم سكان العاصمة، في أحسن الأحوال، تتوقف عند الجد الثالث، من هم العاصميون الأصليون؟ "الدزيري" أو ابن العاصمة لا يتحدد زمنيا فقط، بل سلوكا ولسانا، بدليل أننا عندما نتحدث عن رموز العاصمة نتحدث عن فناني العاصمة، الحاج محمد العنقى، عن دحمان الحراشي، عن خليفة بلقاسم، عن الحاج مريزق. (أقاطعه) كل هؤلاء الذين ذكرتهم اشتهروا بالعاصمة لكن أصولهم تعود إلى أزفون، خنشلة، الهامل (بوسعادة). نعم، ومع ذلك لا أحد يجرؤ على القول (ومعذرة على اللفظ) إن الحاج محمد العنقى "كافي". هذه اللفظة بالتحديد أنت شرحتها في قاموسك على أنها تطلق على "الشخص القادم من الريف"، ألا ترى في ذلك مبالغة لأنها كلمة تستعمل عبر كل القطر الوطني للتدليل على الشخص الفظ أو غير المتحضر؟ لا، لا توجد مبالغة، لأن هذه الكلمة عند العاصميين تعني كل من دخل المدينة ولم يسلك سلوكها. في القاموس خصصت بها "ابن الريف" بشكل مباشر؟ نعم، أقصد ذلك، لأنه عندما أقول الريف يعني خارج المدينة، لا يوجد مكان ثالث، وهي مأخوذة من "الكافي" أي الذي يسكن الجبل، "الكاف" في معظم المدن الداخلية تعني الجبل الصغير. يلاحظ في القاموس اشتقاق كلمة "بلدة" التي تدل على الرجل العاصمي الأصيل "ابن القصبة" و«البلاد" التي تعبر عن كل ما هو قادم من المدن الداخلية، من المصدر نفسه، أليس هذا غريب؟ لا أظن الأمر غريبا، في اللسان الشعبي هناك الكثير من النحت المشابه، يقال "فلان جاي ملبلاد"، و«وليد لبلاد"، هذه الاستعمالات في اللسان العاصمي شائعة، حيث تستعمل اللفظة للتدليل على مقاصد متناقضة. في أحد الهوامش، قلت إن مسألة العنصرية "ألصق" بأبناء العاصمة، وكأنك بشكل ما ترغب في نفي وجودها بتلك الصياغة، في وقت أن هذه حقيقة لا تخص سكان العاصمة وحدهم، فسكان الجنوب مثلا عندما احتجوا قالوا إن العاصميين استحوذوا على كل مناصب الشغل في سوناطراك؟ نتفق على أن الذين سكنوا العاصمة هم من خارجها، وهنا يأتي التصنيف حول من سكن العاصمة بشكل أسبق، حتى وإن كانوا من المنطقة نفسها، وبالتالي هنا ظهر نوع من العنصرية التي يفرضها تعارف الناس ببعضهم "جاو تاع لبلاد". لكن ما الذي تقصده باستعمال مصطلح "ألصقت"؟ هذه الظاهرة مرتبطة بالاستقلال، لماذا؟ أولا لأن الذي يصر على الانتماء إلى المكان هو في الوقت نفسه في شك من انتمائه، بمعنى أن الذين مارسوا هذه الجهوية تجاه الوافد الجديد على العاصمة هم في الأصل "الوافدون الجدد"، الذين كلما تقادموا أصبح الآخر بالنسبة إليهم وافد ليثبتوا بذلك انتماءهم للمدينة، لأن الذين سكنوا العاصمة منذ 1830 أو بعدها بقليل، لا يجدون حرجا ولا نوعا من "الكزينوفوبيا" تجاه القادم حديثا من منطقتهم الأصلية، لأنهم حسموا أمرهم منذ زمن. الأمر الثاني هو وجود حقيقة مفادها أن أبناء العاصمة سواء ممن دخلوا أثناء الثورة أو بعد الحربين العالميتين أو الذين استوطنوا العاصمة خلال العهد التركي، كلهم لم يكن لديهم هذا المشكل تجاه النازح، وعندما جاء الاستقلال، الذين وصلوا الحكم دخلوا إلى العاصمة وكأنهم يحتلونها مرة أخرى، العاصمة بالنسبة إليهم كانت آخر معقل للاستعمار لا بد من تحريره، فدخلوها واستولوا على ما فيها، الذين يسكنون "فيلات الحفص" مثلا ليسوا أبناء العاصمة، وإنما هم قيادات الثورة. إذن تعترف أنه في هذه اللحظة تشكلت عقدة تجاه الوافد؟ لا، في هذه اللحظة وقع أمر آخر، الذين جاءوا إلى العاصمة سكنوها وهم لا يعرفونها من قبل، وهنا أشير إلى أمر هام، وهو أن أحد الأسباب الرئيسية لخراب القصبة هم أبناء القصبة الذين غادروا سكناتهم وتركوها إلى الذين وفدوا بعد الاستقلال، لأن صاحب البيت يعرفه جيدا، يعرف الدار، يعرف "الدويرة"، يعرف "البير"، بل أكثر من ذلك يعرف أن المراحيض لا بد أن تكون فقط في "وست (وسط) الدار"، لكن عندما جاء غيرهم ومن عائلات مختلفة وحصلوا على "دويرة واجدة" (غرفة) ما كانوا ليقبلوا بمراحيض مشتركة، فوضعوا مراحيض في الداخل، وبدأت التشوهات تباعا. لكن القصبة، في الأخير، تراث وطني يمكن أن يسكنها أو يكتب عنها أي جزائري، وهناك من كتبوا عنها بشكل رائع وكأنهم أمضوا كل حياتهم فيها رغم أنهم من الولايات الداخلية، مثل ياسمينة خضرة، هاجر قوادري، سميرة قبلي... وربما غيرهم، لماذا يجب أن تبقى "القصبة" حكرا على "البلدة"؟ لا أنا لا أقول هذا، وإنما قصدت أن الطابع المعماري للقصبة وما يفرضه من نمط حياة، عندما نغادرها من أجل السكن في المدينة الأوربية سيسكنها أناس يجهلونه، فعندما لا يكونون على دراية بالعيش في المدينة يصبح الأمر مشكلا، لأنه سيأخذ وقتا للتأقلم، وفي ذلك الوقت بالذات يصل التشويه مداه. ابن المدينة مثلا عندما يذهب إلى الريف يتخلق بأخلاق المدينة، وهو مجبر على ذلك. من قال إن "ابن الريف" -كما تحب أن تسميه- عندما يأتي إلى المدينة لا يتغير؟ الأمر مختلف تماما، لأن ابن المدينة عندما يقصد الريف يذهب إلى طبيعته الأولى، إلى أصوله، وهو ليس الأمر نفسه بالنسبة للثاني. أشرت في القاموس إلى أن سكان العاصمة استعملوا التصغير ك "تبيسي" (صحن)، لتخليص اللغة من بداوتها، لكن في الحقيقة هذه ليست خصوصية عاصمية، ففي منطقة الجلفة مثلا يستعمل هذا الأسلوب بكثرة مثل "فنيجيل" (فنجان) رغم التصاق البداوة بالمنطقة ككل بشكل وثيق؟ هذا الكلام لم يستعمل في هذه المنطقة كخصوصية، وإنما أخذوه من منطقة المدية، لأن طريقة التصغير هذه لا نجدها في البداوة وإنما في المدن التي كانت حاضرة، والجلفة تأثرت بشكل كبير بالمدية. لا أقصد الجلفة تحديدا، العديد من مناطق الوسط، أي أنه ليس خصوصية عاصمية؟ أولا، العاصمة تنزع نزوعا حادا نحو الأصوات الرقيقة غير المفخمة، الضاد تصبح دال، والطاء تصبح تاء.. وهكذا دواليك، الخصوصية الثانية التصغير شمة في المدن، لكن في العاصمة عند المرأة والرجل على حد سواء، فلا أعتقد أن رجلا في الجلفة مثلا يلجأ للتصغير. لكن الملاحظ أن هذه الخصوصية يتم الابتعاد عنها في بعض الأحيان، فالعاصميون ينفرون من حرف "الطاء" ولكن عندما يستعملون لفظة يقترضونها من لغة أخرى، يقبلون بهذا الحرف، مثل "فرشيطة" (شوكة)، وذلك لأنهم ينزعون نزوعا أكبر عندما يتعلق الأمر بلفظة اقترضت من اللغة الفرنسية. هناك أمر ملفت في عملك، وهو أنك أوليت اهتماما كبيرا للهوامش المتعلقة بالجانب الثقافي، بل أنها تبدو كقاموس ثانٍ للحياة والأسماء الثقافية ليس فقط العاصمية وإنما المغاربية، لماذا؟ لأن هذه العامية تحمل خصوصية ثقافية، أولا. ثانيا، كما أشرت سابقا العاصميون كانوا ينحتون لغتهم من لغة معيار "الملحون، الأمثال الشعبية، البوقالات..."، ثالثا -وهذا أمر منهجي محض- الكلام شفهي غير مدون لذلك لجأت إلى المصادر كالقصيد، أما الأمر الرابع فهو أن أي قاموس لغوي قديم أم جديد لابد له من شواهد من هذا القبيل، إلى جانب أن القاموس بدون هذه الهوامش والتفاصيل يكون مملا، خصوصا وأنني لم أكن أرغب في جعله قاموسا لغويا فقط، وإنما أردت التعرض لمختلف نواحي الحياة العاصمية. الثنائي الحاج محمد العنقى ودحمان الحراشي أخذا حصة الأسد في الأسماء التي وظفتها، هل تعتقد أن الحراشي فعلا كان ثورة على العنقى وفن العاصمة، خصوصا اللغة؟ نعم، الحراشي كان ثورة حقيقية في العاصمة، وهنا أغتنم الفرصة للإعلان عن إصدار جديد، قريبا، سيتضمن أربعة أسماء هامة في فن الشعبي بالعاصمة، هي: الحاج محمد العنقى، عمر الزاهي، دحمان الحراشي، الهاشمي قروابي، لأن هؤلاء الأربعة غنوا الشعبي بشكل مخالف وعبر كل واحد منهم عن مرحلة معينة. لكن الزاهي وقروابي رغم التغييرات التي أحدثاها حافظا على قدسية العنقى في الشعبي، خصوصا على مستوى الكلمة، وهو ليس الأمر مع دحمان الحراشي؟ الحراشي يعبر عن هامش العاصمة وليس مركزها، إما البحر وإما خارج أسوار المدينة. الميناء لم يكن يوما هامشا بالنسبة للمدينة، فهو المركز الأساسي للرزق والحركية؟ العاصمة قديما بأبوابها الخمس، كانت تفتح صباحا وتغلق في المساء، وما هو خارج المدينة "براني"، اليوم ما زال يوجد عند باب الجديد مسجد اسمه "مسجد البراني"، عندما كان يحل المغرب كل الأجانب يخرجون بمن فيهم اليهود، كانوا يذهبون إلى "الملاح" (الحي اليهودي). لذلك كان ما هو خارج المدينة يعتبر هامشا، وعندما تدخل إلى المدينة عليك أن تلتزم بقوانينها، لهذا كان هناك مفهومان للشيخ في الشعبي، من رأى في يوم من الأيام الحاج محمد العنقى ب "التشونغاي" مثلا؟ لا يمكن كأنه أورثودكسي، "شاشية" اسطنبول، بدعية، سروال عرب... الحراشي شيء آخر، "التشونغاي"، قميص مخطط... هنا تغير مفهوم الشيخ في الشعبي وحتى مفهوم "البلدة" مع دحمان، لأن طريقة التصغير التي كان يتحدث بها العنقى وبشطرزي... بدأت تأفل وقابلها "التقعير"، وهنا تحول الهامش إلى مركز بعد ذهاب العنقى. أعرف أن القصبة بالنسبة إليك مقدسة، لكن هل هناك مدينة تشعرك بجوها؟ لن أزيد أشياء كثيرة عن ما قاله ابن شنب في رسالته للدكتوراه حول بقايا الألفاظ الفارسية والتركية في الكلام الجزائري، أخذ ثلاثة نماذج، قسنطينة، العاصمة والمدية. تلمسان، لا؟ بعيدة عنا، وهي مدينة مغلقة، ولكن شخصيا أجد راحتي عندما أتجول في قصبة دلس، لأن فيها الدفء والظلال، وأيضا في قصبة قسنطينة التي للأسف بدأت تنهار. ما هي الكلمة التي أصابتك بالدهشة عندما اكتشفت أصلها؟ بقيت حوالي شهرين وأنا أبحث في كلمة "بوزلوف"، لأن جذرها "زلف" بمعنى الاقتراب، ما الذي قد يربط الأمرين، بعد فترة وصلت إلى قصيد للتهامي المدغري "علاش يا محبوب خاطري تجفيني" تحديدا في البيت القائل "تكبتي فيا في عضايا نارك زلافة"، هنا برز الخيط "النار الزلافة" هي "النار الحارقة"، كان اكتشافا رائعا.