من مدينة المدية حيث كان طوبال محمد حليم يسمع أجمل وأندر قصائد الشعبي التي أسرت فؤاده وشغلت عقله لأنها لم تمر يوما على ذهنه مرور الكرام، انطلق في رحلة بحث استمرت 16 عاما من قصائد الشعر الملحون من الشعبي إلى الأندلسي.. ليتحفنا بمجلد من أربعة أجزاء كانت عصارة بحثه بين أسوار القصبة وأحياء العاصمة والمدية وتلمسان.. التقينا هذا الباحث على هامش حفل تكريم عميد أغنية الشعبي ''الحاج محمد العنقى'' نهاية الأسبوع الفارط فكان لنا معه هذا الحوار. علمنا، حسب بعض المعلومات التي وردت إلينا، أنك ألّفت قاموسا خاصا بالشعر الملحون، هلا حدثتنا عن مضمون هذا المصنف؟ - القاموس يحتوي على 2900 كلمة مستنبطة من قصائد الشعبي خاصة تلك التي تغنى بها ''الحاج محمد العنقى '' إلى جانب شيوخ آخرين لأن بحر الشعبي واسع بلا حدود، والقاموس عربي عربي اتبعت فيه منهجيه خاصة تمثلت في منهجية التاصيل كما أن ترتيب الكلمات لم أقدمه حسب الترتيب الألف بائي وإنما حسب الترتيب الابجدي وهي '' ابدج . هوز. حطي. كلم ..'' وقدمت ضمنه اختصارات تتعلق باصل الكلمة فمثلا اذا وجدنا ''أ. س'' في القاموس فهذا يعني أن أصل الكلمة اسباني واذا وجدنا ''ع. ب'' فأصلها عبري. ما سر توجهك لهذا النوع من البحوث؟ - في الحقيقة أنا في الأصل أستاذ في الانجليزية وباحث في مجال الشعر الملحون، وأرى أن ما يجمعهما هو كلمة أدب. وهنا أشير إلى أنني قبل أن أكون باحثا في هذا المجال كنت أنظم الشعر ولعل أهم الأسباب التي دفعتني إلى التوجه إلى البحث في هذا المجال أنني تربيت على سماع الشعبي منذ الخامسة، وكنت أتساءل عن سر ومصدر هذه الكلمات والعبارات والتراكيب اللفظية والمعاني ذات العمق البعيد، ومن هنا بدأت مشواري في التنقيب والبحث للإجابة عن كل تساؤلاتي. من المعروف أن الموروث الفني الشعبي يكون في أغلب الأحيان شفويا كيف استطعت جمع مادة هذا المصنف؟ - بالطبع شيء صعب جدا أن يتمكن الإنسان من جمع هذا الكم الكبير من المعلومات، ففي كل خطوة يخطوها الباحث لابد وأن تواجهه مشاكل وعراقيل كثيرة، ولكن حبي لهذا الميدان جعلني أمضي أكثر من 16 عاما من عمري في التنقيب عن سر هذا البحر الفني العميق والممتع في نفس الوقت، فقد أنجزت خلال ال 16 عاما أربعة كتب أو شبه مجلد يضم أربعة أجزاء تطرقت ضمنه لكل ما يتعلق بالشعر الملحون وأردت أن أقدمها بطريقة أكثر أكاديمية حتى يستفيد منها العام والخاص. هل قمت بنشر هذا المجلد؟ - بالنسبة للمجلد الأول أودعت المشروع لدى دار نشر المعرفة منذ سنة وإلى حد الساعة لم يصدر ولا أعلم الأسباب، أما الأجزاء الثلاثة الباقية فهي أيضا جاهزة مع بعض النقص الطفيف. هل حاولت الاستفادة من مشروع وزارة الثقافة الخاص بنشر ألف كتاب؟ - كنت قد سمعت عن مشروع 2007 /2008 الذي اقترحته الوزارة في إطار الجزائر عاصمة الثقافة العربية، وأكدت لي دار النشر أنها قدمت المشروع للوزارة ولكن إلى حد الساعة - كما سبق وقلت - لم يصدر الكتاب وهو الأمر الذي دفعني إلى التفكير مؤخرا في سحبه من الدار وطباعته على حسابي الخاص. من المعروف أن الشعر الملحون لا يخص فقد قصائد الشعبي والاندلسي بل يتعداه الى القصيد البدوي والعروبي.. هل تناول القاموس هذا الجانب؟ - طبعا عندما أتحدث عن الشعر الملحون فهذا لا يعني أنني أتطرق إلى الملحون كشعر ليوجد ما يسمى بالشعر البدوي أو الحضري، وشخصيا أرى أن هذا الفصل بينهما خطأ. فأصل كلمة لحن نجده ضمن 6 معاني الأول منها بمعنى التورية والخروج عن الإعراب أي أن البيت الشعري في الملحون لا يخضع لقواعد اللغة العربية ونعني به الإشارة كذلك. وأنا شخصيا ألح على تسميته بالملحون مع تمسك الكثيرين بتسمية الشعر الشعبي. ما سر ارتباط العاصمي البسيط الذي كان في أغلب الأحيان ''أميا '' بالقصيد الشعبي المعقد والعسير الفهم؟ - لأنه وبين طيات القصيد الشعبي كان الشعراء يجتهدون في زرع بعض الكلمات الشعبية البسيطة والقوية المعنى والتي كان القصد منها لفت انتباه المستمع وربطه بالأغنية روحيا حتى وإن كان لا يفقه معنى كل الألفاظ لأنها صراحة تكون غير مفهومة المعنى في أحيان كثيرة. وهنا يمكنني ان اجزم ان طريقة اداء عميد اغنية الشعبي الحاج العنقى هي سر اعتلائه عرش أغنية الشعبي، فمثلا حين يقول في إحدى قصائده: تراه بعض من الساعة يبني بحجار الصم بساتن وقلاع واللقبب أصل كلمة بساتن اسباني معناها '' القلعة '' المستمع لا يبحث عن معنى الكلمة وإنما يطرب بالأداء، وهنا أفتح قوسا أوضح ضمنه ان الأداء والجانب الموسيقي خاصة في الاندلسي هام أكثر، أما الشعبي فيركز أكثر على قيمة الكلمة، وعليه فقد كان الشيوخ السابقين في الأغنية الكلاسيكة الجزائرية يقولون إن ''الاندلسي فرجته أنغامه والشعبي فرجته كلامه. هل وجدت من خلال بحثك أن الكلمة في الشعبي أقوى فعلا منها في الاندلسي؟ - أكيد الكلمة أقوى في الشعبي وكما يسمى في إحدى تقنيات نظم القصيد بتقنية ''الصروف''، وهو ان الشاعر تصرف في تحوير الكلمة لضرورة ابتداع النغمة، لكن الاندلسي يعتمد على الموسيقى وأغلب ألفاظه باللغة العربية الفصحى مثلا قول الفنان في أحد الاستخبارات الأندلسية: سلام على الاحباب في القرب وفي البعد توحشتكم وطال البعد بيننا الشعر الملحون يعتمد أساسا على السكون، لكن الأندلسي لو أخضعناه لبحور الخليلي لوجدناها تتماشى وهذه الأوزان، أي أننا لو قطعنا أبيات القصيدة لوجدناها تخضع للوزن. أما قصيدة الشعبي فهي تخضع لقاعدة الدندنات التي تتضمن سبع دندنات ولو خرج عنها الشاعر لما استطاع الملحن تركيبها على اللحن وهو المشكل الذي أصبح يقع فيه أغلب الفنانين اليوم حيث نحس نشوز الأغنية في حد ذاتها وذلك لأنهم لا يعرفون وزن الدندنة. في رأيك هل يرجع نجاح العنقى وتميزه على من واكبوه إلى قوة الكلمة أم إلى حسن الأداء؟ - العنقى من جانب الأداء تميز بشكل لافت للانتباه فهو أكثر فنان كنت لديه القدرة على ربط الكلمة باللحن، أي أنه كانت له كريزما خاصة في إيجاد توازن خاص بين أحباله الصوتية وأوتار العود وهذه في حد ذاتها عبقرية. من جهة أخرى وفي باب الألفاظ، العنقى كان لا يؤدي القصيد إلا بعد تدارك المعنى العميق للقصيد ولا يكتفي بالمعنى السطحي فقط. العنقى كان يتقمص القصيدة من خلال تركيزه على التدقيق اللغوي وإدراك المعنى. ارتبطت أغنية الشعبي بمدينة الجزائر العاصمة ارتباطا حميميا خاصا ما سر هذا الارتباط في رأيك؟ - هناك مثال قديم تركه أجدادنا يقول '' العرق دساس ''، ويعني أنه مهما طغت على الساحة من أمور دخيلة إلا أن الأصل لابد أن يفرض نفسه ويبقى هو مهذب العقول والأفئدة، كما يقول محبوب اسطنبولي ابن مدينة المدية: الفنون أتهذب نفوس من طغاة والفنون ترقق قلوب من احجر ختاما لهذا اللقاء ما تقييمكم لراهن أغنية الشعبي؟ - لست موافقا على ما يكتب اليوم من قصائد هناك الكثير من الكلمات لا أسميها قصائد لافتقارها لأدنى شروط القصيد، وصراحة من جيل الشباب لا أجد من يغني شعبي على عكس الجيل الذي سبقهم وعلى رأسهم كمال بورديب، عمر الزاهي والعنقيس.