بقلم: محمد قماري قبل مدة دعا المجلس الأعلى للغة العربية إلى ندوة، احتار لها المجلس بحق عنوانا مثيرا، ولا أقصد هنا الإثارة بالمعنى العاطفي، بل قصدت الإثارة بالمعنى العقلي والجدلي، فالعنوان يختزن مجموعة من التساؤلات، تتداعى كلما أوغل الناظر فيها.. والعنوان هو "لغة الإبداع والإبداع في اللغة من خلال الرواية"، واستضاف المجلس كلا من الروائي مرزاق بقطاش والروائي رشيد بوجدرة والروائي الأكاديمي الدكتور أحمد منور، وأدار الندوة الشاعر عمر أزراج.. وعقب الندوة التقيت الأستاذ محمد العربي ولد خليفة رئيس المجلس، وشعرت أن الرجل بقي في نفسه شيء من "حتى" كما يشاع عن علماء النحو، ويبدو أنه كان ينتظر أن تأتي الندوة على تساؤلات عديدة بثها من خلال كلمة المدخل التي قدم بها بين يدي الندوة، فنظرته للرواية ودورها في أن تسهم "في تطوير وإثراء اللغة العربية وتحبيبها للجمهور الذي يجد فيها المتعة والتثقيف" وحدد مقصده من تطوير اللغة بقوله "بناء لغة وسطى مهذبة بين الفصحى القديمة والعاميات المحلية التي تعرضت للتلوث.." بل إنه قال متشائما أن تلك الدارجة أصيبت في مدننا بلعنة ببابل، وأظن أن هذا هو المحور المفصلي الذي بنى عليه رئيس المجلس الأعلى للغة العربية مدخل الندوة على اعتبار المهمة الرسمية للمجلس في ترقية استعمال اللغة العربية ونشرها.. معالم في الطريق وانطلاقا من ذلك الملمح المدخلي، مضى رئيس المجلس في تحديد بعض المعالم على طريق الوصول للهدف أي "ترقية استعمال اللغة العربية"، ومن تلك المعالم ضرورة تجاوز الانتصار العاطفي للغة العربية، فذلك الاعتزاز الذي ضمن للعربية بقاءها طيلة الحقبة الاستعمارية المظلمة، قد لا يجدي اليوم كثيرا إذا لم يجري في أوصال اللغة دم جديد يغذيها بأكسجين الحاضر عن طريق الترجمة ونشر وتكثيف عملية أساليب الإبداع والكتابة الحديثة من مسرح وقصة ورواية.. فاللغة يجب أن تصل إلى القدرة على الاحتماء الذاتي، ولن يتحقق لها هذا إلا بجعلها مطواعة قابلة لاستعاب مضامين إبداعية وجمالية تغري أهلها أولا بالقرب منها وتدعو الأغراب إلى الالتفات إليها، ومنه لن يكون حب اللغة بإقصاء وكراهية لغة أخرى، فالتعامل السليم مع اللغات الأخرى، ينطلق من مرتكز التعارف والإفادة، دون الوقوع في استبعاد الذات بالتفريط في شخصيتي لأن ما عند الآخر يبدو أكثر بريقا.. والرواية داخل مجتمعات ما زالت تعتمد الاتصال "الشفوي"، يمكن أن تخترق بسهولة حاجز العزوف عن القراءة لأنها تحمل إلى جانب الفكر التشويق والسرد وتحريك المخيال.. مستويات اللغةالدكتور أحمد منور أكد على معنى شائع لكل من له إلمام بالدرس اللساني، ذلك أن اللغة، أي لغة، لها مستوى اللغة المحكمة الفصيح، وهو ما يدور في الدواوين الرسمية، وعلى لسان الأدباء والمدرسين وفي خطب الساسة والزعماء، ومستوى الأداء الدارج الذي يقترب أو يبتعد عن الأول، بحسب الظروف التاريخية والشخصية للأفراد والجماعات.. ولنضرب لذلك مثلا، إن خطب الرئيس الفرنسي ديغول، هي قطع أدبية رائعة قد تفوق في بعضها نصوص أرسخ أدباء الفرنسية قدما، لكن لغة تلك الخطب ليست هي لغة الباعة والمتجولين في شوارع باريس..ولغة الأدباء والمبدعين كفيكتور هيجو أو فولتير ليست كلغة عامة الفرنسيين في الأداء البلاغي وصيغ التبليغ والتواصل. والذي جعلني أبدا من فكرة الدكتور منور، وأسوق بين يديها بالأمثلة هو ماذهب إليه الروائي مرزاق بقطاش في اختياره لعناوين رواياته من أمثال "خويا دحمان" أو "الكبران" فهو بزعمه أن القاموس اللغوي العادي يضيق باستيعاب تلك المعاني، وهذا صحيح لو كان الأديب ينشر رواياته ليقرأها أهل القصبة ووسط الجزائر العاصمة، فهم يدركون ذلك الدفق العاطفي من كلمة "خويا"، وتتداعى الصور في مخيلتهم عم ذكر "الكبران"، أما وأن الكاتب ينشر لجمهور كبير أوسع من محيطه الذاتي، فالنقل والقدرة على تعدي الحاجز اللغوي يغدو من مفردات الإبداع، لأن الإبداع هو القدرة على نقل الصور لمتلقي ليس بالضرورة ممن يشاركنا المكان والزمان.. ولن يستطيع المبدع أن يجعل مع كل عمل يصدر عنه قاموسا شارحا لما ذهب إليه في ما يستعمل من ألفاظ، وإلا تحول العمل الإبداعي إلى درس لغوي.. صاحب دار نشر، قال في تعقيبه أن "الكم" الذي صدر في عناوين روائية لم يجد طريقه إلى أيدي القراء، لأنه للأسف وعاء من يقرأ ضعيف جدا.. والحقيقة أن صاحب هذا الطرح لم يجاوز الواقع الماثل، فمع أن أسبابا موضوعية كضعف شبكات التوزيع، وقلة النقد والترويج الإعلامي للمنتج الأدبي وللكتاب بوجه عام، على الرغم من كل ذلك فإن الرواية الجزائرية ولدت مليئة بشحنات "أدلجة" مفضوحة، وكتبت بلغة مولدة لا انسياب فيها، فكأنما تنحت كلماتها من الصخر، وتضيع بالتالي سلاسة الأسلوب المعهود في لغة الرواية، وتتحول الأحداث غلى صراعات بين مذاهب فكرية، وطبقات غير موجودة إلا في ذهن الكاتب.. لقد قال الروائي بوجدرة أنه كتب أولى أعماله الأدبية بالفرنسية هروبا من الرقابة، وسألت نفسي أول الأمر رقابة من في سنة 1965؟ الرقابة السياسية، طبعا ليست هي المقصودة لأن الفرنسية أسهل عليها، فلم يبق إلا الرقابة الشعبية، فالكاتب إذن اختار أن يكتب لجمهور اختاره هو مسبقا، جمهور قد يسميه "النخبة"، قد يعتبره "المجتمع المفيد"، لكنه قد بنى جدار عازلا باختياره يحجبه عن الجمهور العريض، وهنا لا بد أن ندرك ذهنية رجع الصدى لدى كثير من "مبدعينا"، فالمهم لديهم هو محاورة الذات والنظر في المرآة عن طريق محاورة جمهور موافق له ابتداء، وكل من ليس معي فهو ضدي !