هي فعلا منارات مضيئة في درب الظلام المطبق من كل الجهات، هم أولئك الذين تمردوا على ما فرض عليهم من عتم دامس يعيشون فيه طوال أيام الحياة، لينيروا الطريق لسواهم من بني البشر، وليقدموا إليهم، من هناك، من منطقتهم المعتمة ضيقة المساحة واسعة الامتداد، ما جادت به محاولات بذلوها للنظر من زاويتهم غير المألوفة لسواهم من أبناء جلدتهم وإخوانهم. هل دار بخلدك يوما أن يرسم الكفيف، ويبدع لوحات تشكيلية مبهرة، يعجز عن رسمها فنانون مبصرون؟ هل فكرت يوما في إمكانية أن يمسك ذلك الشخص الضرير، الذي حُرم نعمة البصر، الريشة ويرسم شخوصا ومظاهر الطبيعة التي لا يراها، فتخرج أعماله متقنة... لا تملك أمامها إلا أن تضرب كفا بكف، وتردد في دهشة: سبحان الله. لقد فعلها الفنان المغربي إسماعيل المسعودي، ونجح في تحقيق ما يراه الكثيرون مستحيلا... وتمكن بمساعدة من أستاذه من أن يبدع لوحات تشكيلية يعجز عن رسمها شخص مبصر، وعندما تسوقك الأقدار، وتقف أمام لوحاته... سوف تشعر حتما بالضآلة... أمام هذه الحالة من الإبداع الكامنة في جوانح رجل فقد بصره وهو في العاشرة من عمره. يدين المسعودي لأستاذه عبد الإله الرمحاني بالفضل فيما وصل إليه من شهرة وانتشار، لأنه الذي رسخ داخله أنه باستطاعة الشخص الكفيف أن يرسم انطلاقا من قواعد خاصة من ابتكاره. حمل الشاب الكفيف إسماعيل المسعودي مشعل الإرادة القوية والتغلب على الإعاقة، متحديا كل العوائق والحواجز ليقتحم عالم المبصرين، ويخط بأنامله ما عجزت عيناه عن مشاهدته، مثل زرقة السماء والبحر كعناوين للوحاته الفنية التشكيلية. واستطاع إسماعيل من خلال رسوماته أن يجعل للظلام الذي لف حياته منذ سن الخامسة عشر ألوانا زاهية، ليخترق بذلك عبر عمل احترافي ومُتقن عالما صعُب على المبصرين ولوجه، فبرهن الشاب الكفيف على أن لا شيء مستحيل في دنيا البشر مادامت الإرادة والعزيمة على العمل موجودة. إسماعيل، الذي شارف على سن الأربعين، يبدو هادئ الطباع واثقا بما يقدمه وما تغرد به لوحاته، يطلق العنان لريشته وإحساسه، ليُدون ما حفظته ذاكرته من مشاهد وأماكن اعتاد ارتيادها، حيث لم يولد إسماعيل كفيفا بل أطل على الحياة بنعمة البصر، وعاش طفولته بين ظهراني مدينته العزيزة على قلبه طنجة التي انتقل بين أزقتها وأحيائها. اتسمت طفولة إسماعيل بالهدوء والنباهة، إذ كان يعرف بين أفراد أسرته بفطنته وذكائه إلى أن أصابه تلف في شبكية العين، وهو في عمر السابعة ليتطور المرض يوما بعد يوم، ففقد القدرة على البصر كليا في سن الخامسة عشر. ترك إسماعيل صفوف الدراسة فور إصابته لعدم إمكانية مدارسنا وفقرها لأساليب التدريس للمكفوفين مما يجعلهم يحرمون من حق التعلم، ورغم توفر المدارس المختصة التي تدرس بطريقة "برايل"، إلا أن مصاريفها المرتفعة وقصر ذات اليد وقفت سدا في إكمال التعليم بالنسبة لإسماعيل وأقرانه. أتت المبادرة في تعلم إسماعيل الفن التشكيلي من أستاذه عبد الإله الرمحاني الذي لقنه المبادئ الأولى في الرسم، لتنفجر موهيته الفريدة التي لفتت انتباه وسائل إعلام عربية بخلاف وسائل الإعلام الوطنية التي لم تكترث بموهبته ولا بحالته. وابتكر إسماعيل طريقة تمكن فاقدي البصر من الرسم من خلال الاعتماد على اللمس والإحساس، ولكنها طريقة أبى إسماعيل وأستاذه الكشف عنها لكونها تقنية تعود إليهما حقوق ملكيتها، مبررين رفضهما تسويقها للعالمية بعد أن طرقوا كل الأبواب بدون جدوى. السماء.. البحر.. وضوء ينبعث من الظلام.. رسومات يتقنها إسماعيل كأنه يقول لنفسه وللناس إن الأمل دائما موجود، وأن هناك في أقصى الوهن والفشل شعاع يتغلب على أصعب العوائق.. الأحمر، الأصفر، والأخضر، والألوان الأخرى مزجها إسماعيل المسعودي ليلبس لوحاته ويزين ما خطت يداه من إبداع. إسماعيل المسعودي كسر القيود متغلبا على الإعاقة ليصبح رساما وكاتبا، حيث كانت له محاولات في الكتابة، ليقتصر فيما بعد على الفنون التشكيلية لحبه لها.. إسماعيل أضحى قدوة لذوي الاحتياجات الخاصة الذين أصبحوا يعطوننا درسا كل يوم في كيفية التغلب على الصعاب، وأن الإعاقة توجد في عقولنا فقط. المسعودي جاء إلى الرسم وهو يختزن مشاهد مختلفة من لحظات طفولته التي كان يبصر خلالها، لقد فقد بصره بالتدريج، وغاب النور عن مقلتيه وهو ابن 10 أعوام. وقبلها كان دقيق الملاحظة، كثير الحركة، شغوفا بفك الأجهزة الكهربائية والإلكترونية وتركيبها، ولاتزال هذه الهواية تلازمه حتى الآن، كما كان شفوفا بالبحر وأزقة القصبة وباب البحر، وتأمل كل ما حوله، ولعل هذه الخبرات الطفولية حينما تمرست بالمعرفة والتدريب... استطاعت أن تنتج هذه اللوحات الفنية الدالة"