هي فعلا منارات مضيئة في درب الظلام المطبق من كل الجهات، هم أولئك الذين تمردوا على ما فرض عليهم من عتم دامس يعيشون فيه طوال أيام الحياة، لينيروا الطريق لسواهم من بني البشر، وليقدموا إليهم، من هناك، من منطقتهم المعتمة ضيقة المساحة واسعة الامتداد، ما جادت بهم محاولات بذلوها للنظر من زاويتهم غير المألوفة لسواهم من أبناء جلدتهم وإخوانهم. منذ عهد قريب، كان الناس يعتقدون أن القراءة والكتابة بالنسبة للكفيف أمر مستحيل، بينما كان هناك شاب فرنسي يرى غير ذلك، إنه المعجزة لويس برايل، فرنسي كف بصره وهو في الثالثة من عمره، ولكنه لم يفقد الأمل يوما، ولم يستسلم لإعاقته، بل ظل يفكر ويفكر في الطريقة التي تمكن أقرانه من المكفوفين القراءة والكتابة والاطلاع على مختلف المعارض وبطريقة سهلة وميسرة. وبعد كثير من البحث والتفكير، يتحسس المثقاب الذي أفقده بصره، ويمسك بقطعة من الجلد كالتي كان يمسكها عندما فقد عينيه، ثم يكتشف الحل، إن المثقاب الذي أفقده بصره، هو نفسه الذي سيفتح به الباب أمام المكفوفين، ليتعلموا من خلاله القراءة والكتابة، فكانت "طريقة برايل".. وهي نفسها الوسيلة التي يستخدمها المكفوفون الآن في القراءة والكتابة. ولد لويس برايل في قرية قريبة من العاصمة الفرنسية باريس في العام 1809، كان مبصرا في صغره، وكان يذهب مع والده إلى عمله، وكان أبوه يعمل في صناعة الجلود، وفي أحد الأيام عندما كان الطفل في الثالثة من عمره يلهو بمثقاب "دبوس" والده، فأصاب إحدى عينيه، ففقدت بصرها في الحال، وأصيبت عينه الأخرى بالتهاب، إلى أن فقد بصره كليا. ذهب لويس إلى المدرسة مع جيرانه، وبعد سنوات، سمع عن مدرسة للمكفوفين في العاصمة "باريس"، فذهب إليها والتحق بها، وكان أول سؤال سأل عنه الطفل الكفيف: كيف سأتعلم القراءة والكتابة لأقرأ وأكتب مثل الآخرين؟ كانت الكتب في تلك الفترة تكتب بأجهزة خاصة في المصنع، بحيث تكون نفس الحروف بالطريقة المبصرة ولكن بارزة على الألواح، فكانت الكتب بهذه الطريقة ثقيلة، والقراءة بطيئة ومتعبة للكفيف، لأنه يستغرق وقتا وجهدا منه، حتى يتلمس كل حرف، ويتعرف عليه، وكان الكفيف عندما ينتهي من قراءة السطر ينسى عماذا كان السطر يتحدث، غير أنه بهذه الطريقة كان الكفيف يقرأ ولا يكتب. درس لويس في المدرسة، وعندما تخرج فيها تم تعيينه معلما بها، وظل الفتى الكفيف يفكر في اختراع طريقة أخرى للقراءة والكتابة، حتى يمكن أقرانه من المكفوفين من القراءة والكتابة مثل المبصرين. وفي العام 1829، سمع لويس خبرا مفاده: إن ضابطا بالجيش الفرنسي ابتكر طريقة يستطيع بها الجندي تلقي الأوامر تحت جنح الظلام، وذلك أنه يبرز على ورق نقاطا أقصاها 13 نقطة، تعبر كل منها عن أمر من الأوامر العسكرية، إذا لمسها الجندي بأصبعه في الظلام، أدرك الأمر الذي يعنيه الضابط، فتواصل لويس برايل مع هذا الضابط، ثم قام بتطويرها حتى أصبحت كما هي عليه اليوم، تتكون من نقاط أقصاها 6 نقاط، مستخدما دبوس "مثقاب" والده الذي أفقده بصره في إبراز النقاط واستخدمه كوسيلة للكتابة. قام لويس برايل بتعليم هذه الطريقة ل 3 أو 4 من طلابه، ولكن كان مدير المدرسة والمعلمون في زمنه ضد طريقته المبتكرة في القراءة والكتابة، لكن برايل حاول جاهدا اعتبار تلك الطريقة لغة رسمية، وتمكن من تحقيق حلمه هذا، وهو على فراش الموت يحتضر. ويمكن الكتابة بطريقة برايل عن طريق اللوح المعدني باستخدام قلم ذي سن معدني مدبب، يقوم بكتابة الحروف من خلال ثقوب في الورقة بواسطة لوحة معدنية أو خشبية محفور بها عدد من خلايا برايل، ثم يقوم بقراءة الكتابة بعد قلب الورقة من الخلف. طريقة برايل يسرت على المكفوفين أن يسجلوا مذكراتهم، ويكتبوا رسائلهم، ويقرأوا ما يريدون من الكتب والمجلات، وأن يقوموا بإجراء العمليات الحسابية المختلفة. وقد أخذ الاتحاد الدولي للمكفوفين على عاتقه الالتزام بالعمل على دعم انتشار طريقة برايل وتعليم المكفوفين من خلالها، وأطلق في ذلك شعاره الشهير "قارئوا برايل هم القادة". وفي دراسة حديثة وجد أن الأشخاص الذين يتعلمون "برايل" في مرحلة مبكرة من العمر، قد استطاعوا أن يكملوا دراستهم، وأن يحصلوا على وظائف مرموقة، كما كانت قراءتهم أكثر مقارنة بالمكفوفين الذين لم يتعلموا برايل منذ الصغر. وعندما انخفض معدل القراءة والكتابة بطريقة برايل في أمريكا بين العامين 1960 و1980 انخفاضا حادا بسبب دمج المكفوفين في المدارس العامة، نظرا لقلة المعلمين الذين يعرفون طريقة برايل، ومن ثم ارتفاع معدل الأمية بين المكفوفين، قامت منظمات المكفوفين بالتحرك نحو الضغط وبقوة لغرض التعليم بطريقة برايل في المدارس العامة، ونتيجة لذلك قامت أكثر من "30" ولاية أمريكية بسن التشريعات الخاصة بالقراءة والكتابة بطريقة برايل في المدارس العامة، وتنفيذ المؤسسات التربوية على تعليم المكفوفين بهذه الطريقة. وبالرغم من وفاته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلا أن انجاز "برايل" باقٍ، ويتم تطويره يوما بعد يوم، ليمكن المكفوفين من الانخراط في المجتمع والتواصل معه وترقى المناصب المرموقة، وعدم الاستسلام لإعاقتهم. وبذلك يكون برايل هو الكفيف الوحيد الذي قدم لأقرانه خدمة جليلة، خلدت اسمه حتى الآن وإلى قرون أخرى مقبلة ولعله جدير بأن يقول له المكفوفون في جميع أنحاء العالم: برايل شكرا جزيلا لك.