يجب فهم رمزية اللجوء إلى رجل مثل بوتفليقة ليكون على رأس الدولة الجزائرية من قبل العصبة الظافرة والخارجة من حربها ضد جماعات الإسلام الراديكالي والمسلح متوجة بانتصار، لكنه انتصار هش، أن هذه العصبة التي كانت في حاجة إلى شخصية كاريزماتية، لاعب نشط يمتلك مواهب إغراء الآخرين واستقطابهم ومواجهتهم إن اقتضت الظروف في ملعبهم السياسي والايديولوجي نفسه، فالعصبة كانت تفتقر إلى زعيم يمتلك مثل هذه المواهب والقدرات في اختلاق خطاب جامع، مغري وواعد.. وكان بوتفليقة هذا الطير بعد أن أخفقت أن تجده في رجل مثل محمد بوضياف الذي اغتيل على يد حارسه الشخصي بعد ستة أشهر من عودته إلى رأس سلطة مشكوك في صدقيتها وشرعيتها، شكلتها عصبة في حرب.. وكانت العصبة الظافرة تدرك بتجربتها في الحرب والمناورة ذات الطابع الاستثنائي أن هذا العائد من بعيد لازال مسكونا بحلم قديم سرق منه في عز سنوات عمره ومجده يوم كان وزير خارجية الرئيس الجزائري، هواري بومدين، والمرشح المحتمل لخلافته بعد رحيل هذا الأخير إثر مرض مفاجىء في ديسمبر 1978.. كما أن هذه العصبة كانت تدرك أن بوتفليقة رغم مواهبه فهو يفتقر إلى عصبة قوية، فهو لا يملك سوى صورة يمكن تسويقها وتاريخا قد يكون زادا لها كدرع احتماء، ولحظة استرجاع أنفاس في سبيل صناعة تسوية على مدى استراتيجي يجنبها صراعات محتملة مع العصب التي خسرت معاركها في حيازة السلطة والسيطرة. ويجب كذلك أن لا نغفل في هذه العملية التي تشبه المقايضة السرية، أن بوتفليقة كان يعي هذه المسألة بدقة وعمق، وقد شعر بذلك عندما واجهه في عهدته الأولى منافسوه القدامى الذين كانوا ينتمون ذات يوم إلى ذات العصبة التي تشكلت في قلب نيران حرب التحرير من أمثال آيت احمد، والعقيد حسان والدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، الذين ترشحوا إلى رئاسيات 1999، وقد وصفهم بوتفليقة يومها بالفرسان.. ومنذ الوهلة الأولى بنى بوتفليقة استراتيجيته على خلفية أسطورية ذات طابع ديني خفي، حيث يمتزج فيها البعد المقدس المتعالي ذي النزعة الخلاصية بالبعد الخيالي... وكانت هذه الاستراتيجية تنزع نحو أن يكون رجلا فوق العصبيات التي اتخذت تمظهرات سياسية وإيديولوجية في شكل أحزاب وعائلات سياسية، ومن هنا يمكن تأويل مصطلح رجل الإجماع.. كل تلك اللعبة كانت تقوم على الجانب الشكلاني.. وكان ذلك يريح بوتفليقة والعصبة الظافرة على حد سواء، بحيث تمكنت من الإعلان أنها لم تعد في قلب السلطة، ولا في قلب الصراع، وأنه لأول مرة أصبح للجزائر رئيس من خارج العائلة العسكرية، وبدا للعيان أن الجزائر على عتبة الخروج من حقبة هي حقبة العصبيات إلى حقبة أخرى هي حقبة الدولة المدنية والمواطنة والتنافس الحر بين القوى السياسية.. وباستثناء بعض المناوشات والنزاعات غير الرئيسية فقد بدا للكثيرين أن الجزائر في عهدة بوتفليقة على أبواب الانتقال من ما قبل التاريخ التعددي السياسي إلى التاريخ السياسي.. وأن الصراع المركزي بين العصب هو في طريقه نحو الأفول والاضمحلال.. لكن سرعان ما بدأت بعض التذمرات تعلن عن نفسها من داخل العصبة الظافرة من طرف مجموعات متشددة داخل العصبة نفسها، وذلك بسبب شعورها أنها أصبحت مهددة في ظل هذه العملية الجديدة الناشئة في مصالحها وفي نفوذها الذي أصبح يتلاشى.. وتجلى هذا الأمر بشكل جاد ودقيق عشية رئاسيات 2004، حيث كشف بعض ممثلي هذه المجموعات داخل العصبة الظافرة عن معارضتهم تجديد العهدة لبوتفليقة، وهكذا حدث أول انشقاق معلن داخل هذه العصبة منذ انتصارها على الإسلاميين الراديكاليين. وعبّر هذا الانشقاق عن نفسه من خلال تعابير سياسية حملها متحالفون في الأطراف مع هذه المجموعات المتذمرة التي رأت في تجديد الثقة في ذات الرئيس لعهدة أخرى خطرا على مستقبلها وتهديدا لوجودها واستمرارها في الحياة. وانطلاقا من هذه المخاوف راهنت على مرشح آخر، نظرت إليه كممثل مأمون الجانب.. وكان هذا المرشح هو ذات الرجل الذي كان في فترة سابقة رئيس حملة المترشح بوتفليقة، ورئيس ديوانه، ثم رئيس حكومته قبل خروج هذا الأخير - علي بن فليس - عليه. وبالفعل نشط علي بن فليس حملة انتخابية في رئاسيات 2004 ضد بوتفليقة الذي راح يقدم نفسه على أساس أنه رجل المصالحة الوطنية.. ولأول مرة حدث زلزال داخل العصبة الظافرة، وتعرضت عصبيتها إلى أول شرخ منذ معركتها أو حربها السابقة ضد العصبة الإسلامية الراديكالية التي كانت حاملة لمشروع شامل يتمثل في القضاء المبرم على دورتها في الهيمنة والحكم.. ورغم أن العصبة الظافرة تمكنت من التغلب على المجموعات المنشقة داخلها وحققت نجاحا لصالحها بقدرتها على تجديد عهدة ثانية لبوتفليقة، وكانت في توجهها شديدة الاطمئنان لأن يكون بوتفليقة رجلها وممثلها الشرعي والوفي أمام أعين كل العصب التي لم تتمكن أن تكون في الدائرة المركزية للحكم، إلا أنها عجزت أن تحقق لنفسها شرعية عميقة غير متنازع عليها.. ولم تحقق القوة التي كانت ترجوها من هذا الرهان على رجل من خارج عصبتها، وبدون عصبة يمكن أن تهدد نفوذها وبالتالي وجودها.. لم يصل الانشقاق إلى درجة إحداث الانفجار داخل العصبة الظافرة، لكن لم يعد الحال كما كان عليه في السابق، حيث بدأ الهزال يسري في مفاصلها فترة بعد أخرى من خلال التنازلات التي بدأت تقدمها لممثلها الشرعي الذي يجيد بحكم حنكته وتجربته الطويلة في الحكم والتمرس على المناورة في التكتيك.. حيث راح بوتفليقة يعلن عن رغبته في تعديل الدستور، خاصة المادة التي تساعده على الذهاب إلى عهدة ثالثة، وبالفعل تمكن من انتزاع هذا التنازل.. وما إن حقق هذا التنازل بحصوله على عهدة ثالثة حتى راح يخلق وضعا جديدا يساعد على قلب ميزان القوة لصالحه، لكن ليس فقط كرئيس بدون عصبة بل كرجل يعمل على إضعاف مستمر لمواقع العصبة الظافرة في خطوة تلو الخطوة. وانبنت خطته التكتيكية في إحداث إرباك مستمر أشبه بحرب استنزاف داخل قلاع العصبة الظافرة نفسها.. بحيث فتح ورشة كبيرة ذات مستويات متعددة لإحداث إصلاحات عميقة في النظام نفسه، لكنها إصلاحلات تدعم موقع قدمه أكثر في إدارة اللعبة السياسية، وتزامنت معها حركة متصاعدة تمثلت في تجميد الدينامكية السياسية التي أطلقت من عقالها خلال اللحظة الناشئة من الشرعية الجديدة، وكانت نتائج هذا التجميد واضحة على ما آلت إليه الطبقة السياسية بدءا من الانشقاقات داخل الأحزاب السياسية، سواء كانت هذه الأحزاب ذات توجه وطني، أو علماني ديمقراطي أو إسلامي محافظ، لتلي ذلك عملية تطويق منظمة وكبيرة للمبادرة السياسية، وعملت على تقويتها فترة الانغلاق السياسي التي وقف حجر عثرة أمام تأسيس أحزاب قوية يقودها المنافسون السابقون لبوتفليقة في رئاسيات 1999. وكانت النتيجة الحتمية لمثل عملية التطويق هذه، حالة الجمود العام الذي أصبح يميز الساحة السياسية وظاهرة اللامبالاة التي راحت تعكر الجو الذي خلا من كل نقاش عمومي لأمهات القضايا، وبالتالي أضحى جوا فاسدا وخانقا. وهكذا انتقلت في ظل العهدة الثالثة من حكم بوتفليقة إلى فترة يمكن تسميتها بفترة اللاسياسة، بحيث أصبحت أحزاب المعارضة الموالية كلها تتنافس وتتباهى بالدفاع عن برنامج الرئيس..