لقد تحولت المصالحة من مشروع واعد وحي إلى مجرد شعار جامد وميت، وعليه فإن الخاسر الأكبر كان الحقل السياسي الذي انكمش إلى درجة قاتلة ارتبطت عودة بوتفليقة إلى الحكم باستعادة السلم، أو بالأحرى بإضفاء الشرعية السياسية على اتفاق بين السلطة وفصيل من جماعات الإسلام المسلح ظل في الكتمان ومحاطا بالغموض، ترتب عنه إنهاء حقبة يمكن وصفها بحقبة الحرب الأهلية في الجزائر. ويجدر التنبيه أن هذه العودة كانت المحاولة الثانية من نوعها.. فالأولى كانت عرضة للإخفاق، حيث كانت متزامنة مع الصعود اللافت للنظر لجماعات الإسلام المسلح التي رأت النور وتوطد وجودها جراء إيقاف المسار الإنتخابي ورحيل الرئيس الشاذلي بن جديد واغتيال محمد بوضياف رئيس المجلس الأعلى للدولة. هذا من جهة، ومن جهة ثانية إخفاق الجماعة السياسية المطالبة بتحقيق تسوية تاريخية بين السلطة والمعارضة المنتصرة في الإنتخابات التشريعية لعام 1991، وعلى رأسها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وجبهة التحرير وجبهة القوى الإشتراكية، والتي ستعرف فيما بعد بجماعة سانت إيجيديو.. وتأجلت هذه العودة في عام 1994، لخلافات بين بوتفليقة والفريق العسكري النافذ على الصعيد الإستراتيجي، لكن كذلك على صعيد الوضع الأمني المتميز بالإرتباك والغموض وباختلال ميزان القوة بين العصبة الجديدة الناشئة وبين المعارضة الإسلامية الراديكالية.. فعنصر الإتفاق والإجماع حول شخص مخلص كان بعيد المنال، وكان يبدو تحقيق ذلك بمثابة المعجزة المحفوفة بمخاطر لا حدود لها.. أما المحاولة الثانية للعودة فقد تميزت بترجيح ميزان القوة لكفة العسكر، وللقوى المناوئة للإسلام الراديكالي، خاصة بعد أن انزلقت جماعات الإسلام الراديكالي المسلح نحو مستنقع الإرهاب والمجازر التي هزت الضمير الإنساني، وأُلقيت المسؤولية بكاملها على كاهل مختلف قادة الإسلام الراديكالي.. لكن كذلك كان العسكر تحت نوع من الحصار الخارجي، وذلك بسبب حملة التشكيك التي قادتها أوساط إعلامية وسياسية حول المسؤولية الأخلاقية وبالتالي السياسية حول ما اقترف من تجاوزات وأعمال عنف طالت أنصار الإسلام السياسي، والمدنيين من سكان المدن والقرى والمناطق الجبلية.. وكانت الإستقالة المبكرة لممثل الشرعية الناشئة، الرئيس ليامين زروال، السبب المعجل لقبول هذه العودة التي تمت صياغتها ضمن معادلة جديدة، تمثلت في تعبير رجل الإجماع والوئام المدني كخطوة نحو المصالحة التاريخية بين فرقاء خاضوا نزاعا وصراعا وحربا من أجل الحصول على السلطة والحفاظ عليها.. وكانت هذه العودة إلى الحكم لعبد العزيز بوتفليقة مدعمة في المستوى الأول من طرف العصبة أوالنواة التي خرجت من الحرب منتصرة وظافرة على المستوى العسكري وإلى حد ما على المستوى السياسي الشرعوي إثر اختلاقها لشرعية سياسية منبثقة عن أول انتخابات رئاسية بعد رحيل الشاذلي بن جديد شارك فيها ممثلو العائلات السياسية الكبرى، من إسلاميين غير راديكاليين، ووطنيين محافظين وليبراليين إصلاحيين، كانت بمثابة إعادة الصياغة لبنية السلطة ولميزان القوة وإعادة هيكلة لمؤسسات الدولة.. وكان إنشاء حزب التجمع الوطني الديمقراطي يصب في عملية توطيد المشهد السياسي الجديد المعبر عن صعود وانتصار عصبية سياسية جديدة أصبحت لها أجهزتها لضبط اللعبة السياسية، وترسانتها القانونية والسياسية ورجالها وزبائنها وخططها في بسط النفوذ ليس داخل دواليب الحكم ومؤسسات الدولة فحسب، بل داخل فضاءات المجتمع.. لكن هذا المنحى نحو النزوع لشمولية جديدة تكاد نصف مستترة سرعان ما أثار حفيظة حلفاء العصبة المنتصرة الذين خاضوا الحرب إلى جانبها في وقت الشدة، والذين عبروا عن احتجاجاتهم في الشارع وتحت قبة البرلمان ضد ما وصفوه بالتزوير المفضوح في الإنتخابات التشريعية التي فاز فيها حزب التجمع الوطني الديمقراطي بشكل مشبوه وملتبس.. وكان ذلك أول انزلاق للعصبة المنتصرة في ظل مرحلة الشرعية الناشئة.. وبدت في نظر الكثيرين عودة بوتفليقة إلى الحكم أن العصبة الجديدة قد تخلت عن تلك العادات السيئة التي أدت إلى حالة انغلاق النظام على نفسه وإلى اللحظات السوادء التي عاشها الجزائريون والجزائريات في ظل الحرب الأهلية.. ورغم موجة التشكيك التي أثارها منافسو بوتفليقة في رئاسيات عام 1999، إثر انسحابهم من المنافسة الرئاسية، إلا أن النوايا الحسنة هي التي انتصرت طيلة ولاية بوتفليقة الأولى التي راح يصنع فيها صورة لنفسه كرجل سلم ورجل إجماع وطني، ورجل مصالحة وطنية، وهذا ما عبّد له الطريق نحو ولاية ثانية، حيث تحولت في ظلها فكرة المصالحة الوطنية إلى مشروع سياسي قادر على إنجاز المرحلة الإنتقالية من العصبية إلى السياسة، ومن الشرعية التاريخية "الثورية" إلى الشرعية الدستورية القائمة على الإرادة الشعبية.. لكن ما الذي حدث خلال العهدة الثانية؟! إن المصالحة الوطنية توقفت عند عتبة العملية التقنية، وبالتالي تجنبت تحرير البؤرة السياسية والقوى السياسية الممكن انبثاقها من ديناميكية الحراك السياسي والإجتماعي الجديدين، وهذا ما ساهم في إشاعة حالة من الإحباط لدى مختلف الفاعلين الحقيقين. كما أن هذا التطويق التقني لفكرة المصالحة وتجريدها من المشروعية نتجت عنه إرادة فوقية أو غير واضحة وارتبطت بآليات الذهنية القديمة المعادية للسياسة والمتشبعة بهاجس الرقابة الشاملة ذات النزعة الضبطية لكل حراك خلاق، وهاجس الخوف من نشوء أية قوة واعدة، مؤسسة للمعنى من خارج الإطار أوالقطيع.. ولم يكن الحلف الرئاسي الذي تشكل عشية العهدة الثانية محورا لتحرير السياسة وإطلاق المبادرة بل كان تطويقا لهما ودعما منتظما لإفراغ المشروع من كل مضمون سياسي وتاريخي.. وهذا بدوره قاد إلى تصحير العقل السياسي وتحنيط الولاء إلى درجة أشبه بالبيعة وبكل ما تحمله البيعة من تبعية وإجهاض للفعل الحر والمبادرة.. لقد تحولت المصالحة من مشروع واعد وحي إلى مجرد شعار جامد وميت، وعليه فإن الخاسر الأكبر كان الحقل السياسي الذي انكمش إلى درجة قاتلة، بحيث فقدت أحزاب التحالف الرئاسي شيئا فشيئا هويتها السياسية وفاعليتها، وتحولت إلى لجان مساندة فاقدة لصدقيتها وشرعيتها ومشروعيتها.. وهي على ما وصلت إليه من انحطاط أضحت عناوين صارخة للعطالة السياسية.. ولذا كان مرض الإنشطارية والتمردات داخل الأحزاب والتنظيمات السياسية، العريقة منها والناشئة، النتيجة المنطقية لسلطة العطالة.. عطالة الفعل والمبادرة، عطالة الخطاب، وعطالة التفكير والمخيال.. وهذا ما فتح الباب على مصراعيه أمام ميلاد لحظة يمكن توصيفها بلحظة الهجانة السياسية.. وهي لحظة خطيرة في حياة المجتمع السياسي، مدمرة للحياة الحزبية ومخربة للخطاب السياسي.. إن الهجين السياسي هو مخلوق اصطناعي، أشبه بالجرثومة ذات الإنتشار السريع، المعدي، لا يؤمن بالقيم ولا بالمبادئ، ولا يعطي أي اعتبار للصالح العام، ولا يولي أي اهتمام لمخاطر الإنحرافات والتجاوزات، ولا لمستقبل الجماعة الوطنية أمام مصالح العصبة ( le clan ) أومصلحته العائلية والشخصية.. وهو لا يجد أي حرج في الإنتقال من حزب إلى حزب نقيض إذا اقتضت مصلحته ذلك، وهذا ما لاحظناه بكثرة في سلوكات النشطاء الحزبيين في فترات الإنتخابات المحلية والتشريعية.. ولا يتردد في الإنقلاب على حزبه، وعلى قيادة حزبه من أجل الفوز بمنصب في الحكومة، أيا كان توجه هذه الحكومة.. إن الهجانة السياسية هي المرض الطفولي للسياسة في جزائر اليوم، وهي السم القاتل للحياة الحزبية التي انحدرت نحو درجة اللاصدقية والتفكك والإبتذال.. وهذه الهجانة السياسية لم تتوقف عند الحياة الحزبية، بل تغلغلت داخل مفاصل الخطاب السياسي الرسمي وداخل شرايين الحياة السياسية العامة، لتدفع دفعا بمن يوصفون بالفاعلين السياسيين للتحلق حول نوى جديدة هي العصب الخفية المنتجة بدل الخطاب السياسي للعصبيات السياسية بالمعنى الخلدوني، أو بالأحرى النيوخلدوني، وفق استرايتجية من التحالفات المعقدة يوحدها الريع والكسب غير المشروع وسلطة النفوذ ووحدة الإنتماء الضيق وقداسة الإجتماع تحت لواء العصبة، وتقديم الولاءات العمياء لمن يوفر لها غطاء الحماية والقوة والتغول ضد من تعتقد أنهم من العصب غير الصديقة والعدوة.