بحلول 6 أكتوبر، تكون قد مرت سنة على رحيل الفنان محمد بوليفة، تاركا وراءه تراثا من الكلمات والألحان التي قدمها للأوبرات، وللأغنية الجزائرية والعربية على حد سواء. وقد غنى المرحوم عدة قصائد للشاعر سليمان جوادي، وهي كثيرة. لقد كان هذا الأخير معنى وعلامة في حياة محمد بوليفة، إذ لا يمكن الحديث عن أحدهما دون الإشارة إلى الثاني. كانا شبه متلازمين لفترة طويلة، سليمان يكتب ومحمد يلحن ويؤدي في ذلك الجو الخرافي الذي سلاما عليه. كانت الجزائر جميلة وآمنة، وكان الناس أفضل من اليوم، أفضل بكثير على عدة أصعدة. كان هناك ما يشبه ممالك الجنون والدهشة. في الطابق الحادي عشر بحي العناصر أقمنا في بيت واحد، قبل أن يعين جوادي مديرا ثقافيا لولاية الجلفة. وبقينا، أنا ومحمد بوليفة نجوب البلد من شرقه إلى غربه، إلى شماله وجنوبه: وهران، بسكرة، الوادي، جيجل. كانت رحلات مضيئة رافقنا فيها بعض الأساتذة والكتاب في مناسبات كثيرة. ولم يبق اليوم من تلك الذكريات سوى الحنين والفقدان المبين. إكتشفت، مع الوقت، أننا خسرنا كثيرا. مات أصدقاء وهاجر آخرون: الدكتور أبو العيد دودو، الدكتور أحمد الأمين، الدكتور محمد الصغير (زوربا)، الدكتور والشاعر العراقي محمد حسين الأعرجي، الدكتور والشاعر السوداني عبد الرحمان جيلي، والآخرون والآخرون. أولئك الذين هاجروا إلى فرنسا (الشاعر عمار مرياش والمسرحي أحمد بوخلاط)، وإلى كندا (المخرج المسرحي علال خروفي) وإلى الإمارات العربية (الشاعر والإعلامي عياش يحياوي)، وأولئك الذين بقوا هنا مثل الخريف: الدكتور فني عاشور (الذي غنى محمد بوليفة من كلماته: ضمَ الحبيب، وكنت وحدي أغني)، والدكتور عبد العزيز بوباكير (الذي ظل مثل قصيدة تتحدث عن القصائد الحزينة)، والدكتور أحمد خياط الذي لم يكفه رأسه للبوح. المقام لا يسع لذكر الأسماء التي كانت تشكل مجتمعنا الصغير الذي خلقناه في العاصمة، في الطابق الحادي عشر، بلا مصعد، بعيدا عن السياسة والصخب والمصالح والكذب. كان هناك المسرح والترجمة والقصة والرواية والشعر والموسيقى والغناء والجوقة والتمثيل والجدل في بيت غدا ملجأ وبلدا، وما أكثر الفنانين والكتاب المتسكعين الذين مروا من هناك، أولئك الذين لا مال لهم ولا سكن. كان بيت محمد بوليفة جامعة ومعهدا فنيا ليس من السهل أن يخلق مثلهما في وقتنا الراهن، كما كان فندقا صوفيا لا توجد فيه سوى الآلات الموسيقية والدواوين والنصوص المختلفة، وبعض الطعام الذي يصلح للنمل. بداية الانحطاط: لم يحدث إطلاقا أن تنازل محمد بوليفة عن مبادئه من أجل المال، رغم أنه عاش العلة والقلة في أوقات مختلفة. ولم يلب كثيرا من الطلبات التي كانت مشبوهة، أو تلك التي كانت لها خلفيات ملتبسة. كما رفض الإغراءات التي قدمت له في وقت ما، وبحضوري الشخصي، سواء من قبل بعض الشخصيات، أو من قبل بعض الهيئات والمؤسسات التي كانت لها مقاصدها، أو من بعض المطربين والسفارات. كانت التنازلات، بالنسبة إليه، شكلا من أشكال القضاء على مساره الملتزم بنوع من الغناء. لذا ظل يفضل الاستمرار في تقوية مساره، وفق تصوره الذي يحمل مغزى وقيمة. وكان يحدث أن يرفض نصوصا شعرية لا تعجبه، من النوع الذي يحمل أيديولوجيا ما، خاصة إن كانت مباشرة، أو من النوع الطارئ الذي لا يفيد سوى المقام والمرحلة، أو من ذلك التوجه الشعري المليء بالصخب والثورة والبنادق والشعارات الكاسحة. وهكذا ظل، مثل أي أكاديمي، يبحث عن الكلمات التي تحمل ديمومة، تلك القادرة على الاستمرار، بصرف النظر عن متطلبات السوق والجمهور. وكان يعي جيدا ما يقوم به، مدركا التراجعات والانزلاقات التي بدأت تنخر البلد. ناقشنا في الثمانينيات وفي مطلع التسعينيات متغيرات الذائقة في الجزائر، وكانت أغنية "الراي" بصدد غزو الأذهان والمحال التجارية، بما لها وما عليها. وكان محمد بوليفة، كما نحن جميعا، مصدوما بمستوى الكلمات التي نزلت إلى درجة سوقية لا عهد له بها، وفي تلك الفترة أدرك أن المجتمع كله بدأ ينهار ثقافيا وأخلاقيا، وليس الأغنية وحدها. لم يستسغ الأمر، وموازاة مع ذلك، استمر في انتقاء القصائد التي يرغب في أدائها، غير مبال بأمرين مهمين: الشهرة والمال. كان يريد أن تكون حياته الفنية صافية وصادقة، ومفيدة أيضا. لكنه كان يحس بالقهر، أو بما يشبه الانكسار الفج. لقد كانت أغنية "الراي"، كما الأغنية الخفيفة، السريعة الاستهلاك، تلك الأغنية التي يمكن العثور عليها في سوق الرثاث، وفي المفرغة العمومية، بصدد محو الموروث الشعري الكبير والحلول محله، بدعم وتشجيع من قبل أطراف وجماعات كانت لها مقاصدها وخططها التي جسدتها خطوة فخطوة: انتهى الشعر الراقي إذن، انتهى بن قيطون وحيزية وعبد الحميد عبابسة ومحمود درويش ودرياسة ومارسيل خليفة والعنقى وأم كلثوم وسيدي لخضر بن خلوف. وعندما سأل سليمان جوادي أحد هؤلاء، في شارع باستور بالعاصمة، عما إذا كان يعرف المطرب والملحن محمد بوليفة، أجاب باستعلاء واحتقار "ما نسمعش بيه". كان هذا الأخير لا يعرف جملة واحدة بالعربية، ولا يعرف بيتا شعريا واحدا بالفصحى. وبالمقابل كان بوليفة باحثا حقيقيا، وكان يتعامل مع النصوص والمعجم كأحد المتخصصين في الصناعة المعجمية وعلم الدلالة. إذ طالما ناقش الشعراء والأكاديميين في مسائل دقيقة، مستبدلا كلمات بأخرى، مقدما مقاطع ومؤخرا مقاطع أخرى للضرورة البنائية، أو خدمة للتتابع والمعنى والمقصد. وأما مغني "الراي" فكان يجمع المال، ما عدا المال، وبكلمات من القصدير والأسمال. في ذلك الوقت تحديدا تأكد محمد بوليفة بأن الوقت ضده، والذوق ضده، والمرحلة ضده، والأخلاق الجديدة ضده، والكلمات المعتوهة ضده. وكنَا نحاول، عبثا أحيانا، أن نقنعه بأهمية أغانيه وخياراته الفنية والجمالية التي لن تفقد ألقها، بما في ذلك الأغاني التي كتبها بالعامية الجزائرية في سياقات واقعية، أو تأسيسا على المتخيل، ومنها أغنية "عييت نقولك لا لا، عييت نقولك ارجع" (الأغنية التي كتبها بحضوري في فترة وجيزة بعد مشهد عشناه معا في بن عكنون ذات شتاء)، أو أغنية "بعيد بعيد" التي كتبها عندما كان طالبا في بغداد، كما الأغاني التراثية الأخرى التي رفض تسجيلها في التلفزيون لولا إلحاحنا (أغنية مرجانة وأغنية خلَى ما خلَى). ربما كنا نضغط عليه في وقت ما، نحن المنهارين، كي لا ينهار بفعل التقلبات التي شهدها المجتمع وانتقال الأغنية إلى ممارسة التجارة الفاحشة مستغلة الظرف ووفرة الأموال التي لم توضع في مكانها الحقيقي. وهكذا بدأ يبتعد عن الغناء، مكتفيا بالتلحين لمطربين مهمين، ومنهم وردة الجزائرية. في ذلك الوقت بدأنا نخسر قامة غنائية يصعب تعويضها. حاولت مرارا أن أقنعه بضرورة العودة الغناء كما كان، كما حاول آخرون، قبل أن يصبح مديرا لمعهد الموسيقى وبعدها، سواء أثناء لقاءاتنا المتكررة أو عن طريق الهاتف، وعند ابتعادي عن العاصمة، بيد أنه لم يكن متحمسا لذلك. كان يرى أن الأوقات تبدلت وأن القيَم ساخت كلية. وكان يقهقه كعادته. لقد كانت قهقهة محمد بوليفة إحدى علاماته المميزة، وطريقة من طرق تمرير خطاباته، السعيدة منها والحزينة. لم يفلح أحد في إعادته إلى البهجة القديمة، إلى عالمنا وجغرافيتنا، وإلى تفكيرنا الذي تجاوزه الوقت. لقد انتهى التفكير في الوطن كقيمة، كدين علينا، وكتراب وجب أن نخدمه. ثم صار مجرد تراب وجب أن نختلسه، ووجب عليه أن يخدمنا في الوقت الذي نبتزه بكل طاقاتنا ومشاعرنا. كما أصبحت الأغنية أداة من أدوات الثراء، على حساب الأخلاق والفن، كما يجب أن يكون، بهيَا ومسؤولا. وعادة ما كان بوليفة يؤكد على هذا الجانب. لم أسمع بمرضه في الوقت المناسب. علمت بذلك متأخرا، ولم يخبرني بالأمر. كان يخشى أن يغرقني في انهيار. وإذ كنت أحدثه عن التسجيلات الجديدة، كان يردَ: سأرى، أو لا أدري يا خويا سعيد"، ثمَ علمت بالأمر. أدركت وقتها أن هذا المطرب الملتزم بصدد الاستعداد للالتحاق ببارئه، بذلك الصمت الجليل، وبذلك الوقار، وبتلك الهيبة، وبذلك الجلال. ثم كان ذلك اليوم الحزين: في الطريق إلى وهران تأكدت من الأمر عندما هاتفته مستفسرا عن صحته. لم يكن قادرا على الكلام، كان صوته يأتيني من مغارة سحيقة، من جهة ما من جهات المجرَة. ركنت السيارة واستمعت إلى كلماته الأخيرة. وفكرت في الأصدقاء الذين عرفوه كمطرب عاش بالكرامة وللكرامة غنى كثيرا، فقيرا وقانعا. فكرت في سليمان جوادي وفي عائلة الفقيد. كان محمد يقول لنا إن رزقني الخالق ببنت سأسميها نغم. فكرت كثيرا في نغم التي راسلتها لاحقا. وكانت أنغام محمد بوليفة تغزو ذاكرتي المتهالكة بفعل الأفعال الحاصلة. سيموت جزء من الأغنية الجيدة بعد أسابيع، ولن نسمع ثانية هذا الهرم يعزف على العود مرددا: "سأزور كل حديقة كانت لنا فيها ذكر"، أو "عاد القطار من البلد"، الوقت الآن لقيَم أخرى، لأغنية أخرى لها اهتماماتها التجارية. لكن محمد بوليفة سيظل حيَا فينا، وفي ذاكرة كل من له ذائقة تعرف قيمة القصيدة، وقيمة أن تغني لبلد له هواية مختلفة، كهواية الخربشة والنهب. كانت الأغنية الجديدة تنهب أيضا، لكنها كانت تنهب بشكل ناعم ومحكم. وها نحن نجني ثمار النهب الناعم الذي يتربى عليه الجيل الجديد، لغة وموضوعا وجمالا وفنا. وداعا بوليفة، أيها الكائن الجميل.