هل قرأتم يوما أجسادكم؟ هل ذهبتم إلى أبعد من كونها عجينة منتفخة بفعل خميرة الروح؟ من كونها أكثر من لحم ودم وإحتمالات مؤجلة لشيخوخة مريضة ستأتي قريبا؟ هل تلمستم العذوبة الطالعة من ثرثراتها التي تسهل فكرة زوالكم فتحيلها حديقة مفتوحة على حقول مترامية ؟ هل تركتم أبوابها مشرّعة عن قصد فأحسستم بغزارة حضور الزائرين المبتهجين المندهشين؟ أأبكتكم رؤية القتلى الممددين في سراديبها؟ أشرّحتم اللغز الهائل للبركان؟ أهرعتم لبلسمة الصخر وإنقاذ ما تبقى من الذهب ؟ أجسادكم شموسَكم ،خبزَكم، قهوة الصباح، كبوة الظُهر، وعند المساء هي هذا الشعور الذي يكلل كاهلكم ويمسّد بلسانه الطريق ليهتدي، ولا طريق · هي الحرية التي لا تشبه أية حقيقة مكتشفة، هي الضوء الذي إذا ما فضحته فراشة الوعي تطلع منه اقواس قزح وحيوات وكميات فاتنة من التعب· أجسادكم مضجع لعقولكم وأجسادها، ووريد لقلوبكم وأجسادها، هي التراب الذي فيه ستوارى أرواحكم وأجسادها ! لكل ذرة في الكون جسد، ولكل جسد حليبه، وللحليب نزوات بئر قابع في قلب حكاية، وللحكاية أحصنتها وأبطالها وميادينها وموتها، أتمكنتم من الإصغاء إليها حتى النهاية؟ أصفقتم بعد إسدال الستارة؟ أأملتم بعد أن صعقكم الكبرياء؟ فقط كبرياء الجسد مسموح له التباهي لا الخنوع، والتحليق لا المشي، والشفافية لا الحضور، وعليكم أيضا ألّا تحسدوه، بل أن تصفقوا لإنزلاقاته التي تستولدنا أطفالا صغارا، وترمينا في مهب المطارح النادرة وتضيعنا في معاقل الإختفاء، نختفي لنتمرن على الصوت الخفيض، لنعتاد سكان الهواء، ولنصيب نقاط الضوء التي تعلو جباههم، لنتلو المحو، ثم نعود لنظهر فيه، في الجسد،على شاكلته، في حلة إغماء ،أو وعي مدجج ،الأصبع في الحنجرة والقيىء برائحة الياسمين··· الجسد هو البعد الغزير لحالة متواصلة من الحب، هو أن تألف الأسئلة القلقة الغضّة التي تدخل في الرحم لتصرخ من الرأس، ولتطلع في الوسط المفرغ من الجليد ومن الحنطة ،هو الذي يبقينا معلّقين في الهواء فوق ساحات نضالنا اليومي وقتلنا المتمدن لقبائل تفترش واحات لاوعينا ،الحب الذي يوقف تهليلنا لغربتنا عن أجسادنا التي بدورها تصير عدوة لنا حين لا نعيش معها بما فيه الكفاية ،حين لا نشاركها إختناقها وإمتعاضها ،حين لا نعْبُر بها إلى الجهة المقابلة دون تردد ،الجهة العظيمة الخالية من المسكنة والضعف وإدعاءات الشرف الذي عليه بدل أن يوقظ فينا الحذر والتردد والكذب ويرعب خيالاتنا الجميلة ويبعثرها ،أن يبرر حريتنا وعرينا وركضنا الشقي وراء ما نريد وما يرطب سيرتنا ويبدد حيائنا ·عليه إيجادنا بدل أن يمحونا ، يصادق فينا قلوب الآخرين ويعانق معنا نشوتهم ويذهب عنا وعنهم التعب والهم والخوف الذي لو نفخناه بفمنا سيتشعب بأشعته ويحلّق تاركا وراءه ألوان اللا شيء· أما انا، فإن لم يكن الإدمان على الأهواء، فإني على شفير جسد أبدي وإلاّ فموْت لطالما كان مؤجلا··إن لم يكن التردد في سبك الرؤى الحرة المفعمة بالقبل والمسترسلة بالعناق ،فإني على وشك إبتلاع البحر، أو رفع ساقيّ للقراصنة وإلاّ فتعفني آت لا محالة··إن لم تكن كل الأشياء المضاءة في رأسي، تواطؤ جسدي مع مثلية الزمن ،فسأمشي كل شراييني حتى أجرب سم الذروة أو أدمغ اصابعي المسجاة على الجوانب، وإلاّ فالحنين فقط لأشياء مسرعة ·إن لم تكن خواتم حلمي ذكورا ضللتهم رغبتي عني، فسأختنق عند أول مفترق لسرير مثل طريق يبتلع ثعابينه··مثل بلاد تقذف النشوة مطرا· للتحذير فقط: كل ما يمر بي انفاس طريدة ، كل من تقع عليه عيني مشروع سجين، وكل ما يسقط على جسدي سينجب شعوبا: ،أهداب حبات رمان ، قلوب خاوية ،لعاب ،رجل لا يعرف كم شمسا تطلع بين السرة والأرداف···كل ما يحيطني ينهك كأديم غضّ ، يتبلل كبيوت تحن لرثائها ، يتعرق كضاحية تسعل سيارات،كإمرأة تسعل العمر··يعتصر خمرة بدنه ،كمن يريد اكتشاف ماهيته ،شظايا تتسرب دما طافحا عند كل مسام ،يجوع كمن يقرأ جسد·· جسدي جائع كيفما إتفق ،طفل مكدّس بالمشتريات ويريد كل شيء ·مثلوم بسوسن ينكل تربته ،بأسماك تلوك الحانات ·جسد مدلل هذا الذي يخبئني، مستبد كالممكن، واهم كالمستحيل، صهيله مساحات متتالية، وصمته لا يقبل التأويل· لا ينام الليل إلا في لحافه فلا يستعين بحذر ولا يأكل ورده بل تبغ الآخرين··جسدي المار منذ أجيال تحت الحوافر منمش كوجهي غائر بالريبة كيقيني بأن كل شيئ ذابل حتى البرد··كان يمكنه أن يصير كونا كاملا أن يختزل الوقت ومتاعب الإنتصارات· كان أحرى به ان لا يخجل من طلقاته الفارغة ،فالطريق منه إلى قلبي لعبة قمار··كان يمكنه أن يخفف نهما وجلبة و فقاقيع ···لأجله لم أدثر بالعلم حين رجموني بالحجارة، ولم أهتدي حين أروني جثتي عائمة ،ولم أتوب، فلم ينوح على قبري احد·· جسدي الساكن بين الحاجب و الحاجب، بين اللحظ والحاجب ،بين المآق واللحظ و الحاجب، بين الجفن والدمع والرمش والحاجب ، المتنقل بين الذراع والذراع ، الراقص بين الأصبع والأصبع ، التائه بين عربدة الرؤية و ما يحجبها، السابر الخيال الذي يجلوه الممنوع ، المفتون بالممنوع المتأرجح خلف إيقاع النظر ،المحترف حينا المأ لوف، والغريب احيانا كبرعم، المتواطؤ حينا مع بدائية العقل ، والمغبّر أحيانا كحلم·· الجسد الوسيم كقناع المطمأن كراهبة المتباهي كسرير في مهب الحياة ،المرجوم كزانية، الملعون كمشعوذ، المشتهي حتى التراب،الواثب سماوات ليصل الجحيم·لن أبخل به ولو لمرة ! سأهب ساقيّ للمقعدين، ويديّ لمن نسوا اياديهم معلقة بين الوداع والتحية والصحون، ونهديّ حليبا لمن فقدوا شيئا يشبه أضلعهم، ولساني المدرب على المغازلة و اللحس والشم ، سأعطيه لمن لم يعتق حنجرته بعد، ولم يألف آبارها·وقبلتي ف ا لمن يشتهيها ا ، وحظ أنثى من حظ ذكرين ·· أما ما تبقى من جسدي، فسأقطّعه قطعا صغيرة وأنثره غبارا يلقح الريح، لتحبل زمنا ،وتنجب حبا· كل نبض سيرتقي فيه· كل نفس سيلتقي الضوء، وكل لحظة ستبصم· بعدها لن يبقى من يرجم بالحجارة، ولا من يخاف جسده، ولن يدفن الجسد في الأسفل بل في الأعلى وأعلى الأعلى،مع الشمس والقمر والظلال·