أما الشق الثاني بالنسبة للجديد في الإصلاحات فهو إعادة الاعتبار لتجارة الجملة والوكلاء التجاريين وهذه العملية التي انطلقت أثارت حساسية أولئك الذين سيفقدون امتيازات مخفية وغير مشروعة، ولعل المواطنين والمواطنات يتذكرون كلمتي في لقاء الصحافة في بداية السنة لما ذكرت من المستفيد من عملية الطرابندو ومن وراء السوق السوداء وأشرت إلى من نصبوا أنفسهم أوصياء على التجارة الخارجية وأوصياء على أجور المهاجرين الذين كانوا يرسلون أكثر من 50 مليون فرنك والباقي يمر عبر الحقائب وكذلك دم المهاجرين الذين يعملون في الوقت نفسه على تحطيم السوق والإنتاج الوطنيين"... وشدد حمروش في رده العنيف على الاستقالة أن هذا "الإجراء لم يرض السيد بيطاط وتياره وهو الشيء الجديد، إجراء الشفافية والحق، وقلنا على كل من يريد ممارسة التجارة أن يعلن صراحة عن اسمه، وأن يمارس هذه المهنة في الشفافية، ولو أن الحكومة قد اتهمت أنها ستسمح لهؤلاء بتبييض أموالهم، لكنهم اكتشفوا في الأخير أنه لا يمكنهم تبييض أموالهم لأنهم أصبحوا أمام خيارين، إما أن يعلنوا عن أسمائهم مباشرة وتصبح لهم عناوين وبالتالي ستسقط مجموعة كبيرة من الأقنعة، وسيفاجأ الرأي العام ببعض الأسماء التي تملك هذه الأموال، هذا يرفضونه، أو الإحجام نهائيا عن ممارسة التجارة اللامشروعة وهذا سيسد عنهم الأبواب أمام الكسب غير المشروع"، وأشار "أن كل هذه الضجة المثارة من حول هذا الموضوع (الاستقالات) ناجمة عن الخوف من الإصلاحات ووتيرتها السريعة"...، وعلق "المساء" الجريدة الحكومية الموالية لمولود حمروش عبر مقالة افتتاحية حول استقالة بيطاط، متجهة إلى نفس ما ذهب إليه حمروش "إن هذه الاستقالة في هذا الوقت بالذات لا يمكنها إلا أن تكون محاولة لإسقاط حكومة حمروش وتجاوبا مع لائحة سحب الثقة من الحكومة التي يروج لها النائب عبد القادر شرار، واستجابة لنداء أحمد بن بلة لإسقاط الحكومة وتعويضها بحكومة انتقالية لا مهمة لها سوى تحضير الانتخابات القادمة، ويعزز هذا الاعتقاد إخلاء السيد رابح بيطاط لحظيرة السيارات بالمجلس من سيارات النواب لتخصيص ساحتها لاستقبال بن بلة ووجود السيدة زهرة ظريف (حرمه) وصديقه الحميم عبد العزيز زياري في لجنة مساعدة العراق التي يرعاها أحمد بن بلة، وزيارتهما له في جنيف بأيام قبل عودته للجزائر.. وهذا لتبييض صورته السوداء التي تكونت لدى ابن بلة أيام وجوده في الحكم إلى جانب الراحل هواري بومدين حتى يكفر عن ذنوبه وربما يدرجه في الحكومة التي يعتقد أنها على وشك التشكيل"..، كما رجح كاتب افتتاحية "المساء" أن تكون لهذه الاستقالة "علاقة بالخطط الخفية للسيد بيطاط بحيث مكنه دهاءه السياسي من التعايش مع كافة الأنظمة، (...) ومحاولة منه لإسقاط الأخبار التي تدور حول تورطه في مسألة بيع سيارات المجلس بأسعار بخسة ورمزية لزملائه، وكذا لجنة التحقيق في الغرفة الوطنية للتجارة واحتمال تورط ابنه في عناصر التحقيق ومحاولة إبداء بعض المسؤولين السابقين الإدلاء بتصريحات يمكن أن يكون بيطاط طرفا فيها، لجنة التحقيق في 26 مليار، ومطالبة عدد من النواب نشر نتائج تحقيق هذه اللجنة بعد فترة معينة وكشف مدى تمسك بيطاط وأمثاله بالقطاع العام وتسييرهم له بما يخدم مصالحهم". أدرك حمروش أن ما كانت وسائل الإعلام الموالية له تطلق عليهم الحرس القديم، أو بارونات جبهة التحرير قد أبدوا من اللحظات الأولى استماتة شديدة للدفاع عن مواقعهم، بل عملوا على إعادة تنظيم صفوفهم للانطلاق في هجوم مضاد ومباغث ضد حكومته الفتية التي كانوا ينظرون إلى فريق، أنهم مجرد بيادق يستعملها الشاذلي بن جديد في معركته المقدسة من أجل البقاء في الحكم والاستمرار فيه.. واعتبر الإعداد الأول لانتخابات محلية تعددية حرة منذ الاستقلال ساحة حرب مثمرة ومفيدة لخصوم الشاذلي وحكومة حمروش.. خاصة وأن ثمة رئيس بدأت ملامحه ترتسم في المشهد السياسي العام والذي كان يبدو بدون تجربة وخبرة، وهو يشبه الحصان الأهوج والحرن، وهذا ما شجع الحرس القديم باستعماله وهم على أبواب المعركة الجديدة التي ستظهر في ظلالها ملامح القوى الجديدة المنبثقة عن سباق المحليات.. وبالفعل بدأت الدعاية الإسلاموية تنتشر في المساجد، وفي الأسواق وفي الشوارع، وكان الإنقاذيون معتدين بأنفسهم وراحوا يعتبرون هذا الامتحان امتحانا ليس فقط لقدرتهم على التجنيد والتعبئة، بل كذلك امتحانا لنوايا السلطة من حيث إذا ما كانت جادة في الدخول إلى عهد جديد، عهد الحرية والتعددية، وكان عباسي وعلي بن حاج خلال تجمعاتهما الحاشدة يلوحان بحرق البلاد إذا لم تف حكومة حمروش بوعودها، وهو تنظيم انتخابات حرة وشفافة... وأول ما بدأت هذه المعركة، كانت في المساجد.. ووصفها المراقبون بحرب المساجد بين جبهة الإنقاذ ونظام الشاذلي.. وكان قاصدي مرباح وبيطاط ويحياوي وبوتفليقة ووجوه أخرى من قدامى الأفالان سعداء بدخول جبهة الإنقاذ ساحة الحرب ضد حكومة حمروش وذلك اتقاء لأي نتيجة لا تكون لصالح الإسلامويين الراديكاليين.. وبالفعل حدثت خلال هذه الفترة اجتماعات في بيت محمد الشريف مساعدية بجانب شريف بلقاسم ومحمد الصالح يحياوي مع عباسي مدني وعلي بن حاج، وفي اجتماعات أخرى انضم إليهم قاصدي مرباح ولويزة حنون التي كانت في تلك الفترة مغازلة لجبهة الإنقاذ ومعادية لحكومة حمروش، وكان هؤلاء بحكم قدمهم في النظام ومعرفتهم بأسراره ودواليبه ينصحون جبهة الإنقاذ بعدم الثقة في الشاذلي، وحكومته التي يتولاها مولود حمروش.. وانتبهت الحكومة إلى خيوط "المؤامرة" التي يختفي وراءها الحرس القديم للزج بجبهة الإنقاذ كبيدق في المعركة الموجهة ضد الثنائي الشاذلي/ حمروش، فلجأت إلى دعم غريم جبهة الإنقاذ، وهو تيار الإخوان بزعامة الشيخ محفوظ نحناح بحيث دعمت حكومة حمروش حزب حماس، فتلقت هذه الأخيرة دعما ماديا وكذلك سياسيا خلال مؤتمرها الأول، وقدرت المعونة التي قدمتها لها حكومة حمروش، بمليار سنتيم.. آنذاك.. واعتمدت حكومة حمروش بالإضافة إلى حماس على الزوايا، فقامت بإخراج شيوخ الزوايا من كهوفهم بعد أن ضرب عليهم منذ فترة هواري بومدين حصارا كبيرا، وعقدت لهم مؤتمرا تأسيسيا في قصر الصنوبر مدعمة إياهم بجمعية أئمة مساجد الدولة الرسمية، وعرفت حرب المساجد التي انخرط فيها حزب جبهة الإنقاذ بالوكالة عن خصوم حمروش وأعداء الشاذلي لحظات حرجة وصاخبة استعملت فيها قبضات الأيدي والسلاح الأبيض والأسلحة التقليدية كبنادق الصيد وغيرها.. فمسجد سعيد بن زيد ببلدية سبعة شيوخ، دائرة الرمشي، ولاية تلمسان، مثلا تحول أثناء ليلة إحياء ليلة القدر إلى معركة حقيقية دارت رحاها بين أعضاء الجمعية الدينية لهذا المسجد الموالية للإنقاذ، والذين كانوا يشرفون على تنشيط حفل ديني ساهر، ومترشحين موالين للحكومة لانتخابات 12 جوان 1990، المحلية، وقد استعمل في هذا العراك حسب تقرير لهذه الجمعية رفعته إلى السلطات المحلية المعنية وإلى المكتب التنفيذي الولائي للجبهة الإسلامية للإنقاذ، السلاح الأبيض من عصي وسكاكين وقطع حديدية والسيناريو نفسه يتكرر في عدة مساجد على مستوى التراب الوطني، وفي تطور هذا الصراع بين الموالين للإنقاذ ضد حكومة حمروش قامت رابطة الأئمة الحرة برفض المرسوم الحكومي التنفيذي الصادر بتاريخ 23 مارس 1991، معتبرة إياه أنه "لا يخرج عن إطار السياسة الهادفة إلى تهميش المسجد وتقزيم وظيفته تحت الرقابة السياسية للإدارة" والملاحظات التي أبدتها الرابطة حول المرسوم كانت كالتالي: 1 (...) ما يؤسف له هو غياب الإمام عن المرسوم حيث لم يشارك في إعداده ولم يدع لقراءته إلا بعد صدوره كمرسوم وحينها دعته مفتشية الشؤون الدينية للقراءة والإطلاع، والسؤال هو أن منطق السير بالعصا قد ولّى مع مجيء عهد الحرية.. .. يتبع