صرح قاصدي مرباح وهو يتقلد مقاليد الأمور في أول حكومة جاءت جراء انتفاضة أكتوبر أنها تشبه خط موريس، وهو الخط الكهربائي الشهير الذي وضعه الجيش الكولونيالي إبان حرب التحرير على الحدود الجزائرية التونسية كذراع واقٍ يحد من انتقال الأشخاص والأسلحة عبر الحدود.. لكن هل فعلا كانت حكومة مرباح خط موريس حقيقي؟! لقد اندلعت الحرب بين الشاذلي بن جديد وقاصدي مرباح منذ اللحظات الأولى لتشكيل الحكومة عندما فرض الشاذلي بعض الشخصيات على قاصدي مرباح ليكونوا ضمن طاقمه الحكومي، أبلى مرباح مقاومة عنيدة استمرت لأيام، لكنه في نهاية المطاف استجاب مرغما لمطلب الشاذلي بن جديد بقبول وزراء لم يكن مرباح يضمهم إلى حكومته الجديدة وهم سيد احمد غزالي، بوعلام بسايح، وبوبكر بلقايد وكل هؤلاء كانوا من اقتراح الجنرال العربي بلخير، الذي مررهم عبر الشاذلي بن جديد لتطويق قاصدي مرباح.. لم يكن لمرباح الخطاب نفسه الذي كان يزود به الشاذلي بن جديد عن دلالة المرحلة الجديدة، فإنها لم تكن سوى محاولة من الشاذلي بن جديد لتلميع واجهة النظام، خاصة عندما كان يرفع شعار التغيير والقطيعة والديمقراطية.. ففي نظر مرباح كان أكتوبر "مجرد لحظة ساخنة لتسارع وتيرة التغيير وليس بداية للتغيير.. والشعب عندما خرج إلى الشارع في الخامس من أكتوبر كان يسعى إلى المطالبة بدرجة من المساواة الاجتماية، وليس بالديمقراطية"... وبعد وقت وجيز اكتشف مرباح أن الشاذلي بمساعدة زمرته الإصلاحية ورجله القوي الجنرال العربي بلخير قد بادروا بفتح أبواب جهنم أمام حكومته وذلك من خلال نصب عدة متفجرات تحت أقدامه، وكانت البداية من لحظة تقديم برنامج حكومته أمام المجلس الشعبي الذي كان متكونا من نواب حزب جبهة التحرير، وكانت المفاجأة عندما لاحظ ذلك التدافع من طرف نواب لم يكن يعرف عنهم تلك الشجاعة أو السلوك من المعارضة، بحيث خاطبه المتدخل الأول قائلا: "نحن لا نعرف، هل نحن ممثلو الشعب أم لا؟ لأننا نحن ممثلو الشعب لا نعرف مضمون برنامج الحكومة الجديد، كيف سنضطلع بمسؤوليتنا؟! إنني أقترح أن تكون الجلسة علنية وتبث مباشرة على التلفزيون، وإذا تقرر مناقشة مسائل تقنية، نقترح انتخاب لجانٍ من طرف النواب"، وبينما قاصدي مرباح يحاول تصديق ما تسمع أذناه، علق رئيس المجلس الشعبي الوطني "كنت سأقول الكلام نفسه، إن نسخ برنامج الحكومة لن تحضر في الوقت المناسب، أما الآن فهي جاهزة، وسيتوزع عليكم باللغتين، العربية والفرنسية"، ويضيف متدخل آخر "أرى أن المجلس هو الذي يتولى مناقشة تاريخ برنامج الحكومة، يجب أن نكون واقعيين، وإذا قبلنا بالديمقراطية فيجب أن نسير وفق قواعدها إلى أبعد الحدود"، ويتدخل نائب آخر "أرفض أن تقول الصحافة رأيها في برنامج الاصلاحات الحكومية، ثم نأتي نحن النواب هنا لكي نعقب على كلام الصحافة، بل نحن هنا لنقول كلمتنا المستقلة".. ظل قاصدي مرباح يحدق بعينيه الصارمتين لما يحدث، وهو يكاد لا يصدق أنه أمام نواب، كانوا لا يعرفون إلا رفع الأيادي، حاول أن يستجمع قوته، ويبدو هادئا، فقال: "إنني أريد شرح بعض المسائل، فلأول مرة في تاريخ الجزائر، يتقدم رئيس حكومة أمام البرلمان ببرنامج عمل، وبالتالي ليست لنا تجربة في تكييف التعديلات الدستورية التي أقرها الشعب.. أنا رجل حوار ومع الديمقراطية والرزانة في النقاش، يجب أن يكون عندكم يقين بأنه إذا تقدم نائب باقتراح معقول في صالح المجتمع فسنأخذ به، ليس هناك فرقا بين الحكومة والنواب، كلنا في خدمة الشعب".. إلا أن نائبا رد عليه قائلا: "لماذا لم يستدع البرلمان منذ أكتوبر إلى يومنا هذا؟! لماذا لم تطرح علينا مشاكل الأمة ونتركها إلى اليوم؟! إذا أردنا السير في نهج الديمقراطية فيجب أن يكون إلى الأمام وليس إلى الوراء، وإذا كان هناك اتهاما يوجه إلى الصحافة فأنا لا أوجهه إلى الصحافيين وإنما أوجهه لمسؤولي قطاع الإعلام".. وأمام تزايد الهجومات وحدتها فقد قاصدي مرباح في آخر المطاف أعصابه ورد بغضب "التعديلات الدستورية لا تلزم الحكومة بإرسال البرنامج إلى النواب في أجل محدد، ولكن في غياب الأعراف، علينا جميعا أن ننشئ تقاليد في الديمقراطية، وإلا فإننا قد لا نقدم مشروع برنامج حكومة إلا بعد ستة أشهر"، وعندئذ رفعت الجلسة وتحرك رجال الشاذلي بن جديد في الكواليس وعبر الهاتف لقبول برنامج قاصدي مرباح الحكومي لكن هذا التمرين بمثابة التطويق لحركة مرباح الذي سيجد نفسه أمام طلقات متدافعة ومتجددة من طرف رجال خصمه الذي كان مرباح يؤمن أنهم مجرد بيادق، وسيحين الوقت للتخلص منها وممن يديرها من وراء مكاتبه في الرئاسة، ومن الدوائر الضيقة الموالية له من داخل الصالونات... كان الشغل الشاغل لبن جديد، وهو يقود معركته السرية ضد قاصدي مرباح هو إعادة انتخابه على رأس الجمهورية لعهدة ثالثة، وقبيل المؤتمر أصدر مرسوما يشمل المتسببين في "أحداث" أكتوبر 88 بالعفو.. لكن أيضا مسّ هذا المرسوم قوائم أخرى من متهمي القانون العام والمساجين السياسيين، وكانت قائمة المفرج عنهم تشمل 3357 شخص... في 27 نوفمبر، انعقد المؤتمر السادس لحزب جبهة التحرير بمشاركة 5000 مندوب تحت شعار فضفاض "التزام، واقعية، عمل" وتضمن جدول أعمال المؤتمر ثلاث نقاط أساسية، وهي: 1 - تقييم سياسة الإصلاحات، 2 مسألة تحويل الحزب إلى جبهة و3 إعادة انتخاب أمين عام للحزب.. كان الشاذلي بن جديد على اطلاع عام، حول السيناريو الذي سيجري وفقه المؤتمر لذا فبعد أعضاء لجان المؤتمر، كما يشير إلى ذلك محمد خوجة في كتابه "سنوات الفوضى والجنون" "والموافقة برفع الأيدي على أعضاء مكتب المؤتمر الذي اقترحه بن جديد والاستماع إلى التقارير المنقحة للندوات الجهوية أمر بانتهاء أعمال اليوم الأول وفي اليوم الثاني قدم بن جديد تقريره الأدبي في شكل خطاب لمدة ساعتين، ومن ضمن ما قاله (.. تعرفون أنا لا أجامل وأسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية، لأن المسؤولية والضمير لا يسمحان لي بتزييف الأمور، أنا لم آت من أجل الكرسي أو الجاه، لقد جئت معكم لهذه الأمة لبذل الجهد لتحسين وضعنا والتحكم في أمورنا لا أكثر ولا أقل، هناك من يزايد علينا فيما يخص التعامل مع الآخرين، كأننا دخلاء على نظام الحكم، وهناك من يزايد علينا بالنسبة لجبهة التحرير الوطني وكأننا دخلاء على جبهة التحرير.. أنا عندما تكلمت في 19 سبتمبر قبل الأحداث، أشرت بدون ذكر الإصلاحات السياسية إلى أن هناك إصلاحات اقتصادية تشمل كل القطاعات، وقلت إن هناك إصلاحات أخرى، لأنني اعتقدت أن الوقت لم يحن بعد... ربما يعتقد بعض الإخوة أن الظروف هي التي أجبرتنا على القيام بهذه العملية، وهنا أقول بكل صراحة إنني لا أؤمن بعمل أي شيء تحت الضغط، حتى ولو كنت مقتنعا به، لكن الظروف هي التي عجلت بالإعلان عن هذه الإصلاحات، وتحملت مسؤولياتي بحكم الدستور، وأدخلت إصلاحات على الهيئة التنفيذية، وبدأت بنفسي، لأن كل هذه الصلاحيات مخولة لي كرئيس للجمهورية، لكن إيماني واقتناعي بمصلحة البلاد ومصلحة الأمة، تقتضي أن لا نكون أنانيين، لقد تخليت عن بعض صلاحياتي الدستورية من أجل الفعالية... إذن المشكل والقناعة أصحبت قضية تغيير، وليس كجانب عقائدي.. إن التفكير في الظرف الحالي في فتح الباب أمام تعدد الأحزاب يعد خطرا على الشعب وعلى الأمة وعلى الوحدة الوطنية، وأنا مقتنع شخصيا بأن المرحلة لا تسمح، يمكن دعوة الشعب ليبدي رأيه في الموضوع)".. .. يتبع