ممّا لاشك فيه أن النقد مهما كانت طبيعته عامل محفِّز يصقل الإبداع، وينقي شوائبه، ويدفع بمنقوده إلى تجويد إبداعه.. هذا ونحن نتحدث عن النقد الموضوعي المتفق على نزاهته.. وعلى اعتبار أن النقد هو العملية الفنية المواكبة للإبداع، تلك العملية الدراسية التي تحلل العمل الفني، وتغربل محتواه، فتثمن ما هو جيد، وتشير إلى النقائص مقدمة الحجج، والبراهين المقنعة على ما توصلت إليه من أحكام. وإذا طبقنا هذا المفهوم على النقد الأدبي، فسوف نجد بأنه قد قطع أشواطا متقدمة، خاصة في العصر الحديث عندما واكب الأدب العربي غيره من الآداب العالمية متفاعلا معها في أشكالها أولا، وفي مواضيعها ثانية، متأثرا بالمدارس الغربية، وبمذاهبها المختلفة، ممّا جعل الأدب العربي - بفضل هذا الجهد النقدي - يحتل مكانة محترمة، وينافس على المراتب الأولى - أحيانا - في المحافل الأدبية العالمية. مما يؤكد أهمية النقد في تطوير الإبداع الأدبي، وتوجيهه الوجهة السليمة نحو التجديد المدروس المواكب للتطورات الحديثة، مع احترامه للذوق الإنساني الراقي الذي يسعى الأدب إلى الارتقاء به.. ومما يؤكد هذه الملازمة الإيجابية بين النقد الأدبي، والإبداع (شعرا ونقدا) هو أن النقد وبمختلف درجاته، وتطوره عبر العصور الأدبية كان حاضرا، ومواليا للعملية الإبداعية، حتى وهو في صورته الأولى عندما كان مجرد انطباع جزئي للعملية الإبداعية، إلا أن مفعوله كان مفعول السحر في نفسية المبدعين، إذ كان دائما محفزا ودافعا نحو التجويد الأدبي. ولا أدلّ على ذلك ما كان يحدث في خيمة النابغة أيام سوق عكاظ، وصدى تلك الأحكام الصادرة عن تذوق جمالي، وتجربة شعرية، وأثرها على نفسية المبدعين من الشعراء. ومع مرور العصور الأدبية سوف تستوقفنا العديد من المحطات النقدية التي يدرس فيها الأدب، وتنقد جودته، وهو ما نسجله عن المجالس الأدبية، ومحتواها النقدي كالمجلس الأدبي لسكينة بنت الحسين في العصر الأموي، والجانب الأدبي في شعر النقائض، وكذا بداية التدوين النقدي في العصر العباسي، إذ نلمس ذلك عند محمد بن سلام الجمحي في كتابه "طبقات الشعراء"، ثم ابن قتيبة في كتابه "الشعر والشعراء"، وجهود نقاد كبار مثل: ابن المعتز، وقدامى بن جعفر، والآمدي والجرجاني والثعالبي والعسكري. إضافة إلى مجالس بعض خلفاء بني العباس، والتي كانت تهدى لهم الأشعار والمدونات الأدبية، وهنا نذكر مجلس سيف الدولة، وتباري المتنبي مع خصومه من الشعراء. وفي الأندلس حيث تنضج الأفكار النقدية مع الرخاء الحضاري، والأدبي حينها نلتقي بابن رشيق و«كتاب العمدة" و«المثل السائر" لابن الأثير، ومثلما تزدهي النوادي بالفنون المختلفة في ليالي الأندلس، فهناك للآداب منتديات أيضا مثلما هو الشأن في منتدى الأميرة الشاعرة ولادة بنت المستكفي. أما في العصور الأخيرة فحتى وإن وهن النقد بتراجع الأدب في عصر الضعف، فإن في العصر الحديث بدأ النقد أكثر قوة خاصة في مواجهته للتيار التقليدي، وأكثر تخصصا، وتنوعا في أفكاره الجديدة، فمن مدرسة المهجر التي دعت إلى التجديد الأدبي إلى مدرسة الديوان، وجماعة أبولو المتأثرتين بالرومانسية الغربية مرورا بصالونات نقدية مختلفة كان فيها للأفكار الأدبية مكانتها، ويتنافس في ذلك أصحابها، وهم من ذوي الأقلام الكبيرة كمحمود العقاد، مصطفى صادق الرافعي، عبد القادر المازني، وطه حسين وغيرهم.. كما ستنطلق حركة التجديد الواقعية بمختلف أشكالها بعد الحرب العالمية الثانية، كما سنعيش حركة التجديد الشعري على يد المنظرة الأولى له "نازك الملائكة" وما عرف بالشعراء الشباب، وشعرهم الحديث الذي عرف قفزة تاريخية نحو التحرر. وكذلك الحال بالنسبة للمبدعين الذين ركبوا موجة الواقعية الاشتراكية في هذه الفترة، التي ستستمر قوية حتى فترة الثمانينيات مواكبة لأفكار، وفلسفات نقدية جديدة أغلبها وافد من الغرب. وكان لكل مرحلة نقادها و(ضبّاطها) من الأدباء، كما لكل توجه أساتذته، منظريه، وللكل منهم ساحاته الثقافية، وكذا وسائله الإعلامية، ولابد أن نؤكد هنا على أهمية المدارس الأدبية (العربية) التي ظهرت مع بداية القرن الماضي حتى منتصف الثلاثينيات منه، وكذا الحركية الثقافية التي تولدت بعد ظهور التوجه الواقعي الأدبي، وما لهما من تأثير إيجابي على تطور الأدب العربي، ومواكبته للآداب العالمية، وهو ما بدأنا نجني ثمار انتشاره سواء عن طريق ترجمات الأعمال الأدبية العربية للغات عالمية مختلفة، أو عن طريق حصول العديد من المبدعين العرب على جوائز أدبية عالمية. ولم يتوفر هذا للأدب العربي إلا بعد حراك نقدي كبير، ونقاشات أدبية ممنهجة، متفتحة على تجارب الآخرين مستفيدة بآخر ما توصلت إليه المناهج النقدية الغربية، والتي طبقت ما فيها من إيجاب، وأضيفت إلى التجارب الإبداعية العربية خاصة في الفنون الأدبية السردية، وعلى رأسها القصة والرواية، أما الشعر فحتى وإنْ قفز إلى مسرح الحداثة، إلا أن نتائج انتشاره لم تكن بالشكل المنتظر له، إذ تقلص وهجه المألوف محليا وعالميا. وما يمكن استخلاصه في هذه العجالة هو علاقة الملازمة كظاهرة أدبية نقدية تجمع بين النقد والأدب، هذه الظاهرة التي يمكن أن نستنتجها من خلال دراسة متخصصة للأدب العربي قديما وحديثا. وبما أن الأدب فن تذوقي إنساني، فإن النقد هو قوامه الذي يحدد درجة جودته، ويدفع به إلى التحسين فنيا وجماليا. فيمكن لأي دارس أن يلاحظ العلاقة التلازمية بينهما، إذ كلما كان فن الأدب مزدهرا كانت هناك حركة نقدية ملازمة له، إذْ نلاحظ ذلك بالخصوص في العصر العباسي (بزمنيه)، والعصر الحديث، وما دامت العلاقة تلازمية، فلابد أن نؤكد أيضا بأن لا يمكن أن تكون هناك حركة نقدية مثمرة، وناجحة إلا إذا واكبت حركة إبداعية أدبية رائدة، ومتميزة..