-1- هل ثمة من شك في أن الحداثة لم تكن غير نتيجة حتمية لولادةٍ عسيرةٍ من صلب الحادثة التاريخية؟ وهل من برهانٍ قاطع على ارتباط الفعل الحداثيّ بالفعل التاريخيّ غير ما شهدته التجربة الغربية في انتقالها العسير من زمن القرون الوسطى إلى الزمن التنويري عبر أنفاق طويلة ومظلمة كان التاريخ فيها الفاعل البارز في بلورة الرؤية النظرية التي حملها المفكرون التنويريّون عن الحداثة، وفي تحويلها إلى واقع تاريخيّ، بفعل الاكتشافات العلمية والثورة الصناعية، يستأثر فيما بعد باهتمام بالغ من طرف المنظّرين وهم يبحثون في خلوتهم المعرفية عن الأسباب الكامنة وراء تحقّق الفعل الحداثيّ التنويريّ في ظلمة بطن التصوّر المكوثيّ للذات الغربية المنطوية على نفسها والرافضة للدخول في أتون المعركة التاريخيّة؟ لقد لعب التاريخ، بما هو حركة تغيِْيريّة عنيفة، دورا أساسيا في تغيير البنيات التقليدية للمجتمع الغربي في القرون الوسطى وتحويل طاقاته الكامنة وغير المُستغلّة إلى حركية فاعلة، إذ ما كان يمكن للحداثة أن تتحقّق لولا الإصرار على تحويل منجزها النظري إلى فتوحات تاريخية لها وقعها القوي وأثرها العميق في واقع الحياة اليومية للإنسان الغربي. ذلك أنّ الحداثة لا يمكن أن تتحقق بمجرد التعلق بما يمثّله مصباح ديوجين من رمزية في تنوير الزوايا المظلمة للذات الماكثة في الغرفة الخلفية للتاريخ. كما أنها ليست رهن إشارة المثقفين ينادونها للحضور فتحضر، ويأمرونها بالتحقّق فتتحقّق لأن المثقف ليس ساحرا، ولا يمكن للحداثة أن تكون رهن إشارة إيماءاته الفكرية والمعرفية مهما بلغ به الوعي الصادم إلى إدراك عميق للمفارقات الكبرى التي يرصدها دون غيره بما يملكه من قدرة استشعار لمكامن الخطر المحدق بالمجتمع الذي يعيش فيه. تبدو الحداثة نتيجة حتمية لجدلية الفعل التاريخي الذي يتجاوز بالضرورة شعرية الفكرة التي يحملها المثقف عن الحداثة بوصفها رمزا مُنقِذاً يكفي أن نستدعيه ليستجيب لرغبتنا الملحة في تحقيق ما نريد من حداثة، أو ما نريد من خروج سريع من دائرة التخلّف. ومن هنا، قد يكون للحداثة فعل معاكسٌ لاتجاه التاريخ، أي فعلٌ سلبيٌّ بالنسبة للذي لم يمكنّه وعيه الحضاري بميلادها العسير من البطن المظلمة للتاريخ، ومن مخاضات جدلياته وتناقضاتها، وذلك بالنظر إلى ما يمكن أن تحمله من إيجابية بالنسبة للذي استطاع أن يجعل من الحادثة التاريخية سلاحا يستخدمه للخروج منتصرا من معركتها الفاصلة. -2- تبدو الحداثة وكأنها رفيق دائم للتاريخ عندما يتحمّل الأقوياء مكامن ما يخبئه من أخطار لا يعبأ بها من ليست لديهم القدرة على تحمّلها. ولذلك تصاحب الحداثة التاريخ في حلّه وترحاله، وتتيح له إمكانية استخدامها لخدمة أغراضه الظاهرة والباطنة عندما يتعلق الأمر بإتاحته الفرصة السانحة، لمن لاَنَ لَهُ من الأمم، للانقضاض على الفرائس القابعة في ناصية المعنى، وتدجين ما لم تستطع قوات سابقة تدجينه فيها نظرا لتأصّل الجهل بالدور الذي يلعبه التاريخ في ترسيخ واقع مختلفٍ عن حالة الوقع المعاش، ونظرا لانعدام الوعي بجدلياته في واقعها اليومي المفضي إلى حالات الشغور الوجودي التي تأنف -كما الطبيعة تماما- من البقاء على هذه الحال. ذلك أنّ التاريخ، في قوّة تأثيره على الضعفاء، وفي انصياعه ولينه الذي لا يتيحه إلا للأقوياء الذين يصنعونه، لا يمكن أن يرتدي بزّة المُستلَب من أجل البرهنة على عقلانية استلابه، كما لا يمكنه أن يدافع عمّن لم يقدّم له الدّليل القاطع على أحقيّته بالدفاع عنه. ولعله من هذه الوجهة يتحول التاريخ إلى مأزقٍ جميل مزين بالرؤية العقلانية الموشّحة بالبرهنة الذرائعيّة يسقط فيه كل من يعتقدون أنهم قادرون على تحقيق فعل التحديث من دون وقوف الذات الجمعيّة في وجه ما يمكن أن يكتنف الحادثة التاريخية من التواءات وتوعكات ستعطي في المستقبل قوّة الحجة وعقلانية التبرير لترسيخ القراءة الأحادية بوصفها قراءة صحيحة في مستقبل الفعل الحداثيّ. إن ما يؤسس للفعل الحداثي باعتباره فعلا تسلطيّا مُتعمّدا وإجباريّا تعرضت له المجتمعات الشرقيّة هو هذه الرغبة الكامنة للمُستَعْمِر في توريط الذات المُستعمَرة في البركة الآسنة للتاريخ لا بوصفه أحداثا متعاقبة ومتجددة تكون فيها الغلبةُ للمشتركين في صناعته من هؤلاء أو من هؤلاء، ولكن بوصفه رمزاً نافذاً يستمدّ إشعاعاته القاتلة ممّا تحمله عنه الذات المُستعمَرَةُ من صورة تقديسيّة تكاد تصل إلى درجة العبادة بالنظر إلى ما يمكن أن تمثّله الأيقونة من قدرة رمزية ماحقة للذات لا تنفك تُذكِّرُها بخيبتها أمام دورها في الفعل التاريخي المرتبط بالهزيمة، والخاضع لتجرّع مرارتها في كلّ مرّة تعود فيه ذكراه منساقةً، بحكم تكرار التاريخ لنفسه، لتجدّ من تُذكّرُهُ بنفسه مقيّدا بالسلاسل القديمة، ومتخبطا في مأزقها التاريخي الذي تصرّ على المكوث فيه. -3- عندما تصبح آلة التحديث في نظر المُستعمِر وسيلةً لإحكام قبضةٍ تريد السيطرة على مستقبل أمّة بكاملها، وعندما تصبح آلة التحديث في نظر المُستَعْمَر وسيلةً للتخلص من قبضة مُسيطِرةٍ على راهن أمّة بكاملها، فإن ثمة فارقا جوهريّا في المقاربة التي يحملها كل من المُستعمِر والمُستعمَر عن آلة التحديث بوصفها وسيلة لتحقيق الحداثة، وعن الوظيفة التي يتوجب عليها القيام بها، وعن الأهداف التي من المفروض أن تحقّقها أثناء قيامها بوظيفتها. لا يكمن الفارق الجوهري بين الرؤيتين المتناقضتين لآلة التحديث نفسها في ما يحمله المُستعمِر من استعدادٍ لتمرير رؤيته الغالبة عن طريق تسخير هذه الأخيرة كوسيلة توسّعيّة من جهة، وكدليل لإثبات صدق مسعاه في تحديث مجتمعٍ لم يطلب منه ذلك من جهة أخرى فحسب، ولكن يكمن كذلك في ما تحققه الحادثة التاريخية المتمثلّة في الدّور الذي تلعبه آلة التحديث من استلاب معرفيّ لدى المُستعمَر يُساعده على القبول بالأمر الواقع من خلال اتخاذه برهنةَ المُستعمِر على صدق مسعاه في التحديث دليلا على عقلانية موقفه بالنظر إلى الطارئ الجديد في حياته الذي لابد منه، والذي يجب أن يسعى إلى الوصول إليه ضرورة، وإن كان على حساب الاندراج في الرؤية الاستعمارية التي تتخذ من التحديث تقيّة للسيطرة على ما يمكن أن يكون رؤية أخرى مخالفة أو معارضة يتخذها المُستعمَر الموجهةُ إليه آلةُ التحديث، من أجل الوقوف في وجه حركية التاريخ ومحاولته تغيير وجهتها التي سطرها لها المُستعمِرُ الغازي بدءًا. ستتحول المطبعة بوصفها رمزا للتحرر إلى رمز لتكريس العبوديّة. وتصبح آلة التحديث، أي رمز المعرفة، ومن ثمة رمز التخلّص من الجهل والتبعيّة، سلاحا استعماريا يستخدمه الغازي من أجل التأكيد على قابلية خضوع أمة من الأمم إلى الكولونيالية. وسترتبط، في هذه الحالة، ارتباطا سُريًّا، وبصورة تكاد تكون نهائية في مخيّلة الذات المُستَعمَرة، بالمستعمِر الذي أدخلها إلى المخيال الشرقي، وتعمّدَ تسميتها ب "المطبعة الشرقية" لتصبِحَ بعد ذلك، وفي نظر الكثير من المثقفين الذين ستُنتجهم الذات المُستَعمَرة معادلا موضوعيّا للحداثة كما يجب أن تتم في المجتمعات المتخلّفة. لقد أكدت الحادثة التاريخية في تمركزها الفكري والمعرفي كما يسخّرها المُستعمِر لخدمة غرض الهيمنة، على أنها أداة تحديث فاعلة في ترسيخ الوعي بضرورة الاستعمار من أجل تخطّي عقبة الجهل. وكأن العلم لا يمكن أن يتم إلا من خلال الخضوع للآخر بوصفه إمكانية تحديثيّة لا توفّرها الذات في انشغالها المأساوي بتخلّفها السرمديّ بالنظر إلى ما أصبح يشبه القاعدة التاريخية الثابتة التي مفادها أن العلم مرتبط بالمُستعمِر بقدر ارتباط الجهل بالمُستَعمَر. -4- أن تحلّ المطبعة، من ما جلبته حملة نابليون على مصر، في ميناء الإسكندرية سنة 1798، حيث المكتبة المشهورة التي اختفت نهائيا من تاريخ المدينة، بعد أقل من عشر سنوات من حدوث الثورة الفرنسية، فهذا يعني، في ما يعنيه، أن الفعل الكولونيالي قد انتقل من الوعيّ بتجاوز الذات من خلال انتصار الثورة الفرنسية على أطروحاتها القديمة المتمثلة في ما كان يمثله نظام ما قبل الثورة من تصوّر قديم، والدخول في مرحلة احتواء الآخر بوصفه امتدادا لطمع الذات الغربية الثائرة في قضم مساحات جغرافية وحضارية لا تتحقق صِدْقيتها من منظور الذات المستعمرَة إلا من خلال إيجاد تبرير منطقيّ يتجاوز فعل الاحتلال وفعل الهيمنة، إلى رؤية معاكسة تماما لحمولتهما الفكرية والفلسفيّة من خلال تحويلهما إلى فعلِ مساهمة حضارية في تحديث الإنسان الشرقيّ غير القادر، بما يعانيه داخل شرطه الوجودي المرتبط بالتخلّف والجهل، على تغيير وضعه الوجودي، والقابل، من حيث رضوخه واندهاشه بالتبرير الغربي للغزو، بما تحمله آلة الطباعة من رمزية تغطي في نهاية الأمر على فعل الهيمنة، من حلال تقديمها لفعل التنوير والتحديث والإصلاح إلى واجهة المفارقة التاريخية. ولعل في هذا التصور الحيلةَ التي ينطوي عليها المأزق التاريخي بوصفه مطبا سيؤدي فيه بالكثير من المثقفين إلى السقوط فيه، وهم يعتبرون، مع مرور الوقت، ما فعله نابليون فعلا حضاريا على غير علاقة بالاستعمار. لقد حاول نابليون أن يقنع المصريين، من خلال أول بيان صادر من المطبعة، بأحقيّته بدخول مصر آمنا لأنه يحمل لمصر مطبعةً، أي أنه حاول أن يقنعهم بأحقيته بالاستيلاء على مصر من باب الحضارة وما تمثّله رمزيتها من فعل متحضر لا علاقة له بالاستعمار، أو بالكولونيالية، أو بالهيمنة البحرية لأغراض استراتيجية لم يكن لمصر فيها غير دور الكومبارس الدّاعم للقوة النابليونيّة الصاعدة في ذلك الوقت. وهو بذلك كان يحاول أن يقنع المصريين بعدم أحقية الأتراك العثمانيين بالبقاء في مصر نظرا لاقتناعه بانتهاء دورهم و بداية دوره. وهو سيستعمل، من أجل التقرب من المصريين ليقبلوا بعرضه الحضاري الجديد الذي لم يحققه الأتراك طيلة بقائهم في مصر، أسلوباً قريبا من الروح المصرية التي بإمكانها أن تفضل الأتراك لأنهم مسلمون، وترفض نابليون وجيشه ومطبعته لأنهم من الفرنجة الذين لا يتلاءم دينهم مع دين المصريين. ولذلك فهو يصر في بيانه الأول الذي أصدرته المطبعة حتى قبل أن تحط الرحال في ميناء الإسكندرية قبل أن تنتقل إلى القاهرة، على ما يحمله من قيم التسامح التي لا تتناقض تماما مع الدين الإسلامي الذي يدين به المصريون، ناهيك عمّا يحمله مشروعه التحديثي بمطبعته وبما أتى معه من علماء من خير لمصر لم تره من قبل. لقد وضع نابليون، بإصراره على تقديم المطبعة هدّية ملغمة لمصر المحروسة، المثقفَ الشرقيّ عموما في صلب المأزق التاريخي الذي سيبقى يتخبط فيه طيلة الفترة الكولونيالية وما تبعها فيما بعد من تصورات ثقافية عمقت النقاش حول مسائل الحداثة والتنوير والقدم والتقليد والتجديد مما عرف في فكر النهضة فيما بعد بالثنائيات المشهورة التي استنزفت كثيرا من الجهد الفكري والمعرفي من دون أن تتخلص من عمق ما تركه المأزق التاريخي من أثر بارز في نقاشها المشرقيّ حول تخلف المجتمعات الشرقية والطرائق الكفيلة بالخروج منه، ومن ثمّة حول الدور الذي لعبته حملة نابليون، وخاصة مطبعته الشرقية في ترسيخ إحداثيات الفكر التنويري في المدونة الفكرية العربية الخارجة لتوها من سبات الفترة المملوكية المعروف. لقد استطاع الوعي الغربي بأهمية الحادثة التاريخية في ترسيخ نتائجها في مستقبل الشعوب القابلة للاستعمار أن يزج بالكثير من مثقفي الذات المستعمَرة في خضم المأزق التاريخي الذي سيبقى عالقا في مساراتهم العلمية والمعرفية، والذي مفاده أن الفعل الكولونيالي المتعمّد والمخطّط له بأهداف وبرؤى استراتيجية وبإمكانيات مادية وإنسانية، إنما هو فعلٌ حضاريٌّ نافذٌ في تاريخية اندراجه ضمن دائرة التحديث التي شهدتها مصر، ومن ثمة العالم العربي والإسلامي، من خلال ما لعبته المطبعة من دور فعال في تعميم المعرفة، وفي ترسيخ فكرة الخروج من الجهل، وفي تنوير المجتمع المشدود إلى الماضي بنقله من مرحلة ما قبل القراءة إلى مرحلة القراءة، وفي تطوير الرؤية الحداثية بما هي توجّهٌ نحو المستقبل. وهي الرؤية التي لا يمكنها أن تتلاءم مع ماضويّة الحاضر بوصفه رسوخا دائما في الفكرة المُستهلكة التي كانت تعيش فيها مصر والمجتمعات الشرقية بصورة عامة. .../...