-1- ليس تشفّيًا في بعضِ ما يُظْهِرُهُ الخطاب الحداثيّ في تشكّله الألسنيّ من فجوات، ولا نكاية في الذات المتحوّلة إلى آخر يدّعي رؤيةً كفيلة بإنقاذ ما تبقى منه من وحل الفكرة النائمة في أدراج التاريخ والرافضة لكلّ كوّة يشع منها نور يؤدي إلى مستقبل ما. كما أنه ليس سخرية من عيوب اللسان أو تبئيرا على عوراتِ لوثاته المعرفية عندما يصبح أداةً فعالة لتمرير السموم المُركّزة للتّأدلُجات التي لم تعد تواكب ركب ما يطمح إليه الإنسان من اندراج متأصل في العالم كما يتجلّى في وقتيةِ اقتراحه للمستقبل. والحال أبعد ما تكون عن نظرة شوفينية مغلقة على اصطفافٍ معرفيّ يُراد منه مصلحةً ما هدفُها تحقيقُ آنيةٍ عابرةٍ للوجود الشاغر من دون محاولة ملئه، ومن دون محاولة دون التأثير فيه. فقد لا تُطرحُ المسألة من باب الأصيل والدخيل في اللغة بما يشكلانه من ضرورة معرفية لا تتغذى اللغة ولا تجدد حياتها إلا بها. كما لا تُطرحُ من باب (الأنيميا)-نستعملها هنا استثناءً- التي أصابت قاموس المعرفة الحداثية لدى الكثير من الكتاب، فأجبرتهم على البحث عمّا يمكن أن يثري فقر الذات وهي تبحث عن غذاء فاعل يسري في أوصالها الواهنة، وفي روحها المعرفية الهرمة، فهرعوا غير مترددين إلى استعارة الذات الحضارية الغربية استعارة كاملة غير منقوصة، معتقدين أن ما لا تتم الحداثة إلا به فهو حداثة. كما سارعوا إلى تأثيث بيت الوجود الذي هو اللغة بالفائض الألسني للخطاب الحداثي الغربي تأثيثا حرفيا يغري، من وجهةِ الرائي الجائع إلى لغةٍ مغايرةٍ لم يجدها في ما يعتقد أنه أصبح مستهلكا، ومُمِلاًّ، وغيرَ قادرٍ على مواكبة المعنى الحداثي في لغته الأصلية، بالمزيد من العشق المائل ميلاً شهوانيًّا حادّا إلى استيراد الفكرة بقشورها الصوتية والحرفية، وقضمها قضمًا جنونيا ينبئ عن عمق المجاعة الديناصورية وشراهة اشتهائها للصورة الظاهرة للخطاب الحداثي كما تتجلى في لغته التي أنتجته، والتي كُتب بها. وهو، أي تأثيث بيت الوجود، قد ينبئ فوق هذا، عن مدى التعلّق الواهم بهذا الخطاب، لا بوصفه فكرة قابلة للمعاينة وللتحضير وللتقشير، وللطهي، قبل الاستهلاك، كما هو حال كلّ مُنتَجٍ مخصص للاستهلاك، ولكن بوصفه كتلة حداثية مركزية تُؤخذ كما هيّ( وإلا.. تُتركُ كما هي) في قوة اختراقها للذّات، وفي قدرتها على إقناعها بعدم صلاحية بنياتها الأصلية، وبلزوم إبدالها ببنيات خطابية هي أقرب إلى أصل الحداثة الغربية بوصفها لغةً كما تتجلّى في أشكالها الألسنية الأصلية على اعتبار أن الحداثة، من زاوية كونها رؤية نظرية- وهذا ما يحبذه المستهلك العربي-، هي لغةٌ أولا وقبل كل شيء. فمن قال إن الحداثة ليست لغةً؟ -2- كما وقد لا تُطرح المسألةُ من باب استعارةِ لغةٍ ما من لغة أخرى لضرورة معرفية من وجهة نظر حضارية واعية كثيرا ما انبرى لها المختصون من الأُلسنيين والمترجمين فوضحوا غَوَامِضَها وبينوا تعقيداتها. فقد نجد، لو أننا تمعنَّا مليّا في ما أنتجه الخطاب الحداثي العربي من تراكمات طيلة ما يزيد عن قرن من الزمن، أنه يشكل استعارة كبرى لا زالت الذات تدفع غاليا ثمن عدم قدرتها على تمثل معطياته الفكرية والمعرفية المتخفية في ثنايا الخطاب المُستَعار. وبناء عليه، قد نجد كذلك أن هذا الخطاب يشكل استيرادا متسرِّعا كالعادة، وبمفاتيح جاهزة، من سوق الجملة الحداثيّ المكدَّسة بضاعاتُه في نسخِها الموجهة خصّيصا للاستهلاك العربيّ، والمُحيّنة بتقنيات اللحظة وبخصوصيات ما تتطلبه عادة الاستهلاك المؤسسة على الشراهة المعبّرة عن جوع، وعلى التخمة المعبّرة عن عدم تمثّل. ولعلها النسخة الحداثية التي نصر على استيرادها كاملةً بلوازمها الجديدة وتعليباتها الألسنية المتخفية وراء العقدة الاصطلاحية، فلم نحسن استعمالها بطرق عقلانية كفيلة بملء الفجوة التي أحدثتها الأفكار الحداثية في بنية الخطاب الحداثيّ العربي، نظرا لمتانة أطروحاتها، ولقدرتها على اختراق المساحات الفكرية لِذاتِنا الحضارية الهشة. وكذلك نظرا لحِدّة اصطدامها بجُدُر الوهم التي يبنيها المثقف العربي المتنور بالاقتناعات الواهية التي يحملها بقدسية وإيمان مُطلَقَيْن لا يضاهيهما إلا قلة إيمان من أنتجها من الغربيين أنفسهم بدوام صلاحيتها نظرا لاقتناعهم بمحدودية الدور الذي تلعبه الأفكار زمنيا، فهي لم تُنتجْ من طرف سابقاتها أصلا إلا لقدرتها الآنية على إنتاج مثيلاتها المستقبلية. فمثلما أن محاولة التعبير عن الذات بخطاب متأصل فكريا ولغويا لا تدل بالضرورة على الوعي الحقيقي بالأصالة و بالتراث وبالتقليد، ناهيك عما تحمله هذه الكلمات من فروق جوهرية مرتبطة بخصوصيتها التاريخية وبحمولاتها المعرفية، فإن محاولة التعبير عن الذات بخطاب حداثيّ منفتح فكريا ولغويا لا تدل بالضرورة على الوعي الحقيقي بالحداثة وبالتنوير وبالمعاصرة، ناهيك عن الوعي بما تحمله هذه الكلمات من فروق جوهرية مرتبطة بخصوصياتها التاريخية وحمولاتها المعرفية. ذلك أن محاولة ربط الحداثة باللغة في حرفية اندراجها في الذات، وانغلاقها على الدلالات المتولدة عن مرحلة تاريخية ما، هو أسرٌ لها في مجرى سريانها في التاريخ بتعبير هابرماس، لأن اللغة في هذه الحالة ستصبح سجنا للمعطى الحداثي كما يتجلى في حرفية الكلمة الدالة عليه أو المصطلح المعبِّر عنه في حقبة معينة من الزمن. -3- ربما لأجل كل هذه الاعتبارات، سنحاول أن نستعمل مرّة أخرى مصطلح الحداثة من أجل توصيف حالة أخرى من حالات الشّغور التي يسبح فيها المثقف الحداثي العربي، والجزائري خاصة نظرا لما تحمله هذه الحالة من عقدةٍ دالّة عليه، وهو يدّعي بقصد أو بغير قصد، صدقا أو كذبا، انتماءه الرسمي والواقعي للحداثة كما أتى بها الغرب، وكما رسخ مفاهيمها في واقعه اليومي وفي منجزه الفلسفي. ولذلك، فسنحاول أن نشرّح مرّة أخرى، وكُلّما اقتضت الضرورة، الصورة النمطية المستعملة بكثرة في توصيف الخطاب الحداثي العربي بالحداثيّ، وذلك نظرا لما يوفّره هذا الخطاب من إمكانية تحقيق ذلك، وما يحمله من معوقات فكرية ومعرفية تحُول دون تحقُّق تطابقٍ عقلانيٍّ بينه وبين الحداثة الغربية، كما تحُول بينه وبين تحقّق صياغةٍ أصيلة لها تحترم خصوصية الذات، وتصغي إلى نداءاتها الطموحة. وهي صورة، على ما فيها وما عليها من أدران وتراكمات يطول شرحها، تكاد تشعّ نصاعةً بما تُبْرِزُهُ من حقيقةِ الفارق الجوهري الذي يفصل خطاب الحداثة الغربية بوصفه رؤية فلسفية وسلوكا حضاريا وحقيقة وجودية، بما يعيشه المثقف الحداثيّ العربي من: - ازدواجيةٍ في ترسيم صورة ذاته المنقسمة إلى عديد الصور المتناقضة في تمثّلها للرؤية الحداثية الغربية، داخل ما يتصور أنه ممارسة حقيقية للحداثة الغربية من خلال التأكيد على الاستعارة الاصطلاحية أو الفكرية بحرفيتها الغربية، لا بوصفها إثراءً لخطابٍ يحتاج إلى تطعيم معرفيّ وتلقيمٍ حضاريّ كما هو الحال في كل الحضارات وفي كل اللغات، ولكن بوصفها قناعا شكليا يغطي الفجوة المعرفية والألسنية التي هي من دوره في سدّها لا في توسيعها، نظرا لادعائه الاختصاص في الموضوع، ونظرا لاحتكاره للمجالات التي يجب أن يُمارس فيها هذا الاختصاص. وهي المجالات التي يدّعي أنه الأقدر، من ضمن كل التركيبات الثقافية المتعددة في المجتمع العربي، على تمثّل بنياتها الفكرية وعيا وممارسة، والتعبير عن عمق ما تحمله من متناقضات يكون تحليلُه العقلاني لها الكفيلَ الوحيدَ لبقائها والضامن الرئيس لاندراجها ضمن حقيقة الخطاب الحداثي العربي الذي يُنجزُه، ومن ثمّة، اندراجها ضمن الواقع العربي الذي يتمنى أن يأخذ بمشروعه، فيأخذ طريقه إلى التحقّق على أرض الواقع. - وانزياح نفسيّ ووجوديّ يعبران عن رغبة باطنة في الانفصال النهائيّ عن أطروحات الذات المشوّهة صورتُها في تصوّر المثقف الحداثيّ العربي، والرغبة العارمة في الذوبان في عالم الآخر الحداثيّ ابتداءً من تقمّص لغته بصورة شهوانية. وهي رغبةٌ تعكس مقدار ما تطرحه ذاته المنقسمة من مساحات شغورٍ لا يقدر على ملء فجواتها في خطابه النظري، ناهيك عن عدم قدرته على ربط هذا الخطاب النظري بواقعه الذي يعيشه يوميا في مجتمعه. - وتعلق نرجسيّ (عاشق)، بتعبير رولان بارت، بالذات الحداثية الغربية ومحاولة تقمص صورتها الماثلة أمام المرآة المحدّبة لوعيه النظري، وهو يتماهى مع أطروحات الحداثة الغربية وما تُنتِجُه من سلوكيات حضارية لا يكون قادرا على تحقيقها على مستوى خطابه النظري بلغة يعتقد أنها غير قادرة على استيعاب ما يجول في خاطره ممّا فهِمَهُ من تعامله المباشر مع النسخة الأصلية للحداثة الغربية بلغتها الأم، أو من خلال تعامله غير المباشر مع النسخة المترجمة لهذه الحداثة عن طريق وسطاء سيضيفون بالضرورة نوعا آخر من اللبس الناتج عما تتركه الترجمة من ثغرات، إلى اللبس الذي يحمله عن الحداثة من خلال ارتباطه (العاشق) بالحداثة بوصفها مبتغى مرجوّا يكاد لا يتحقق نظرا لتعارضه مع واقعه الاجتماعي والسياسي، تماما كما يتعلق الصوفيّ (العاشق) بالمعشوق بوصفه مبتغى مرجوّا نظرا لبعد المسافة بين الدّنوّ وما تمثله رمزية (المعشوق) من علوٍّ. -4- لا يخلو خطاب حداثيّ أو شبه حداثيّ أو نصف حداثيّ أو ربع حداثيّ، فيما تجود به المطابع من تحبيرات فكرية تحاول أن تتقصى أثر الفكر الغربي، أو تنهل من منابعه، أو تتحرى إشكالاته بالدرس والتحليل، من استعمال مفرط أحيانا، وبنسب متفاوتة، قليلة أو كثيرة، في أحايين أخرى، من كلمات منقولة بأشكالها الصوتية، وبحمولاتها المعرفية، إلى اللغة العربية التي حرروا بها هذا الخطاب. وليس صعبا على القارئ المتريّث أن يلاحظ حركية هذا القاموس المُجيَّش من الكلمات التي تتخذ لها أمكنة مركزيّة في بنية هذا الخطاب، فتُعيدُ، وفقا لاستعمالاتها المتكررة والدالّة، صياغة بنيته الفكرية والمعرفية صياغةً جذرية يصبح بموجبها البحث عن الرؤية الحاملة للتصور الحداثيّ الغربي نفسه الذي يراد نقله إلى اللغة العربية مجرّد وهم ضارب أطنابه في بنية هذا الخطاب نظرا لما يضفيه الاستعمال المفرط من ضبابية في المفاهيم المترجمة التي تحتاج أصلا إلى تدقيق معرفيّ كبير من أجل توضيح منطلقاتها ومقاصدها. وهذا كلّه إضافة لما يُشكّله اختراق هذا القاموس للخطاب الحداثي: - من تضييق على اللغة الأصلية في التعبير عن رغبتها الظاهرة في الوقوف في وجه الكلمات التي تملك لها بديلا معروفا من دون الحاجة إلى الخضوع الإجباري لرغبة العاشق في تزيين لسانه بما يعتبره لذة المعشوق المتجليّة في تقليده في كلماته وفي حركاته وفي سكناته. - ومن إقصاءٍ مُعبِّرٍ لكل إمكانية في إيجاد نحتٍ قادر على الإيفاء بما تكنزه المكوّنات الدلالية للكلمة من فيوضات معرفية ومن ظلال شعرية كما تعبر عنها اللغة المستعار منها. وهو الدور الذي قامت به اللغة الأصلية بكل أمانة وثقة كلّما وجدت من يستطيع تنبيه قدراتها الراكدة بسبب تكاسل المثقف الحداثي عن مساءلة المتن الألسني ومكتشفة ما يحويه قاموسه اللغوي من أسرار لا يريد العودة إليها أصلا نظرا لموقفه المسبق منها بما يتصوره أنه ركود وقدم وتخلّف يسكن أوصالها. - ومن الوقوف في وجه كل محاولة للبحث عن إمكانية توليدٍ متأصلةٍ لما لا تستطيع اللغة الأصلية التعبير عنه بدقة وعمق عبرت عنهما اللغة المستعار منها، نظرا لصورة الاحتقار التي يحملها المثقف الحداثيّ في، لا وعيه الظاهر وفي وعيه الباطن، من قصورٍ طبيعيّ يتصوره ماكثا مكوثا أبديا في هذه اللغة الأصلية نظرا لارتباطها بحالة التخلّف التي يحملها عن المجتمع الناطق بها، وهو من ضمنه، وكذلك لكونها تشكّل قيمة مفارقة في سلبيتها غير المُنتجة بالنظر إلى ما يحمله من تصوّر إيجابي عن اللغة المستعار منها بوصفها لغة مُنتجةً للأفكار التي يسعى إلى إدراجها في اللغة الأصلية (المتخلّفة) بحرفيتها الظاهرة. .. يتبع