سؤال طالما حيرني طيلة مشواري الدراسي، وحتى بعد أن انتهى هذا المشوار، لكني ما وجدت الإجابة الشافية، لماذا يكره التلاميذ المئزر؟ لماذا لا يحبون ارتداء المآزر؟ ويتفننون في التحايل على المدير أو المستشار التربوي في الفناء، أو على الحارس عند البوابة، أو الأستاذ في القسم حتى لا يرتدونها! رغم أن المئزر رمز التربية والتعليم ويحافظ على ملابسنا نظيفة ويحميها من الطباشير، لكن بعض التلاميذ يحبون التباهي بالملابس الجميلة، والسراويل الغالية... ربما رفض التلاميذ للمئزر هو رفض لرمز الاستبداد الذي يمارسه المدير عليهم، فيريدون معاكسته بجميع الطرق! ودائما يُعتبر التلميذ الذي لا يرتدي المئزر شجاعا وبطلا، رغم أن ضبط التلميذ بدون مئزر يعرضه لصفعة قوية من طرف المستشار، أو الطرد وعدم الدخول إلى المؤسسة التربوية إلا بحضور ولي الأمر... من الذي اخترع المئزر؟ لا أحد يعرف ذلك حتى الأساتذة الذين درسونا لا يعرفون شيئا عن تاريخ المئزر، وإنما قالوا المئزر تقليد عالمي وضعته الأمم المحبة للعلم والمعرفة وليس العرب على كل حال! وطالما تساءلنا لماذا مآزرنا ليست متشابهة في اللون والشكل كما في سوريا ومصر مثلا، أو بلاد اليابان وكوريا البعيدة؟ هل غاب عن رئيسنا المحبوب هواري بومدين أمر توحيد المئزر، وهو الذي سمعت جدي وجيراني يقولون إنه ساوى بين الفقير والغني، ساوى بينهما في كل شيء، في الحقوق والواجبات، والفرص، فلماذا لم يساو بين الأبناء؟ أم أن اختيار المئزر الذي نحب واللون الذي نشتهي تدريب لنا على الحرية؟ لكن توحيد لون المئزر في الشكل واللون أيضا تدريب لنا على الوحدة، فاللون واحد لأن الوطن واحد، والطموح واحد، والتاريخ واحد، واللغة واحدة، والعلم واحد... بالإضافة إلى أن توحيد المآزر يخفف على الأولياء وجع الرأس الذي يسببه الاختيار بين الألوان والقياسات، يكفي الوجع الذي يسببه السروال أو الفستان! لم أكن أجاري زملائي في معاداة المئزر رغم ما كنت أتعرض له من طرفهم من سخرية واعتباري جبانا! ربما بسبب جديتي في الدراسة، أو خوفي الشديد من المدير، والعادة التي اكتسبتها منذ السنة أولى ابتدائي بأن لا أنزع المئزر حتى أصل إلى البيت، وكثيرة هي المرات في سنوات دراستي الأولى التي نمت فيها بالمئزر! ارتديت الكثير من المآزر، وفي كل موسم دراسي كان والدي يشتري لي مئزرا جديدا، لكن ذاكرتي احتفظت بثلاثة مآزر فقط، لكل واحد قصة، مئزر الملح، ومئزر تقلب الأيام، ومئزر الجرذ! المئزر الأزرق، وهذا المئزر سبب لي الارتباك والخجل، وفي مرات عديدة كنت أحجم عن رفع يدي للإجابة عن الأسئلة، بسب العرق الذي كان يتجمع تحت إبطي صيفا وشتاءً، مشكلا بقعة بيضاء أطلق عليها زملائي تهكما سبخة الملح! ربما هو ملح، ملح العرق! وكل أسبوع كنت أغسل المئزر، لكن بعد يوم أو يومين تظهر تلك البقع مجددا... أستاذ اللغة الفرنسية قال إن العرق سببه القلق! أما أستاذ الفيزياء فقال إن العرق دليل على بلوغي، لأن شعرا كثيفا ينمو تحت إبطي! والحمد لله أن ذلك الزمن كان زمنا جميلا فما عايرني أحد من زملائي بالرائحة التي ربما كانت تسببها سبخة العرق! المئزر القميص، وهذا المئزر قميص والدي الأبيض ارتديته على أساس أنه مئزر ولم ينتبه لذلك أحد طيلة فصل كامل! ظروف مالية متعثرة تعرض لها والدي، فاستطاع أن "يكردي" لي الأدوات المدرسية من عند صديقه صاحب الوراقة، لكن صديقه لم يكن يبيع المآزر، فطلب مني اختيار قميص من قمصانه فاخترت ذلك القميص الأبيض، وفي الفصل الثاني اشترى لي مئزرا بني اللون... المئزر الذي سرقه الجرذ في منتصف الليل، وكان ذلك في فصل الشتاء لما كنت أدرس في الثانوية، إذ استيقظت أمي في الليل، فضبطت جرذا كبيرا يدخل مئزري إلى الكوشة لكي يجعل منه فراشا دافئا لصغاره! فأخرجت المئزر من "الكوشة"، وقد صنع فيه الجرذ ثلاثة ثقوب كبيرة من الخلف... وتلك الثقوب سببت لي وجع الرأس بسبب أسئلة زملائي وأساتذتي، فكنت أقول إن تلك الثقوب سببها "الأسيد" وقد اخطأت أمي فحسبته ماء جافيل! أو أقول إني اقتربت من المدفأة أكثر من اللازم فاحترق... أو... أو... لما كنا نتحدث عن أمنياتنا وطموحاتنا في المستقبل، كان بعض زملائي يبغضون أمنية معلم في المستقبل ويتشاءمون منها أو طبيب حتى لا يرتدون المئزر الأبيض، لكن لا أحد منا كان يعلم أنه بعد ثلاثين سنة أو أقل بقليل سيصير المئزر رمزا للجميع وليس للمعلم فقط، إذ أصبح هناك المئزر الأسود... والأصفر... والبني... والأزرق... فالجزار يجب عليه ارتداء المئزر وإلا عُوقب... وأيضا البقال والفكهاني... والميكانيكي.. والكونكايري.. ولم يصبح المئزر رمزا للعلم وإنما للمهنة وإن كانت المهنة أيضا علم ولا تٍُنال إلا بطلب العلم! وصار كل من يرتدي المئزر إنسانا يحترم مهنته، فإن دخلت محلا صاحبه أو العامل فيه لا يرتدي المئزر فذلك إنسان لا يتقن عمله أو لا يحترم زبائنه! المعلم يرتدي المئزر الأبيض ليكون متناسقا مع الورق الأبيض والطبشور الأبيض! وكل الأساتذة أو المعلمين الذين درسوني كانوا يرتدون المئزر الأبيض إلا معلمي "قدوري" الذي شذ عن ذلك وارتدى مئزرا أخضر! وكان التلاميذ المشاغبين يرشونه بالحبر لما يكون منشغلا بالكتابة على السبورة، وقد احتاجت زوجته إلى زمن طويل من الغسل لكي تدرك أن تلك البقع ليست وسخا عاديا وإنما بفعل فاعل، والفاعل ليس إلا التلاميذ، فعاقبنا أشد العقاب! يا ليتني احتفظت بأحد مآزري، المئزر أيضا تذكار جميل مثله مثل الكتاب، والقصة المصورة، والكراريس أو صور التلاميذ الجماعية!