«أخيرا تحقق الحلم وزرت تندوف. كيف يكتب المرء عن شمال البلاد ولا يكتب أيضا عن جنوبها، أليس الشمال والجنوب يمثلان جناحين من طائر واحد وهما نقطتان بلون واحد على خارطة الوطن وهوية إنسانه، فالأطراف، وإن تباعدت، هي جزء حيوي من الكل. وما تندوف وتمنراست وإليزي وبشار والواحات وأدرار إلا أطراف في جسم واحد اسمه "الجزائر"، فلماذا بقيت تندوف وبعض الأطراف "نائية" أو قاصية عن عيني في عصر يسمونه عصر المواصلات والاتصالات. - فاتحة الدعوة: جاءت الفاتحة من دعوة للشاعر الرقيق والأديب الملهم عبد الله الهامل لحضور الأيام الأدبية التي تنظمها مديرية الثقافة لولاية تندوف للمرة الثانية بإدارة الحازم المثقف سليمان أودين"، هكذا استهلّ شيخ المؤرخين الجزائريين الدكتور أبو القاسم سعد الله مقاله حول زيارته إلى تندوف في جريدة الشروق الصادرة يوم 24.10.2010م تحت عنوان كبير "حلم تندوف" تحدث فيه بروح المثقف ودقة المؤرّخ وعمق نظرة المبدع عن تلك التفاصيل الجميلة التي شدّته إلى تندوف التي كرمته، فكرمها بتلبية الدعوة وبهذا المقال التاريخي الذي يعكس النظرة الثاقبة لهذا الرجل العظيم الذي أدرك منذ البداية أهمية الإعلام كوسيط مهم بين المثقف والآخر. ولقد تشرفت بلقاء شيخ المؤرخين الجزائريين والمثقف الموسوعة "الدكتور أبو القاسم سعد الله" في هذا الحلم التندوفي الأكثر من رائع بدعوة من الشاعر الأصيل عبد الله الهامل في إطار أيام تندوف الأدبية التي نظمتها مديرية الثقافة لولاية تندوف عام 2010م، كان متواضعا متأملا، رغم مرضه لبى الدعوة فكرمته تندوف وألبسته "الدراعية" العباءة التندوفية الأصيلة وألقى كلمة تاريخية وهو يرتديها حيّا فيها أبناء تندوف المرابضين في ثغر من ثغور الجزائر، تحدث عن جلدهم وصبرهم وإخلاصهم للوطن، قال كل ذلك بروح المجاهد والعالم والمؤرخ وابن الجزائر الأصيل المحب لهذا الوطن المفدى الجزائر. وبعد أن اطّلعت على مقاله "حلم تندوف" استوقفتني عبارة شرفني فيها بذكر اسمي وهو يتحدث عن حماس الشباب الذي يدفعهم لإهداء كتبهم، حرّكت العبارة أسئلة كثيرة داخلي، ولم أدرك كنهها إلا بعد أن تلقيت بحزن شديد خبر انتقاله إلى جوار ربّه، حينها أدركت بأن هذا العظيم الذي خلّف لنا كنوزا من الكتب ستبقى نبراسا للأجيال تنير لهم الدرب، أراد أن يقول بأن المراحل العمرية لها أهميتها في إدراك ماهية الأشياء والتعمق في عوالم الكتابة لخصه رحمه الله في قوله عن عالم الإبداع الأدبي: "هو عالم غريب وعجيب لا يعرفه إلا من دخله فارسا وخرج منه متوجا أو فالسا". هذا العملاق الذي رحل عنا في صمت اختار أن يرقد متوسدا رمل الصحراء وهو ابنها الأصيل، وفي اختياره هذا رؤية من رؤاه العميقة التي جعلت معدنه الإنساني يحافظ على بريقه لم تشبه شائبة، ولم تغيّر فيه المكانة العلمية ولا القيمة الثقافية شيء، حتى إنني في لحظة حزن عندما تساءلت بيني وبين نفسي: أهكذا تعامل الأمم التي تحترم نفسها علماءها، كان الأجدر بالقائمين على شؤون هذا البلد أن يكرّموه بوسام استحقاق وطني، لكنني تفطّنت إلى أن كبرياء هذا العملاق وشموخه جعلاه وسام استحقاق على صدر هذا الوطن العظيم الجزائر. نم قرير العين أيها المثقف الموسوعة، أنت خالد بإخلاصك لرسالتك العلمية والثقافية ولوطنك، خالد بكنوز الفكر في مؤلفاتك القيمة، ليكن مثواك جنّات النعيم عند ربّ كريم نتضرّع إليه أن يتغمّدك برحمته الواسعة.إنا لله وإنّا إليه راجعون.