حيرة كبيرة وشك متعاظم رافقه غموض واضح لدى المراقبين حول ما يحدث فعلا في سرايا الحكم حول رئاسيات 2014، إذا ما كان بوتفليقة قد يترشح من جديد لخلافة نفسه، فما الذي جرى ويجري بالفعل؟! وما هي السيناريوهات المحتملة لمعركة الرئاسيات التي لا تزال لعبتها الحقيقية طي المجهول والمضاربات؟! منذ مجيئ بوتفليقة في العام 1999 إلى الحكم كشف عن الأسلوب الخاص به، ويمكن وصفه بالعقيدة السياسية لبوتفليقة تمثلت عناصره في تنمية النزعة البونابرتية وتعني العمل على مركزة السلطة بين أيدي الرئيس وإضعاف مراكز أخرى للقرار وإعادة النظر في آليات التعددية التي حاول تأطيرها في ثلاثة تيارات أساسية تتمثل في التيار الوطني كتيار مركزي، والتيار الإسلامي المعتدل القريب من التيار الوطني ثم في آخر سلم التيار الديمقراطي شبه العلماني، فلقد كان المشهد التعددي الناشىء عن انهيار الحزب الوحيد يتسم بالفوضى والهشاشة التي قادت إلى هيمنة مميتة للتيار الإسلامي الشعبوي الذي شكل تهديدا خطيرا لأسس الجمهورية والعقيدة الوطنية ذات المرجع النوفمبري حسب تصور بوتفليقة، ومن هنا أعلن منذ العهدة الأولى عن عدم رضاه على محتوى الدستور الذي جرد النظام الرئاسي من قوته، ولقد أثارت العقيدة السياسية لبوتفليقة ردود أفعال شتى عبر عنها البعض بالمخاوف تجاه النزعة البونابرتية التي قد تفتح الباب على مصراعيه أمام النزعة التسلطية وإضعاف السلطة المضادة الممثلة في وجود معارضة سياسية قوية، وكان بوتفليقة يدرك حينها أنه يمتلك شخصية كارزماتية قد تساعده على فرض هذه العقيدة السياسية التي انبثقت عشية انقلاب 19 جوان 1965 على يد عصبة وجدة بحيث تمكنت هذه الأخيرة من ترسيخ ثقافة عبارة الدولة المتحلقة حول شخصية الرئيس الكاريزماتية (هواري بومدين)، ولقد تمكن بوتفليقة أن يضع الأسس الجديدة لهذه العقيدة عندما استطاع أن يحقق شعبية لافتة من خلال انتصاره الرمزي في تحقيق المصالحة الوطنية على صعيد سياسي وفتح ورشات اقتصادية كبرى استفادة من ارتفاع سعر برميل البترول والتخلص من تركة الديون الخارجية، وظهر ذلك جليا عندما تحولت الجزائر إلى قلعة أمام رياح الربيع العربي التي هزت العديد من الأنظمة التسلطية العتيدة في كل من مصر، وتونس وليبيا وسوريا واليمن.. وفتح التحالف بين بوتفليقة والمؤسسة الأمنية العسكرية عشية رئاسيات 2004 شهية بوتفليقة لإعادة النظر في الدستور بحيث رفع حاجز العهدات الرئاسية ما جعل خصوم بوتفليقة خاصة في العهدة الثالثة يوجهون إليه أصابع الإتهام أنه ينوي أن يصبح رئيسا مدى الحياة.. وتمكن بوتفليقة حسب منتقديه أن يضعف المعارضة السياسية بحيث جعلها مكتوفة الأيدي وضعيفة وذلك خاصة بعد مرض الانشقاقات الذي استفحل في جسد التيارات الكبرى، بحيث انقسم الإسلاميون على أنفسهم، وكذلك الأمر بالنسبة للديمقراطيين، بحيث تقزم حجم اليسار ولم يعد له وزن داخل الساحة السياسية وانسحب سعيد سعدي من على الواجهة، على الأقل ظاهريا وأضحى الأرسيدي بزعامة ضعيفة ولم يعد صوته مسموعا حتى داخل منطقة القبائل، معقله التقليدي، وكذا الشأن بالنسبة للزعيم التاريخي للأفافاس الذي انسحب من على رأس الحزب بسبب العمر لكن كذلك اليأس من استراتيجيته الصلبة التي لم تحقق الثمار المرجوة بحيث أضحى الأفافاس مجرد حزب شاحب غير مسموع الصوت كما كان سابقا وعلى مستوى الشخصيات الرمزية انكفأ حمروش على نفسه ورحل عبد الحميد مهري عن عالمنا، في حين التحق كل على طريقته ممن كانوا يعدون على صف الجيل الجديد من المعارضة، مثل عمارة بن يونس الذي اصطف إلى جانب بوتفليقة ولويزة حنون التي راحت تلعب دورا ديماغوجيا يقوم على معارضة لفظية أكثر منها معارضة جدية، فلقد زكت سياسة بوتفليقة وتحولت إلى مناضلة ضد المعارضة بالوكالة وهذا ما جعلها أقرب أكثر إلى بوتفليقة منها إلى المعارضة أو ما تبقى منها.. فهم المنضوون تحت عقيدة بوتفليقة مضمون خطابه بمناسبة 8 ماي 1945 عندما صرح أن "جناننا طاب" أنه سوف لن يتقدم إلى عهدة رابعة وذلك ما فتح شهيتهم لخلافته وكان أحمد أويحيى رئيس حكومته وبلخادم الأمين العام للأفالان من أهم هؤلاء الذين كانوا يرون أنفسهم مؤهلين لخلافة بوتفليقة، وكانت التشريعيات السابقة التي سبقت عطلة الرئيس المرضية الطويلة الفرصة الكبرى لأن يضعوا خلالها موقع قدمهم على الطريق المؤدية إلى قصر المرادية.. فنزل أويحيى إلى الميدان معتمدا على كاريزماتيته وعلى الخطاب الجديد الذي بلوره، ولقد أدرك أنه يخوض امتحانا عسيرا للبقاء في السباق، خاصة عندما مالت الإدارة نحو حزب جبهة التحرير الذي يقوده غريمه السياسي عبد العزيز بلخادم.. وكان أحمد أويحيى راضيا على النتائج التي حققها في التشريعيات رغم أن الأفالان عاد من جديد ليكون القوة السياسية الأولى، لكن لا بلخادم ولا أويحيى كانا ينتظران ذاك الربيع المشتبه فيه داخل حزبيهما، بحيث غادر كل واحد منهما مركز القيادة بشكل جارح وصادم ولم ينبه كلاهما أن ثمة سيناريو جديد كان قيد الإعداد، متمثل في نشوء زمرة جديدة كانت تنظر بعين غاضبة ومليئة بالشكوك لكليهما، وكانت هذه الزمرة تبحث عن حلفاء جدد من شأنهم مساعدتها على التخلص من رجلين أصبحا يحلمان أكثر من الحد المتاح.. ولقد وصفت هذه الزمرة سابقا بزمرة السعيديين نسبة إلى شقيق الرئيس الذي يحظى بثقته، وكان يرى أن من واجبه وحقه حماية الأخ والرئيس بوتفليقة من حلفائه التقليديين اللذين قد يتحولان إلى خصمين حقيقيين لا يؤتمن جانبهما.. ولقد فجر مرض الرئيس وعطلته المرضية هذا الصراع ليرمي بثقله على التوازنات التقليدية التي نشأت بشكل خاص منذ العهدة الثانية.. وكانت التغييرات التي مست الكثير من أقوياء الساحة عنوانا صاخبا لتلك الصراعات التي تميزت بالغموض في نظر المراقبين، ومن بين هذه التغييرات التشكيلة الجديدة للحكومة الحالية بحيث تقلد المسؤوليات الحساسة والمرتبطة بأجندة رئاسيات 2014 الأشخاص غير المشكوك فيهم في ولائهم المطلق للرئيس بوتفليقة.. وفي خضم هذا الصراع المعقد تقول بعض المصادر المطلعة إن الزمرة الموالية بشكل جذري لبوتفليقة فتحت بابا لإجراء صفقة مع رئيس الحكومة الأسبق مولود حمروش والأفافاس، وذلك من أجل تجاوز عقبة تقدم بوتفليقة إلى عهدة رابعة مضمونة النتائج، ويكون الأفافاس قد عرض في تفاوضاته السرية عرضا يتمثل في التخلص نهائيا من نفوذ جهاز الإستعلامات وإحداث إصلاحات عميقة داخل المؤسسة الأمنية، وبالتالي إبعادها عن كل تأثير في صناعة القرار السياسي، وهذا ما عبر عنه الأمين العام الحالي لجبهة التحرير الذي يكون قد كلف بهذه المهمة على صعيد الميديا، وظهر ذلك جليا من خلال تصريحاته التي راحت تثني على شخصية آيت أحمد وعلى الأفافاس، وكان المراد من الأفافاس أن يملأ الفراغ الذي تركه موت الحلف الرئاسي وفي الوقت ذاته إضفاء الشرعية والصدقية على رئاسيات 2014 وبالإضافة إلى ذلك، الاستجابة لمطلب الأفافاس القديم وهو التوجه نحو الجمعية التأسيسية التي تقاسمه الرأي فيها التروتسكية السابقة لويزة حنون زعيمة حزب العمال.. وبالنسبة للعرض المقدم لمولود حمروش فلقد تمثل في منصب نائب الرئيس ومن ثمة يكون خليفة بوتفليقة آليا ورجل المرحلة الانتقالية الحقيقية، لكن سرعان ما توصلت المفاوضات إلى طريق مسدود عندما اشترط مولود حمروش رفقة الأفافاس أن يقوم منصب الرئيس على أساس انتخابي وليس على أساس التعيين، لأنه يعتقد، أن ذلك هو الضمانة الحقيقية لأن يخوض مولود حمروش مثل هذه المغامرة.. وحسب هذه المصادر يكون فشل الصفقة قد أعاد المياه إلى مجاريها بين بوتفليقة وحلفائه التقليديين من الدوائر الفاعلة التي قد تلعب دورا إيجابيا في تقدم بوتفليقة إلى عهدة رابعة، واضعة نصب أعينها معادلة الاستقرار التي يوفرها بوتفليقة على حساب كل مغامرة "غير محمودة العواقب". رغم أن رئيس حكومة بوتفليقة الأسبق لم يعلن رسميا عن ترشحه لرئاسيات 2014، لكن كل المؤشرات تشير إلى أن الرجل عازم بقوة على خوض غمار السباق الرئاسي القادم، وجعله صمته الإيجابي يتفوق من حيث الحظوظ على غريميه السابقين أحمد أويحيى وبلخادم.. وكذلك على مولود حمروش الذي بقي وفيا لأسلوبه القديم وهو انتظار الضوء الأخضر من المؤسسة العسكرية والأمنية أو توفير ضمانات بصورة لا يرتقي إليها الشك.. فعلي بن فليس جعلت منه السنوات التي قضاها بعيدا عن أضواء السياسة يتأمل تجربته لعام 2004 بعين نقدية، وفي ذات الوقت إعطاء الإهتمام من حيث الإصغاء لناصحيه من حلقته الضيقة التي ظلت وفية له وذلك ما جعله في علاقة كتلته الخفية داخل الأفالان التي ظلت في حالة كمون وترقب، لكن كذلك في حالة نشاط تكتيكي وتعبوي في انتظار ساعة الحسم، بحيث تمكن من الاستفادة من التصدع داخل أنصار بلخادم من التقويميين ومن الموالين لمولود حمروش الذي تركهم هذا الأخير في حالة يتم وضياع ومن شرائح الغاضبين الذين يشعرون بالحرمان والخيبة لعدم إشراكهم مقابل تحولهم لجزء من الطورطة، وإذا ما صدقنا بعض المطلعين على خبايا الأفالان، تمكن علي بن فليس أن يضع الموالين له داخل المكتب السياسي للأفالان بحيث أضحوا يشكلون الكفة الغالبة وحتى عمار سعيداني الذي أصبح على رأس الأفالان ومحسوبا على الموالين لبوتفليقة حافظ على علاقاته بمحيط علي بن فليس وفي أي لحظة عسر قد يسعى إلى ترجيح الكفة لصالح جناح بن فليس في اللحظة الحاسمة.. وهو إلى جانب كل ذلك قد أدرك بن فليس أن هذه القوة المشكلة من الأنصار الأوفياء ومن الشتات الذي راح يستقطبه وفي الوقت ذاته من الأوعية التقليدية والجديدة والمشكلة من المنتمين إلى مختلف العائلات السياسية الوطنية والإسلامية والديمقراطية كلها قد تصب في نهره، وهذا لمنحه الثقة أنه يمتلك على الأرض في ظل الجمود العام داخل الساحة السياسية قوة معتبرة قد تجعل منه قوة منافسة للرئيس بوتفليقة، خاصة وأن هذا الأخير أصبح المرض يحول بينه وبين حيويته التي عهده الجزائريون عليها.. ويراهن علي بن فليس حسب المقربين منه على عامل الزمن حتى وإن كان هذا العامل شحيحا وضيقا أن تكون حملته الإنتخابية قوية وذات تأثير على وجهة تغير ميزان القوة، وهذا ما يمكن بدوره أن يفتح الباب أمام سيناريوهات تمليها الوقائع الطارئة ومستجدات اللحظة، بحيث يصعب التلاعب بنتائج الانتخابات وحتى إذا ما حدث ذلك، فإن الوضع يكون مختلفا كونه يقضي على التسليم بالأمر الواقع ويحدث ثقوبا كبيرة في حالة الجمود المكبلة للطاقات الصامتة.. لكن خصوم بن فليس يستبعدون مثل هذا السيناريو ويشككون في قدرة بن فليس التوجه نحو خط المعارضة الراديكالية باعتباره رجلا غير مجازف وابنا للنظام في نهاية المطاف... ظل الأفالان ولعقود طويلة يشكل الذراع الانتخابية لمرشحي الحكم وذلك رغم الانقسامات الداخلية التي عرفها هذا الحزب التليد منذ عهد التعددية الحزبية، فلقد قام شبان أكتوبر في 1988 بحرق مقراته وتعرض لهجومات لا سابق لها من قبل أبنائه المتمردين والمنشقين، لكنه جدد للشاذلي بن جديد عهدة في 1989، وتعرض لهزات عميقة إثر فوز الإسلاميين بأول انتخابات محلية عام 1990 وأول انتخابات تشريعية في العام 1992 ما جعله ينقسم إلى تيارين، تيار موال للراحل عبد الحميد مهري ومولود حمروش وتيار موال لأصحاب القرار وانشق عليه من صلبه تيار اتخذ عنوانا جديدا وهو الأرندي، إلا أنه ظل محافظا على تواجده داخل السلطة وعنوانا لاستقرار واستمرار النظام، وكان بمثابة العمود الفقري لدى عودة بوتفليقة إلى الحكم ومر بأكبر فتنة داخلية في رئاسيات 2004 إلا أنه ظل محافظا على تماسكه وقوته الرمزية وعلى قدرته في التعبئة الانتخابية، إلا أن العاصفة المثارة داخله مع فترة عمار سعيداني قد أضعفته بشكل غير مسبوق وحولته إلى قوة غير منتجة للنظام وتركة مسمومة غير موثوق فيها خلال سباق رئاسيات 2014، ومن جهة ثانية يبدو الرهان على بديل له ممثل في حزبي عمارة بن يونس وعمار غول صعبا وشاقا بحكم هشاشة الحزبين الجديدين وعدم توفرهما على ذات الآلة التعبوية التي يحظى بها الأفالان.. كما أن التفريط في آلة الأرندي قد زاد الطين بلة وخلق بدوره أكبر التحديات لأن تلعب العهدة الرابعة في ظل إطار سليم ومتماسك، وهذا ما سيجعل أمام أنصار العهدة الرابعة المهمة شديدة الصعوبة وبالغة التعقيد ومؤلمة بشكل عميق لبوتفليقة الرابع... وتلك هي المعجزة التي قد تسيل في قادم الأيام الكثير من الحبر، وربما الكثير من الصخب...